لقاء مع السيد محمد باقر الصدر
اتجهت بصحبة السيد أبو شبر إلى بيت السيد محمد باقر الصدر وفي الطريق كان يلاطفني ويعطيني بسطة عن العلماء المشهورين وعن التقليد وغير ذلك، ودخلنا على السيد محمد باقر الصدر في بيته وكان مليئا بطلبة العلوم وأغلبهم من الشبان المعممين وقام السيد يسلم علينا، وقدموني إليه فرحب بي كثيرا وأجلسني بجانبه وأخذ يسألني عن تونس والجزائر وعن بعض العلماء المشهورين أمثال الخضر حسين والطاهر بن عاشور وغيرهم، وأنست بحديثه ورغم الهيبة التي تعلوه والاحترام الذي يحوطه به جلساؤه، وجدت نفسي غير محرج وكأني أعرفه من قبل واستفدت من تلك الجلسة إذ كنت أسمع أسئلة الطلبة وأجوبة السيد عليها، وعرفت وقتها قيمة تقليد العلماء الاحياء الذين يجيبون عن كل الاشكالات مباشرة وبكل وضوح، وتيقنت أيضا من أن الشيعة مسلمون يعبدون الله وحده ويؤمنون برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إذ كان بعض الشك يراودني والشيطان يوسوس لي بأن ما شاهدته قبل هو تمثيل، وربما يكون ما يسمونه بالتقية، أي أنهم يظهرون ما لا يعتقدون، ولكن سرعان ما يزول الشك وتضمحل تلك الوساوس إذ لا يمكن بأي حال من الاحوال أن يتفق كل من رأيتهم وسمعتهم وهم مئات على هذا التمثيل ثم لماذا هذا التمثيل ؟ ومن هو أنا، وما يهمهم من أمري حتى يستعملوا معي هذه التقية ثم هذه كتبهم القديمة التي كتبت منذ قرون والحديثة التي طبعت منذ شهور وكلها توحد الله وتثني على رسوله
وجاء وقت الصلاة وخرجنا إلى المسجد وكان بجوار البيت وصلى بنا السيد محمد باقر الصدر صلاة الظهر والعصر، وأحسست بأني أعيش وسط الصحابة الكرام فقد تخلل الصلاتين دعا رهيب من أحد المصلين، وكان له صوت شجي ساحر وبعدما أنهى الدعاء صاح الجميع «اللهم صل على محمد وآل محمد» وكان الدعاء كله ثناء وتمجيدا على الله جل جلاله ثم على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وجلس السيد في المحراب بعد الصلاة.
وأخذ بعضهم يسلمون عليه ويسألونه سرا وعلانية وكان يجيب سرا عن بعض الاسئلة التي فهمت أنها تتطلب الكتمان لانها تتعلق بشؤون خاصة، وكان السائل إذا حصل على الجواب يقبل يده وينصرف، هنيئا لهم بهذا العالم الجليل الذي يحل مشاكلهم ويعيش همومهم.
رجعنا بصحبة السيد الذي أولاني من الرعاية والعناية وحسن الضيافة ما أنساني أهلي وعشيرتي وأحسست بأني لو بقيت معه شهرا واحدا لتشيعت لحسن أخلاقه وتواضعه وكرم معاملته، فلم أنظر إليه إلا وابتسم في وجهي وابتدرني بالكلام، وسألني هل ينقصني شيء، فكنت لا أغادره طيلة الايام الاربعة إلا للنوم، رغم كثرة زواره والعلماء الوافدين عليه من كل الاقطار، فقد رأيت السعوديين هناك ولم أكن اتصور بأن في الحجاز شيعة، وكذلك علماء من البحرين ومن قطر ومن الامارات ومن لبنان وسوريا وإيران وأفغانستان ومن تركيا ومن أفريقيا السوداء وكان السيد يتكلم معهم ويقضي حوائجهم ولا يخرجون من عنده إلا وهم فرحون مسرورون، ولا يفوتني أن أذكر هنا قضية حضرتها وأعجبت في كيفية فصلها، وأذكرها للتاريخ لما لها من أهمية بالغة حتى يعرف المسلمون ماذا خسروا بتركهم حكم الله.
جاء إلى السيد محمد باقر الصدر أربعة رجال أظنهم عراقيين عرفت ذلك
ضحكت لهذا التعبير الذي هو سار عندنا أيضا وقلت: سبحان الله ! أنا لا زلت مكذبا ما رأيت، ولولا ما شاهدته بعيني ما كنت لاصدق أبدا، فقال أبو شبر: لا تكذب ياأخي فهذه بسيطة بالنسبة إلى غيرها من القضايا التي هي أشد تعقيدا وفيها دماء، ومع ذلك يحكم فيها المراجع ويفصلونها في سويعات، فقلت متعجبا: إذاً عندكم في العراق حكومتان، حكومة الدولة وحكومة رجال الدين، فقال: كلا عندنا حكومة الدولة فقط، ولكن المسلمين من الشيعة الذين
وعلى هذا الاساس تحل القضايا التي يحكم فيها المرجع في يومها بينما تظل القضايا الاخرى شهورا بل أعواما.
إنها حادثة حركت في نفسي شعور الرضى بأحكام الله سبحانه وتعالى وفهمت معنى قوله تعالى في كتابه المجيد:
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون،... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.. )(1) صدق الله العظيم.
كما حركت في نفسي شعور النقمة والثورة على هؤلاء الظلمة الذين يبدلون أحكام الله العادلة بأحكام وضعية بشرية جائرة، ولا يكفيهم كل ذلك بل ينتقدون بكل وقاحة وسخرية الاحكام الآلهية، ويقولون بأنها بربرية ووحشية لانها تقيم الحدود فتقطع يد السارق وترجم الزاني، وتقتل القاتل، فمن أين جاءتنا هذه النظريات الغريبة عنا وعن تراثنا، لا شك إنها من الغرب ومن أعداء الاسلام الذين يدركون أن تطبيق أحكام الله يعني القضاء عليهم نهائيا، لانهم سراق، خونة، زناة، مجرمون وقتلة.
ولو طبقت أحكام الله عليهم لاسترحنا من هؤلاء جميعا وقد دارت بيني وبين السيد محمد باقر الصدر في تلك الايام حوارات عديدة وكنت أسأله عن كل
____________
(1) سورة المائدة: الآيات 44 - 45 - 47.
سألت السيد الصدر عن الامام علي، ولماذا يشهدون له في الآذان بأنه ولي الله ؟ أجاب قائلا: إن أمير المؤمنين عليا سلام الله عليه وهو عبد من عبيد الله الذين اصطفاهم الله وشرفهم ليواصلوا حمل أعباء الرسالة بعد أنبيائه وهؤلاء هم أوصياء الانبياء، فلكل نبي وصي وعلي بن أبي طالب هو وصيّ محمد، ونحن نفضله على سائر الصحابة بما فضله الله ورسوله ولنا في ذلك أدلة عقلية ونقلية من القرآن والسنة وهذه الادلة لا يمكن أن يتطرق إليها الشك لانها متواترة وصحيحة من طرقنا وحتى من طرق أهل السنة والجماعة، وقد ألف في ذلك علماؤنا العديد من الكتب، ولما كان الحكم الاموي يقوم على طمس هذه الحقيقة ومحاربة أمير المؤمنين علي وأبنائه وقتلهم، ووصل بهم الامر إلى سبه ولعنه على منابر المسلمين وحمل الناس على ذلك بالقهر والقوة، فكان شيعته وأتباعه رضي الله عنهم يشهدون أنه ولي الله، ولا يمكن للمسلم أن يسب ولي الله، وذلك تحديا منهم للسلطة الغاشمة حتى تكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وحتى تكون حافزا تاريخيا لكل المسلمين عبر الاجيال فيعرفون حقيقة علي وباطل أعدائه.
ودأب فقهاؤنا على الشهادة لعلي بالولاية في الاذان والاقامة استحبابا، لا بنية أنها جزء من الآذان أو الاقامة فإذا نوى المؤذن أو المقيم أنها جزء بطل أذانه وإقامته.
والمستحبات في العبادات والمعاملات لا تحصى لكثرتها والمسلم يثاب على فعلها ولا يعاقب على تركها، وقد ورد على سبيل المثال أنه يذكر استحبابا بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، بأن يقول المسلم، وأشهد أن الجنة حق والنار حق وأن الله يبعث من في القبور.
قلت: إن علماءنا علمونا: أن أفضل الخلفاء على التحقيق سيدنا أبوبكر الصديق، ثم سيدنا عمر الفاروق ثم سيدنا عثمان ثم سيدنا علي رضي الله تعالى
لهم أن يقولوا ما يشاؤون، ولكن هيهات أن يثبتوا ذلك بالادلة الشرعية، ثم إن هذا القول يخالف صريح ما ورد في كتبهم الصحيحة المعتبرة، فقد جاء فيها: أن أفضل الناس أبوبكر ثم عمر ثم عثمان ولا وجود لعلي بل جعلوه من سوقة الناس وإنما ذكره المتأخرون استحبابا لذكر الخلفاء الراشدين.
سألته بعد ذلك عن التربة التي يسجدون عليها والتي يسمونها «بالتربة الحسينية» أجاب قائلا:
يجب أن يعرف قبل كل شيء أننا نسجد على التراب، ولا نسجد للتراب، كما يتوهم البعض الذين يشهرون بالشيعة، فالسجود هو لله سبحانه وتعالى وحده، والثابت عندنا وعند أهل السنة أيضا أن أفضل السجود على الارض أو ما أنبتت الارض من غير المأكول، ولا يصح السجود على غير ذلك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يفترش التراب وقد اتخذ له خمرة من التراب والقش يسجد عليها، وعلم أصحابه رضوان الله عليهم فكانوا يسجدون على الارض، وعلى الحصى، ونهاهم أن يسجد أحدهم على طرف ثوبه، وهذا من المعلومات بالضرورة عندنا.
وقد اتخذ الامام زين العابدين وسيد الساجدين على بن الحسين (عليهما السلام) تربة من قبر أبيه أبي عبدالله باعتبارها تربة زكية طاهرة سالت عليها دماء سيد الشهداء، واستمر على ذلك شيعته إلى يوم الناس هذا، فنحن لا نقول بأن السجود لا يصح إلا عليها، بل نقول بأن السجود يصح على أي تربة أو حجرة طاهرة كما يصح على الحصير والسجاد المصنوع من سعف النخيل وما شابه ذلك.
قلت - على ذكر سيدنا الحسين رضي الله عنه - لماذا يبكي الشيعة ويلطمون ويضربون أنفسهم حتى تسيل الدماء وهذا محرم في الاسلام، فقد قال صلى الله عليه وآله: «ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية».
أجاب السيد قائلا: الحديث صحيح لا شك فيه ولكنه لا ينطبق على مأتم
وليس لاخواننا من أهل السنة أن يحكموا على إخوانهم من الشيعة بأنهم مخطئون في بكائهم على سيد الشهداء، وقد عاشوا محنة الحسين وما زالوا يعيشونها حتى اليوم، وقد بكى رسول الله نفسه على ابنه الحسين وبكى جبريل لبكائه.
- قلت ولماذا يزخرف الشيعة قبور أوليائهم بالذهب والفضة وهو محرم في الاسلام ؟.
أجاب السيد الصدر: ليس ذلك منحصرا بالشيعة، ولا هو حرام فها هي مساجد إخواننا من أهل السنة سواء في العراق أو في مصر أو في تركيا أو غيرها من البلاد الاسلامية مزخرفة بالذهب والفضة وكذلك مسجد رسول الله في المدينة المنورة وبيت الله الحرام في مكة المكرمة الذي يكسى في كل عام بحلة ذهبية جديدة يصرف فيها الملايين، فليس ذلك منحصرا بالشيعة.
قلت: إن علماء السعودية يقولون: إن التمسح بالقبور ودعوة الصالحين والتبرك بهم، شرك بالله، فما هو رأيكم ؟ أجاب السيد محمد باقر الصدر:
اذا كان التمسح بالقبور ودعوة أصحابها بنية أنهم يضرون وينفعون، فهذا
فإن السيد شرف الدين من علماء الشيعة لما حج بيت الله الحرام في زمن عبدالعزيز آل سعود، كان من جملة العلماء المدعوين إلى قصر الملك لتهنئته بعيد الاضحى كما جرت العادة هناك ولما وصل الدور إليه وصافح الملك قدم إليه هدية وكانت مصحفا ملفوفا في جلد، فأخذه الملك وقبله ووضعه على جبهته تعظيما له وتشريفا، فقال له السيد شرف الدين عندئذ: أيها الملك لماذا تقبل الجلد وتعظمه وهو جلد ماعز ؟ أجاب الملك، أنا قصدت القرآن الكريم الذي بداخله ولم أقصد تعظيم الجلد ! فقال السيد شرف الدين عند ذلك: أحسنت أيها الملك، فكذلك نفعل نحن عندما نقبل شباك الحجرة النبوية أو بابها فنحن نعلم أنه حديد لا يضر ولا ينفع، ولكننا نقصد ما وراء الحديد وما وراء الاخشاب نحن نقصد بذلك تعظيم رسول الله صلى الله عليه وآله، كما قصدت أنت القرآن بتقبيلك جلد الماعز الذي يغلفه.
فكبر الحاضرون إعجابا له وقالوا: صدقت، واضطر الملك وقتها إلى السماح للحجاج ان يتبركوا بآثار الرسول حتى جاء الذي بعده فعاد إلى القرار الاول - فالقضية ليست خوفهم أن يشرك الناس بالله، بقدر ما هي قضية سياسية قامت على مخالفة المسلمين وقتلهم لتدعيم ملكهم وسلطتهم على المسلمين والتاريخ أكبر شاهد على ما فعلوه في أمة محمد.
وسألته عن الطرق الصوفية فأجابني بايجاز: بأن فيها ماهو إيجابي وفيها ما
الشك والحيرة
كانت أجوبة السيد محمد باقر الصدر، واضحة ومقنعة ولكن أنى لها أن تغوص في أعماق واحد مثلي قضى خمسة وعشرين عاما من عمره على مبدأ تقديس الصحابة واحترامهم وخصوصا الخلفاء الراشدين الذين أمرنا رسول الله بالتمسك بسنتهم والسير على هديهم، وعلى رأس هؤلاء سيدنا أبوبكر الصديق وسيدنا عمر الفاروق، وإني لم أسمع لهما ذكرا منذ قدمت العراق، وإنما سمعت أسماء أخرى غريبة عني أجهلها تماما، وأئمة بعدد إثنى عشر إماما، وإدعاء بأن رسول الله صلى الله عليه وآله قد نص على الامام علي بالخلافة قبل وفاته، كيف لي أن أصدق ذلك.
أي أن يتفق المسلمون وهم الصحابة الكرام خير البشر بعد رسول الله ويتصافقوا ضد الامام علي كرم الله وجهه، وقد علمونا منذ نعومة أظافرنا بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحترمون الامام عليا ويعرفون حقه فهو زوج فاطمة الزهراء وأبوالحسن والحسين وباب مدينة العلم، كما يعرف سيدنا علي حق أبي بكر الصديق الذي أسلم قبل الناس جميعا وصاحب رسول الله في الغار ذكره الله تعالى في القرآن، وقد ولاه رسول الله إمامة الصلاة في مرضه وقد قال صلى الله عليه وآله: لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبابكر خليلا، ولكل ذلك اختاره المسلمون خليفة لهم، كما يعرف الامام علي حق سيدنا عمر الذي أعز الله به الاسلام وسماه رسول الله بالفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل كما يعرف حق سيدنا عثمان
نعم من أجل كل هذا ما كنت لاصدق الشيعة في كل ما يقولون رغم أني اقتنعت بأمور كثيرة، وبقيت بين الشك والحيرة، الشك الذي أدخله علماء الشيعة في عقلي لان كلامهم معقول ومنطقي، والحيرة التي غمرتني فلم أصدق أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ينزلون إلى هذا المستوى الاخلاقي فيصبحون بشرا عاديين مثلنا، لم تصقلهم أنوار الرسالة ولم يهذبهم الهدى المحمدي ؟ يا إلهي كيف يكون ذلك ؟ أيمكن أن يكون الصحابة على هذا المستوى الذي يقول به الشيعة ؟ والمهم هو أن هذا الشك وهذه الحيرة هما بداية الوهن وبداية الاعتراف بأن هناك أمورا مستورة لابد من كشفها للوصول إلى الحقيقة.
جاء صديقي منعم وسافرنا إلى كربلاء، وهناك عشت محنة سيدنا الحسين كما يعيشها شيعته وعلمت وقتئذ بأن سيدنا الحسين لم يمت، فالناس يتزاحمون ويتراصون حول ضريحه كالفراشات ويبكون بحرقة ولهفة لم أشهد لهما مثيلا، فكأن الحسين استشهد الآن، وسمعت الخطباء هناك يثيرون شعور الناس بسردهم لحادثة كربلاء في نواح ونحيب، ولا يكاد السامع لهم أن يمسك نفسه ويتماسك حتى ينهار، فقد بكيت وبكيت وأطلقت لنفسي عنانها وكأنها كانت مكبوتة، وأحسست براحة نفسية كبيرة ما كنت أعرفها قبل ذلك اليوم، وكأني كنت في صفوف أعداء الحسين وانقلبت فجأة إلى أصحابه وأتباعه الذين يفدونه بأرواحهم، وكان الخطيب يستعرض قصة الحر وهو أحد القادة المكلفين بقتال الحسين، ولكنه وقف في المعركة يرتعش كالسعفة ولما سأله بعض أصحابه: أخائف أنت من الموت أجابه الحر، لا والله ولكنني أخير نفسي بين الجنة والنار ثم
بقيت كامل اليوم مقبوض النفس وقد حاول صديقي تسليتي وتعزيتي وقدم إلي بعض المرطبات ولكن شهيتي انقطعت تماما، وبقيت أسأله أن يعيد علي قصة مقتل سيدنا الحسين، لاني ما كنت أعرف منها قليلا أو كثيرا غاية ما هناك أن شيوخنا إذا حدثونا عن ذلك يقولون أن المنافقين أعداء الاسلام الذين قتلوا سيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي هم الذين قتلوا سيدنا الحسين، ولا نعرف غير هذا الاقتضاب بل إننا نحتفل بيوم عاشوراء على أنه من الاعياد الاسلامية وتخرج فيه زكاة الاموال وتطبخ فيه شتى المأكولات وأنواع الاطعمة الشهية، ويطوف الصبيان على الكبار ليعطوهم بعض النقود لشراء الحلويات والالعاب.
صحيح أن هناك بعض التقاليد والعادات في بعض القرى منها أنهم يشعلون النار، ولا يعملون في ذلك اليوم ولا يتزوجون ولا يفرحون، ولكن نسميها عادات وتقاليد بدون ذكر أي تفسير لها، ويروي علماؤنا في ذلك أحاديث عن فضائل يوم عاشوراء وما فيه من بركات ورحمات أنه أمر عجيب !.
زرنا بعد ذلك ضريح العباس أخي الحسين، ولم أكن أعرف من هو وقد روى لي صديقي قصة بطولته وشجاعته، كما التقينا بالعديد من العلماء الافاضل الذين لا أتذكر أسماءهم بالتفصيل سوى بعض الالقاب، كبحر العلوم والسيد الحكيم وكاشف الغطاء وآل ياسين والطباطبائي والفيروزآبادي وأسد حيدر وغيرهم ممن تشرفت بمقابلتهم.
إنه عالم جديد بالنسبة إليّ اكتشفته، أو كشفه الله لي وقد أنست به بعد ما كنت أنفر منه وانسجمت معه بعد ما كنت أعاديه، وقد أفادني هذا العالم أفكارا جديدة وبعث في حب الاطلاع والبحث والدراسة حتى أدرك الحقيقة المنشودة التي طالما راودتني عندما قرأت الحديث الشريف الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله: «افترقت بنو إسرائيل إلى إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي إلى ثلاثة وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة».
فلا كلام لنا مع الاديان المتعددة التي يدّعي كل منها أنه هو الحق وغيره الباطل، ولكن أعجب واندهش وأحتار عند قراءة هذا الحديث، وليس عجبي وإندهاشي وحيرتي للحديث نفسه ولكن للمسلمين الذي يقرؤون هذا الحديث ويرددونه في خطبهم ويمرون عليه مر الكرام بدون تحليل، ولا بحث في مدلوله لكي يتبينوا الفرقة الناجية من الفرق الضالة.
والغريب أن كل فرقة تدعي أنها هي وحدها الناجية وقد جاء في ذيل الحديث: «قالوا من هم يارسول الله ؟ قال من هم على ما أنا عليه أنا وأصحابي» فهل هناك فرقة إلا وهي متمسكة بالكتاب والسنة، وهل هناك فرقة إسلامية تدعي غير هذا ؟ فلو سئل الامام مالك أو أبوحنيفة أو الامام الشافعي أو أحمد بن حنبل فهل يدعي أي واحد منهم إلا التمسك بالقرآن والسنة الصحيحة ؟.
فهذه المذاهب السنية وإذا أضفنا إليها الفرق الشيعية التي كنت أعتقد
فهل يمكن أن يكونوا كلهم على حق كما يدعون ؟ وهذا غير ممكن لان الحديث الشريف يفيد نقيض ذلك، اللهم إلا إذا كان الحديث موضوعا، مكذوبا، وهذا لا سبيل إليه لان الحديث متواتر عند السنة والشيعة، أم أن الحديث لا معنى له ولا مدلول ؟ وحاشى لرسول الله صلى الله عليه وآله أن يقول شيئاً لا معنى له ولا مدلول وهو الذي لا ينطق عن الهوى وكل أحاديثه حكمة وعبر.
إذا لم يبق أمامنا إلا الاعتراف بأن هناك فرقة واحدة على الحق وما بقي فهو باطل، فالحديث يبعث على الحيرة كما يبعث على البحث والتنقيب لمن يريد لنفسه النجاة.
ومن أجل هذا داخلني الشك والحيرة بعد لقائي بالشيعة فمن يدري لعلهم يقولون حقا وينطقون صدقا ! ولماذا لا أبحث ولا أنقب.
وقد كلفني الاسلام بقرآنه وسنته أن أبحث وأقارن وأتبين قال الله تعالى: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا )(1) وقال أيضا: ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الالباب )(2) .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «ابحث عن دينك حتى يقال عنك مجنون» فالبحث والمقارنة واجب شرعي على كل مكلف.
بهذا القرار وبهذه العزيمة الصادقة واعدت نفسي وأصدقائي من الشيعة في العراق وأنا أودعهم معانقا ومتأسفا لفراقهم فقد أحببتهم وأحبوني، وقد تركت أحباء أعزاء مخلصين ضحوا بأوقاتهم من أجلي لا لشيء كما قالوا لا خوفا ولا طمعا، وإنما ابتغاء مرضاة الله سبحانه فقد ورد في الحديث الشريف «لان يهدي
____________
(1) سورة العنكبوت: آية 69.
(2) سورة الزمر: آية 18.
وغادرت العراق بعد قضاء عشرين يوماً في ربوع الائمة وشيعتهم، مرت كأنها حلم لذيذ يتمنى النائم أن لا يستيقظ حتى يستوفيه، غادرت العراق متأسفاً على قصر المدة، متأسفاً على فراق الافئدة التي أهوي إليها والقلوب التي تنبض بمحبة أهل البيت وتوجهت للحجاز قاصداً بيت الله الحرام وقبر سيد الاولين والآخرين صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.
السفر إلى الحجاز
وصلت إلى جدة والتقيت صديقي البشير الذي فرح بقدومي وأنزلني في بيته، وأكرمني غاية الاكرام، وكان يقضي أوقات فراغه معي في النزهة والمزارات بسيارته، وذهبنا للعمرة معا وعشنا أياما كلها عبادة وتقوى، واعتذرت له عن تأخري لبقائي في العراق وحكيت له عن اكتشافي الجديد أو الفتح الجديد، وكان متفتحا ومطلعا فقال: فعلا أنا أسمع أن فيهم بعض العلماء الكبار وعندهم ما يقولون، ولكن عندهم فرقا كثيرة كافرة منحرفة يخلقون لنا مشاكل متعددة في كل موسم للحج.
سألته ما هي هذه المشاكل التي يخلقونها ؟.
أجاب: إنهم يصلون حول القبور، يدخلون البقيع جماعات فيبكون وينوحون ويحملون في جيوبهم قطعا من الحجارة يسجدون عليها، وإذا ذهبوا إلى قبر سيدنا الحمزة في أحد فهناك يقيمون جنازة بلطم وعويل وكأن الحمزة مات في ذلك الحين، ومن أجل كل ذلك منعتهم الحكومة السعودية من الدخول إلى المزارات.
ابتسمت، وقلت له: ألهذا تحكم عليهم بأنهم منحرفون عن الاسلام ؟.
قال: هذا وغيره، أنهم يأتون لزيارة النبي ولكنهم في نفس الوقت يقفون
وذكرني هذا القول بالرواية التي سمعتها من والدي غداة رجع من الحج ولكنه قال بأنهم يلقون القذارات على قبر النبي، ولا شك بأن والدي لم يشاهد ذلك بعينيه لانه قال: شاهدنا جنودا من الجيش السعودي يضربون بعض الحجاج بالعصي ولما استنكرنا عليهم إهانتهم لحجاج بيت الله الحرام: أجابونا بأن هؤلاء ليسوا من المسلمين فهم من الشيعة جاؤوا بالقذارات ليلقوها على قبر النبي، قال والدي: عند ذلك لعناهم وبصقنا عليهم.
وها أنا الآن أسمع من صديقي السعودي المولود في المدينة المنورة بأنهم يأتون لزيارة قبر النبي ولكنهم يلقون النجاسات على قبر أبي بكر وعمر، وشككت في صحة الروايتين، لاني حججت ورأيت أن الحجرة المباركة التي يوجد فيها ضريح النبي وأبي بكر وعمر مغلقة ولا يمكن لاي شخص أن يقترب منها للتمسح على بابها أو شباكها، فضلا على أن يلقي فيها أشياء، أولا، لعدم وجود فجوات وثانيا لوجود حراسة مشددة من الجنود الغلاظ الذين يتداولون على الرقابة والحراسة أمام كل باب وفي أيديهم سياط يضربون بها كل من يقترب أو يحاول أن ينظر داخل الحجرة، والغالب على الظن أن بعض الجنود من السعودية وهم يكفرون الشيعة، رماهم بهذه التهمة ليبرر ضربه لهم، وحتى يستفز المسلمين لمقاتلتهم أو على الاقل ليسكتوا على إهانتهم، ويروجوا إذا رجعوا إلى بلدانهم أن الشيعة يبغضون رسول الله ويلقون على قبره النجاسات، وبذلك يضربون عصفورين بحجر واحد.
وهذا نظير ما حكاه أحد الفضلاء ممن أثق بهم إذ قال: كنا نطوف بالبيت فإذا بشاب «أصابه مغص من شدة الزحام فتقيأ»، وضربه الجنود الذين كانوا يحرسون الحجر الاسود وأخرجوه وهو في حالة يرثى لها واتهموه بأنه جاء بالنجاسة لتوسيخ الكعبة وشهدوا عليه وأعدم في نفس اليوم.
وجالت بخاطري هذه المسرحيات وبقيت أفكر برهة في تعليل صديقي
وما أردت معاندة صديقي والدخول معه في جدال لا طائل من ورائه فاقتصرت على القول: هدانا الله وإياهم إلى صراطه المستقيم ولعن الله أعداء الدين الذين يكيدون للاسلام والمسلمين.
وكنت كلما طفت بالبيت العتيق خلال العمرة وفي كل زيارة لمكة المكرمة، ولم يكن يطوف بها الا نفر قليل من المعتمرين، صليت وسألت الله سبحانه من كل جوارحي أن يفتح بصيرتي ويهديني إلى الحقيقة.
وقفت على مقام ابراهيم (ع) واستعرضت الآية الكريمة ( وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير )(1) صدق الله العظيم.
وبدأت أناجي سيدنا إبراهيم أو أبانا إبراهيم كما سماه القرآن:
- يا أبتاه، يامن سميتنا المسلمين، ها قد اختلف أبناؤك من بعدك فأصبحوا يهودا ونصارى ومسلمين، واختلف اليهود فيما بينهم إلى أحدى وسبعين فرقة واختلف النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، واختلف المسلمون إلى ثلاث وسبعين فرقة وكلهم في الضلالة حسبما أخبر بذلك ابنك محمد وفرقة واحدة بقيت على عهدك يا أبتاه !.
أهي سنة الله في خلقه كما يقول القدرية، فالله سبحانه هو الذي كتب على كل نفس أن تكون يهودية أو نصرانية أو مسلمة، أو ملحدة، أو مشركة، أم أنه
____________
(1) سورة الحج: آية 78.
ياأبانا إبراهيم، لا لوم على اليهود والنصارى الذين عاندوا الحق بغيا بينهم لما جاءتهم البينة، فها هي الامة التي أنقذها الله بولدك محمد وأخرجها من الظلمات إلى النور وجعلها خير أمة أخرجت للناس، فهي الاخرى اختلفت وتفرقت وكفر بعضها بعضا، وقد حذرهم رسول الله ونبههم إلى ذلك وضيق عليهم حتى قال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث» فما بال هذه الامة قد انقسمت وافترقت وأصبحت دويلات يعادي بعضها البعض ويحارب بعضها البعض ويكفر بعضها البعض وحتى لا يعرف بعضها البعض الآخر، فيهجره طيلة حياته، ما لهذه الامة ياأبانا إبراهيم بعد ما كانت خير الامم وقد ملكت الشرق والغرب وأوصلت للناس الهداية والعلوم والمعرفة والحضارة، إذا بها اليوم أصبحت أقل الامم وأذلها فأراضيهم مغتصبة وشعوبهم مشردة ومسجدهم الاقصى تحتله عصابة من الصهاينة ولا يقدرون على تحريره، وإذا زرت بلدانهم فإنك لا ترى إلا الفقر المدقع والجوع القاتل والاراضي القاحلة، والامراض الفتاكة والاخلاق السيئة، والتخلف الفكري والتقني، والظلم والاضطهاد، والاوساخ والحشرات، ويكفيك فقط أن تقارن بيوت الراحة «المراحيض» العمومية كيف هي في أوروبا وكيف هي عندنا، فإذا دخل المسافر إلى المراحيض
____________
(1) سورة يونس: آية 44.
ياإلهي لماذا ابتعدت عن هذه الامة وتركتها تتخبط في الظلمات، لا، لا، أستغفرك ياإلهي وأتوب إليك، فهي التي ابتعدت عنك عن ذكرك، واختارت طريق الشيطان، وأنت جلت حكمتك، وتعالت قدرتك قلت، وقولك الحق: ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين )(1) وقلت أيضا: ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين )(2) .
ولا شك أن ما وصلت إليه الامة الاسلامية من الانحطاط والتخلف والذلة والمسكنة لدليل قاطع على بعدها عن الصراط المستقيم، ولا شك أن القلة القليلة أو الفرقة الواحدة من بين ثلاثة وسبعين، لا تؤثر في مسيرة أمة بأكملها.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله «لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم».
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ربنا لا تزغ قلوبنا
____________
(1) سورة الزخرف: آية 36.
(2) سورة آل عمران: آية 144.
سافرت إلى المدينة المنورة محملا برسالة من صديقي بشير إلى أحد أقربائه لكي أقيم عنده مدة بقائي هناك، وقد كلمه من قبل بالهاتف، واستقبلني هذا الاخير ورحب بي وأنزلني في بيته وتوجهت فور وصولي إلى زيارة رسول الله، فاغتسلت وتطيبت، ولبست أحسن ثيابي وأطهرها، وكان الزوار قليلين بالنسبة إلى موسم الحج فتمكنت من الوقوف أمام قبر رسول الله وأبي بكر وعمر، ولم أكن أتمكن من ذلك في موسم الحج لكثرة الازدحام، وحاوت عبثا أن أمس أحد الابواب للتبرك، فانتهرني الحرس الواقف هناك، وكان على كل باب حرس يحرسه، ولما أطلت الوقوف للدعاء وإبلاغ السلام الذي حملني إياه أصدقائي، أمرني الحراس بالانصراف، وحاولت أن أتكلم مع واحد منهم ولكن دون جدوى.