الصفحة 74
وأن هذه العقيدة كانت شائعة بين عبدة الأصنام القدامى. وإن العبادة على طريق هذه العقيدة تتنافى مع تعليمات المسيح نفسه.

وبالجملة: كان أبو سفيان بن حرب في زمن البعثة يحمل في يده لواء الكفر والشرك والاستكبار في مقابل الحق. ولم يترك طريقاً يقود صاحبه إلى الإيمان بالله ورسوله إلا ووضع عليه العوائق، وكان اليهود يتحصنون في قرى داخل الحجاز. يراقبون ويوسوسون ابتغاء الفتنة وابتغاء إشعال نار الحرب. وكان النصارى في الحجاز وخارجه عاكفين على عقيدة لم يكن المسيح مسؤولاً عنها. وكان بين أهل الكتاب من يبحث عن الحقيقة. وهؤلاء لم تخلوا منهم صحراء الحجاز وما حولها. وكانوا في بلاد الحبشة وبلاد مصر نظراً لأن الكنيسة الأثيوبية والكنيسة المصرية يقفان على أرضية واحدة وتحت ظل واحد. بمعنى: إن نجاشي الحبشة إذا تأثر بشئ. وجدت أثر ذلك في مقوقس مصر.

والخلاصة: لما كان أبو سفيان عضواً أصيلاً في طابور الصد عن سبيل الله. فإن النجاشي كان عضواً أصيلاً في قافلة البحث عن الحقيقة.

وبين ما يمثله أبو سفيان وبين ما يمثله النجاشي. دارت قصة أم حبيبة بنت أبي سفيان.

أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين، فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة، فلما بلغ المشركين. بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم. فذكروا إنهم سبقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، وقالوا: إنه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامهم، زعم أنه نبي، وأنه بعث إليك رهطاً ليفسدوا عليك قومك. فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال: إن جاؤوني نظرت فيما

الصفحة 75
يقولون، فلما قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأتوا إلى باب النجاشي. فقالوا: أستأذن لأولياء الله، فقال: أئذن لهم فمرحبا بأولياء الله، فلما دخلوا عليه سلموا، فقال الرهط من المشركين: ألم تر أيها الملك أنا صدقناك، وإنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها؟ فقال لهم: ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي؟ قالوا: إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة. فقال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ قالوا: يقول:

عبد الله ورسوله وكلمة من الله وروح منه ألقاها إلى مريم، ويقول في مريم: إنها العذراء الطيبة البتول. فأخذ النجاشي عوداً من الأرض وقال:

ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود، فكره المشركون قوله وتغير له وجوههم. فقال: هل تقرؤن شيئاً مما أنزل عليكم؟ قالوا: نعم، قال: فاقرؤوا، فقرؤوا وحوله القسيسون والرهبان. فجعلت طائفة من القسيسين والرهبان. كلما قرأوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق.

وهو قوله تعالى (ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) (1).

وروي أن النجاشي بكى وأسلم. وأسلم معه خاصته. وروي أنه خرج من بلاد الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما عبر البحر توفي. وروي عن سعيد بن جبير: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفرا في سبعين راكباً إلى النجاشي يدعوه. فقدم عليه ودعاه فاستجاب له وآمن به، فلما كان عند انصرافه. قال ناس ممن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلاً: أئذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم به، فقدموا مع جعفر، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة. استأذنوا رسول الله صلى الله عليه

____________

(1) سورة المائدة آية 82.

الصفحة 76
وسلم وقالوا: يا نبي الله إن لنا أموالاً ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة. فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها، فأذن لهم، فانصرفوا، فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين. فأنزل الله تعالى فيهم (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين. أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة. ومما رزقناهم ينفقون.

وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) (1) فكانت النفقة. التي واسوا بها المسلمين، فلما سمع أهل الكتاب مس لم يؤمن بالله ورسوله. قوله تعالى (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) فخروا على المسلمين. فقالوا: يا معشر المسلمين. أما من آمن منا بكتابنا وكتابكم فله أجران. ومن آمن منا بكتابنا فله أجر كأجوركم. فما فضلكم علينا؟ فنزل قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به. ويغفر لكم والله غفور رحيم. لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شئ من فضل الله) (2) فجعل لهم أجرين. وزادهم النور والمغفرة.

ثم قال (لئلا يعلم أهل الكتاب) (3).

وبالجملة: واجهت الدعوة الاضطهاد من قريش ومن معهم من القبائل في جزيرة العرب. وواجهت فتنة التأويل التي سهر على إشعالها صناديد قريش. وحمل وقودها أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

____________

(1) سورة القصص آية 53.

(2) سورة الحديد آية 28.

(3) تفسير الميزان 176 / 19.

الصفحة 77

زواجها:

كان أهل الكتاب قد رفعوا لافتة تحمل كل معاني الفتن. وقالوا: يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابنا وكتابكم فله أجران. ومن آمن منا بكتابنا فله أجر كأجوركم. فما فضلكم علينا؟ وانطلقت هذه الفتنة حتى استقرت في الجزيرة وما حولها وفي الحبشة وغيرها. ورد الله كيدهم إلى نحورهم وأنزل آيات بينات وأخبر على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أن الإيمان بالرسالة الخاتمة شرط لنيل رضا الله تعالى.

وروي أن عبيد الله بن جحش زوج أم حبيبة لم يستمع ولم ينصت لصوت الحجة الدامغة. وسلك في الفتنة التي تصد عن سبيل الله. فعن أم حبيبة قالت: رأيت في المنام كأن عبيد الله بن جحش زوجي بأسوء صورة وأشوهه. ففزعت فقلت: تغيرت والله حاله. فإذا هو يقول حين أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في الدين فلم أر ديناً خيراً من النصرانية. وكنت قد دنت بها. ثم دخلت في دين محمد. ثم رجعت إلى النصرانية. فقلت:

والله ما خير لك. وأخبرته بالرؤيا التي رأيت له. فلم يحفل بها وأكب على الخمر حتى مات. فرأيت في النوم كأن آتياً يقول لي: يا أم المؤمنين.

ففزعت وأولتها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجني. قالت: فما هو إلا أن أنقضت عدتي. فما شعرت إلا برسول النجاشي على بابي يستأذن. فإذا جارية له يقال لها (أبرهة) كانت تقوم على ثيابه ودهنه.

فدخلت علي. فقالت: إن الملك يقول لك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجك. فقلت: بشرك الله بخير. وقالت: يقول لك الملك وكلي من يزوجك. فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته.

وأعطت أبرهة سوارين من فضة وخدمتين كانتا في رجليها وخواتيم فضة كانت في أصابع رجليها سروراً بما بشرتها به. فلما كان العشى أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن هناك من المسلمين فحضروا. فخطب

الصفحة 78
النجاشي. فقال: الحمد لله. الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار. الحمد لله حق حمده وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام. أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان. فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد أصدقها أربعمائة دينار. ثم سكب الدنانير بين يدي القوم. فتكلم خالد بن سعيد. فقال: الحمد لله. أحمده وأستعينه وأستنصره وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد إن محمداً رسوله. أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. أما بعد: فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان.

فبارك الله لرسوله. ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها ثم أرادوا أن يقوموا. فقال: أجلسوا فإن سنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا تزوجوا أن يؤكل الطعام على التزويج. فدعا بطعام. فأكلوا ثم تفرقوا. قالت أم حبيبة: فلما وصل إلي المال. أرسلت إلى أبرهة التي بشرتني. فقلت لها:

إني كنت أعطيتك ما أعطيتك يومئذ ولا مال بيدي. وهذه خمسون مثقالاً فخذيها فاستعيني بها. فأخرجت إلي حقة فيها جميع ما أعطيتها فردته إلي. وقالت: عزم علي الملك أن لا أرزأك شيئاً. وأنا التي أقوم على ثيابه ودهنه. وقد ابتعت دين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسلمت لله.

وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر. فلما كان الغد جاءتني بعود وورس وعنبر كثير. وقدمت بذلك كله على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يراه على وعندي فلا ينكر. ثم قالت أبرهة:

فحاجتي إليك أن تقرئي رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام.

وتعلميه إني قد أتبعت دينه. قالت: ثم لطفت بي. وكانت هي التي جهزتني. وكانت كلما دخلت علي تقول: لا تنسي حاجتي إليك. قالت:

فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أخبرته كيف كانت

الصفحة 79
الخطبة. وما فعلت بي أبرهة. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأقرأته منها السلام. فقال: وعليها السلام ورحمة الله وبركاته (1).

وعن عبد الواحد بن عون قال: لما بلغ أبا سفيان بن حرب نكاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته قال: ذاك الفحل لا يقرع أنفه (2).

وبالجملة: بعثت قريش البعوث إلى الحبشة للصد عن سبيل الله.

وحمل الذين كفروا من أهل الكتاب الفتن التي تعوق تقدم الدعوة.

وتكاتف هؤلاء مع هؤلاء. ولا ندري هل كان عبيد الله بن جحش زوج أم حبيبة حلقة في هذه الدوامة التي تشكك في دين الله وتعبئ الصدور بالحق على الذين آمنوا. وهل كان أبو سفيان يجهز لثقافة تتفق مع ثقافة التشكيك التي قام بها أهل الكتاب. مستنداً على ما قام به عبيد الله بن جحش. وهل كان في جعبة أبي سفيان بعض قصص التشكيك في دين الله وكان يعد العدة لنشرها حول أم حبيبة بعد ارتداد زوجها؟ وعلى أي حال فلقد رد الله كيد أعداء الدين إلى نحورهم. وكان زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأم حبيبة سكن لها وتطييب لخاطرها. وكان فيه إغلاقاً لأبواب الفتن. وكان فيه ضربة قوية لأصحاب العقول الماكرة والصدور الحاسدة.

وفاتها:

قال أبو عمر: توفيت أم حبيبة سنة أربع وأربعين. وعن علي بن الحسين قال: قدمت منزلي في دار علي بن أبي طالب عليه السلام.

فحفرنا في ناحية منه. فأخرجنا منه حجراً. فإذا فيه مكتوب: هذا قبر رملة بنت صخر. فأعدناه مكانه (3).

____________

(1) رواه الحاكم (المستدرك 21 / 4)، الإستيعاب 441 / 4، الإصابة 305 / 4، الطبقات الكبرى 97 / 7.

(2) رواه الحاكم (المستدرك 22 / 4).

(3) الإستيعاب 306 / 4.

الصفحة 80

9 - السيدة جويرية بنت الحارث

نظرات في منطلقات الدعوة:

هي: جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن مالك بن جزيمة، وجزيمة هو المصطلق من خزاعة. تزوجها مسافع بن صفوان. فقتل يوم المريسيع (1).

بعث الله تعالى رسوله الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام.

وكليات هذا الدين موجودة في فطرة الإنسان. لهذا كانت الفطرة حجة بذاتها على الإنسان. لأن ينبوع دين الله فطرة الإنسان نفسه. والفطرة لا تتبدل أبداً لأنها من شهود الله يوم القيامة. وإنما يخطئ الإنسان في استعمالها. وعندما يتراكم الخطأ يفتقر الإنسان إلى الفطرة السليمة. ولازم ذلك عدم تعادل قواه الحسية الداخلية. ويستوجب ذلك اتباع الإنسان للواقع الذي يجده في الخارج. بمعنى: يتبع العقيدة التي تحقق له مطامعه وأهوائه وشهواته. ومن هنا أقام الله تعالى حجته على خلقه ببعث الأنبياء والرسل ومعهم الشريعة التي ترفع هذه الأثقال عن الناس وتسوقهم إلى صراط الله العزيز الحميد، والشريعة الإسلامية بصائر للناس يميزون بها أي

____________

(1) الطبقات الكبرى 116 / 7.

الصفحة 81
الطرق يسلكونها لتؤدي بهم إلى الحياة الطيبة في الدنيا والسعادة في الآخرة. والباحث المنصف لا يمكن أن يقر قول البعض: إن الإسلام دين السيف. فكيف يقوم دين شعاره الاجتماعي هو اتباع الحق في الفكر والعمل على السيف والدماء وفرض الجهل والتخلف على العباد.

إن الله تعالى جهز الإنسان بقوة الغضب والشدة والقوة الفكرية التي تستخدم في مواقع الدفاع والدفاع حق مشروع ولقد دعا القرآن بإعداد العدة الدفاعية. والإسلام في جميع معاركه التي خاضها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. كان ينطلق من دائرة الدفاع. ولقد أمر الله تعالى بالتجهيزات الحربية. وأمر تعالى بالحرب. وبين أمور أوجب الله تعالى رعايتها في الحروب الإسلامية حينما يواجه المسلمون جيش العدو.

وبالجملة: الدين الخاتم طريقة خاصة في الحياة. تؤمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي الحياة الدائمة الحقيقية. وهذا الدين ليس إجبارياً. وعدم الإكراه في الدين أصيل في الكون. والدعوة الخاتمة أعلنت أن لا إكراه ولا إجبار من أحد لغيره على الدخول في دين الله. لأنه قد تبين الرشد من الغي. فمن كفر بعد هذا الإعلان فليتحمل نتيجة كفره.

وأعلنت الدعوة أن من يكفر بكل معبود سوى الله تعالى ويخلع الأنداد والأوثان ويؤمن بالله إيماناً حقاً. فقد ثبت أمره واستقام مع الطريقة المثلى التي لا انقطاع لها. وأمسك من الدين بأقوى سبب وأحكم رباط. وأمام إعلان الدعوة الخاتمة تكاتفت قوى الطاغوت لفرض عبادة الأنداد والأوثان على عباد الله. متخذين كل وسيلة لتحقيق هذا الهدف.

ومؤسسات الصد عن سبيل الله. بدأت تمارس أعمالها منذ بعث الله تعالى رسوله الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ومن مشاهير الأحداث بعد بعث الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم. اضطهاد المشركين للذين آمنوا. ثم إخراجهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة. والهجرة أبلغ

الصفحة 82
دليل على أن الإسلام لم يقف يوماً على أرضية المعتدي. وبعد الهجرة تكاتفت قريش لاستئصال المسلمين. فكانت غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة. ثم غزوة أحد في السنة الثالثة، وفي السنة الرابعة من الهجرة نشطت أجهزة ومؤسسات الصد عن سبيل الله. فكانت أكثر من غزوة منها الغزوة المعروفة بذات الرقاع. وغزوته صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليهود من بني النضير. وغزوته إلى بني المصطلق. وفي هذه الغزوة تم سبي جويرية بنت الحارث سيد هذا البطن من خزاعة. وكان زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جويرية بنت الحارث. أحد الأسباب الرئيسية التي قصمت ظهر جبهة الحرب التي كان أبو سفيان يعتمد عليها للصد عن سبيل الله. كما سيأتي. وفي السنة الخامسة كانت غزوة الخندق وغزوة اليهود من بني قريظة، وفي السنة السادسة كان صلح الحديبية الذي جاء على خلفية تصدع جبهة أبو سفيان بعد الغزوة إلى بني المصطلق، وبعد هذا التصدع وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرسل إلى كسرى وهرقل، وفي السنة السابعة كانت غزوة خيبر. وفيها جاء وفد المقوقس ومعه مارية القبطية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغير ذلك من هدايا المقوقس إليه. وفيها أيضاً كان قدوم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة. ومعه أولاده وزوجته وغيرهم من المسلمين مس كان بأرض الحبشة، وفي السنة الثامنة استشهد جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة بأرض مؤتة من أرض البلقاء من أرض الشام وأعمال دمشق في وقعتهم مع الروم، وفي سنة ثمان من الهجرة كان افتتاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة. وفيها أيضاً كانت غزوة حنين وغزوة الطائف. وفي سنة تسع حج أبو بكر بالناس. وقرأ علي بن أبي طالب عليهم سورة براءة وأمر ألا يحج مشرك. وأنه لا يطوف بالبيت عريان، وفي سنة عشر حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع، وفي سنة إحدى عشر من الهجرة كانت وفاة النبي الأمي العربي القرشي

الصفحة 83
الهاشمي المكي المدني صلى الله عليه وآله وسلم (1).

والباحث المنصف إذا تدبر في أسباب هذه الغزوات وغيرها في أصول أهل التواريخ والسير. لا يسعه إلا أن يقر بأن قتال الإسلام انطلق من دائرة الدفاع في المقام الأول. وإن هذا القتال كان حجة على البعض وامتحان وابتلاء للبعض الآخر، وبين دائرة الحجة ودائرة الامتحان والابتلاء فاز الشهداء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

زواجها:

وإذا تدبرنا في الأحداث. وجدنا أن زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجويرية بنت الحارث. قد حقق نتائج لا يحققها إلا جيش كامل العدد والعدة. ذكر ابن كثير: أن بني المصطلق كانوا أكبر بطون خزاعة.

وكانوا حلفاء لأبي سفيان بن حرب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكانوا ذو تأثير كبير على من حولهم من القبائل (2) وكان زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق من الأسباب الرئيسية لتصدع جبهة أبي سفيان بن حرب.

ولقد كان بنو المصطلق ضمن نسيج الصد عن سبيل الله. روى الطبري: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجتمعون له. وقائدهم الحارث بن ضرار أبو جويرية بنت الحارث. فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقول له: المريسيع. من ناحية قديد إلى الساحل. فتزاحف الناس واقتتلوا قتالاً شديداً. فهزم الله بني المصطلق. وقتل من قتل منهم. ونفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم. فأفاءهم الله

____________

(1) أنظر / مروج الذهب / المسعودي 305 / 2.

(2) البداية والنهاية 295 / 5.

الصفحة 84
عليه. وروى الطبري: أصيب من بني المصطلق يومئذ ناس كثير. وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين: مالكاً وابنه. وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث (1).

وذكر ابن هشام في السيرة: لما أنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق ومعه جويرية بنت الحارث. دفع جويرية إلى رجل من الأنصار وديعة. وأمره بالاحتفاظ بها. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء. فرغب في بعيرين منها.

فغيبهما في شعب من شعاب العقيق. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم.

فقال: يا محمد. أصبتم ابنتي وهذا فداؤها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين البعيرين اللذين غيبت بالعقيق في شعب كذا وكذا؟ فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فوالله ما أطلع على ذلك إلا الله تعالى. فأسلم الحارث. وأسلم معه ابنان وناس من قومه. وأرسل إلى البعيرين فجاء بهما. فدفع الإبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودفعت إليه ابنته جويرية. فأسلمت. وخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها فزوجه إياها (2).

وروى الحاكم عن عبد الله بن أبي الأبيض مولى جويرية عن أبيه قال: سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق فوقعت جويرية في السبي. فجاء أبوها فافتداها وأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).

وروي أن خبر زواج النبي صلى الله عليه وآله ذاع بين الناس. فأرسل

____________

(1) تاريخ الأمم والملوك 65 / 3.

(2) سيرة ابن هشام 246 / 4.

(3) رواه الحاكم (المستدرك 27 / 4).

الصفحة 85
المسلمين ما بأيديهم وأعتقوا نحو مائة أهل بيت من بني المصطلق.

وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم (1). وروي عن عائشة قالت: فما نعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها (2).

وبالجملة: كان زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقدمة ترتب عليها إرسال المسلمين ما في أيديهم من سبايا بني المصطلق. وقولهم:

أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى هذه الخلفية انتقل بنو المصطلق من خندق أعداء الدعوة إلى خندق حماية الدعوة. وبدؤوا يمارسون تأثيرهم على القبائل من حولهم ويؤمنون حركة الذين آمنوا وتجارتهم بين القبائل.

وبعد غزوة بني المصطلق تصدعت الجبهة السفيانية. وترتب على هذا التصدع صلح الحديبية. وعلى خلفيته انطلقت الدعوة برسائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى كسرى وقيصر. ثم اكتملت الثمار بفتح مكة.

لقد كان هتاف المؤمنين يوم غزوة بني المصطلق: أصهار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكان هتاف بني المصطلق يوم الحديبية: نحن في عقد محمد وعهده (3). ويمكن القول. إن زواج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان في أول العام السادس الهجري. كان ضربة قوية وجهت إلى ما يدور في عقل الجبهة السفيانية من إثارة الفتن والتشكيك في الدين من تحت لافتة نصرانية وقع في حبائلها عبيد الله بن جحش زوج أم حبيبة بالحبشة. وكان زواجه صلى الله عليه وسلم من

____________

(1) الإستيعاب 260 / 4، ورواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (الزوائد 250 / 9).

(2) رواه الحاكم (المستدرك 27 / 4).

(3) تفسير الميزان 268 / 18.

الصفحة 86
جويرية بنت الحارث آخر العام السادس الهجري. ضربة قوية أخرى أصابت الجبهة السفيانية وتعدتها إلى قبائل أخرى.

وفاتها:

قال أبو عمر: توفيت جويرية سنة ست وخمسين (1). وروي أنها عاشت خمساً وستين سنة (2).

____________

(1) الإستيعاب 261 / 4.

(2) الإصابة 266 / 4.

الصفحة 87

10 - السيدة صفية بنت حيي

تأملات في تابوت السكينة:

هي: صفية بنت حيي بن أخطب بن سعية بن عامر بن عبيد بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير بن النحام بن ينحوم من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران عليه السلام، وأمها برة بنت سموأل أخت رفاعة بن سموأل من بني قريظة إخوة النضير (1).

وقال صاحب الإصابة: هي من سبط لاوى بن يعقوب ثم من ذرية هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام (2) وقال أبو عمر: صفية بنت حيي من سبط هارون بن عمران عليه السلام (3). وذكر ابن كثير في البداية والنهاية عند ذكره قصة موسى عليه السلام. إن تفسير الشريعة الموسوية كان لهارون وبنيه عليه السلام. وإن الله تعالى جعل هذا الحق لهم لا يشاركهم فيه أحد من بقية أسباط بني إسرائيل، والتوراة الحاضرة تقول بهذا (4). ومفسروا أهل الكتاب يقرون بهذه الحقيقة ولا يختلفون عليها.

وذكرت التوراة الحاضرة. أن الله تعالى حدد لهارون وبنيه رداء

____________

(1) الطبقات الكبرى 120 / 7..

(2) الإصابة 346 / 4.

(3) الإستيعاب 346 / 4.

(4) سفر اللاويين 3 / 10.

الصفحة 88
وملابس يلبسونها عند اجتماعهم في خيمة الاجتماع، وهي المكان الذي كان موسى عليه السلام يتعبد فيه ومنها تخرج تفسير الشريعة لبني إسرائيل. مما ورد في ذلك: قال الرب لموسى (تقدم هارون وبنيه إلى باب خيمة الاجتماع، وتغسلهم بماء وتلبس هارون الثياب المقدسة وتمسحه وتقدسه ليكهن لي، وتقدم بنيه وتلبسهم أقمصة وتمسحهم كما مسحت أباهم ليكهنوا لي ويكون ذلك لتصير لهم مسحتهم كهنوتا أبدياً في أجيالهم) (1) وتذكر التوراة إن موسى عليه السلام فعل ما أمر به الله. ومما ورد في ذلك (فقدم موسى هارون وبنيه وغسلهم بماء. وجعل عليه القميص. وألبسه الجبة وجعل عليه الرداء... ووضع العمامة على رأسه... ومسحه لتقديسه... ثم قدم موسى بني هارون وألبسهم أقمصة... كما أمر الرب موسى) (2).

وذكر مفسروا أهل الكتاب. إن المسح على هارون وبنيه يعني تطهيرهم بحيث لا يكون للشيطان فيهم نصيب، لأن من نسلهم يخرج الأنبياء، ولأن هارون وبنوه لهم وحدهم حق تفسير الشريعة. عصمهم الله من الخطأ وجعلهم إسوة حسنة ليقتدي بهم أسباط بني إسرائيل. ومما ورد في التوراة الحاضرة (وكلم الرب هارون قائلاً: خمراً ومسكراً لا تشرب أنت وبنوك معك... للتميز بين المقدس والمحلل وبين النجس والطاهر.

ولتعليم بني إسرائيل جميع الفرائض التي كلم الرب بها بين موسى) (3).

وتذكر التوراة الحاضرة اختلاف بني إسرائيل من بعد موسى وهارون عليهما السلام. وتفرقهم وانقلابهم على أبناء هارون عليهم السلام وقتل الأنبياء والربانيون منهم على امتداد المسيرة الإسرائيلية (4) ولقد أشار القرآن

____________

(1) سفر الخروج 40 / 11 - 15.

(2) سفر اللاويين 8 / 1 - 12.

(3) المصدر السابق. 10 / 8 - 10.

(4) أنظر كتابنا / إبتلاءات الأمم. للمؤلف ط دار الهادي بيروت.

الصفحة 89
الكريم إلى هذا الفساد وأخبر بأنهم اختلفوا وتفرقوا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم.

وعلى امتداد مساحة الافتراق ضاع كثير من الهدى، وبدل وأخفي الأكثر مما ترك آل موسى وآل هارون عليهم السلام، وشاء الله تعالى أن يبعث لهم طالوتاً ملكاً عليهم. لتطوق الحجة أعناق هذه الأجيال المعاندة وكان لطالوت علامات محددة يعرفونه بها. ومنها قوله تعالى (إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة. إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) (1) قال ابن كثير:

عن عطية بن سعد قال: فيه عصا موسى وعصا هارون وثياب موسى وثياب هارون ورضاض الألواح (2).

وبعد ظهور هذه الآيات وغيرها لم تلبث المسيرة الإسرائيلية حتى إختلفت وتفرقت بعد عهد سليمان عليه السلام. وتوارث أنبياء بني إسرائيل ثياب آل هارون على امتداد المسيرة وكانوا يفسرون الشريعة ويقيمون الحجة على امتداد الأجيال حتى بعث عيسى بن مريم عليهما السلام. وكانت مريم من آل هارون من سبط لاوى. (3).

وبعد أن رفع الله المسيح بن مريم عليهما السلام. إحتوى اليهود النصارى بواسطة بولس. وعلى هذه الخلفية حمل اليهود بعض من بقية ما ترك آل موسى وآل هارون. وانتهى هذا الأثر إلى حيي بن أخطب الذي كان يتفاخر على اليهود بأنه من ذرية هارون عليه السلام. وكان اليهود في الحجاز يتباركون بما لديهم من آنية مقدسة تحمل معالم آل موسى وآل هارون.

____________

(1) سورة البقرة آية 248.

(2) تفسير ابن كثير 301 / 1.

(3) أنظر كتابنا إبتلاءات الأمم.

الصفحة 90

حركة اليهود تجاه الدعوة الخاتمة

كانت طوائف من اليهود قد هاجرت من بلادها إلى الحجاز وتوطنوا بها وبنوا فيها الحصون والقلاع. وزادت نفوسهم وكثرت أموالهم وعظم أمرهم. وكان في مقدمة الذين هاجروا كبار الأحبار. وكانت مهمتهم تنحصر في البشارة بالنبي الخاتم الذي يبعثه الله من أرض الحجاز، وعندما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينصت الذين كفروا من بني إسرائيل لصوت الحجة الدامغة. وصدوا عن سبيل الله قال تعالى (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا. فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) (1).

ولما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ودعاهم إلى الإسلام استنكفوا عن الإيمان به، وكان بالمدينة ثلاثة أبطن من اليهود:

بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة. وهؤلاء كانوا يقيمون في قراهم المحصنة. وتفرع من هذه البطون أقوام سكنوا خيبر وفدك ووادي القرى.

وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالح اليهود وعاهدهم بكتاب بينه وبينهم. ولكن اليهود لم يحفظوا العهد ونقضوه. وكان هذا مقدمة لغزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقراهم المحصنة.

وروي أن بني قينقاع نكثوا العهد في غزوة بدر. فسار إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد بضعة وعشرين يوماً من وقعة بدر. فتحصنوا حصونهم فحاصرهم أشد الحصار فبقوا على ذلك خمسة عشر يوماً. ثم نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفوسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم. فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن

____________

(1) سورة البقرة آية 89.

الصفحة 91
يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها. فخرجوا إلى أذرعات الشام ومعهم نسائهم وذراريهم. وقبض منهم أموالهم غنيمة الحرب.

أما بنو النضير. فلقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج إليهم في نفر من أصحابه بعد أشهر من غزوة بدر وكلمهم أن يعينوه في دية رجلين قتلهم عمرو بن أمية القمري. فقالوا: نفعل يا أبا القاسم. أجلس هنا حتى نقضي حاجتك. فخلا بعضهم ببعض. فتآمروا بقتله. واختاروا من بينهم عمرو بن جحاش أن يأخذ حجر فيصعد فيلقه على رأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويشدخه به. وحذرهم سلام بن مشكم وقال لهم: لا تفعلوا ذلك فوالله يخبرن بما هممتم به. وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه.

فجاءه الوحي وأخبره ربه بما هموا به. فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مجلسه مسرعاً وتوجه إلى المدينة. وقال لمحمد بن سلمة الأنصاري: إذهب إلى بني النضير فأخبرهم إن الله عز وجل قد أخبرني بما هممتم به من الغدر. فإما أن تخرجوا من بلدنا وإما أن تأذنوا لحرب.

فقالوا: نخرج من بلادك.

فبعث إليهم عبد الله بن أبي - وكان رأس النفاق يومئذ وكانوا حلفاؤه - لا تخرجوا وتقيموا وتنابذوا محمداً الحرب. فإني أنصركم أنا وقومي وحلفائي. فإن خرجتم خرجت معكم وإن قاتلتم قاتلت معكم، فأقاموا وأصلحوا بينهم حصونهم وتهيئوا للقتال. وبعث حيي بن أخطب ملك بني النضير إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إنا لا نخرج فاصنع ما أنت صانع.

فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكبر وكبر أصحابه.

وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحاط بحصنهم، وغدر بهم عبد الله بن أبي ولم ينصرهم. ولم ينصرهم حلفائهم من غطفان وبني

الصفحة 92
قريظة. وعندما حاصرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد الحصار.

بعثوا إليه: يا محمد نخرج من بلادك فأعطنا مالنا. فقال: لا ولكن تخرجون ولكم ما حملت الإبل. فلم يقبلوا ذلك. فبقوا أياماً. ثم قالوا:

نخرج ولنا ما حملت الإبل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا ولكن تخرجون ولا يحمل أحد منكم شيئاً. فمن وجدنا معه شيئاً من ذلك قتلناه. فخرجوا على ذلك. وروي عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن دمائهم وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم وأن يسيرهم إلى أذرعات بالشام. وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء. فخرجوا إلى أذرعات بالشام وأريحا إلا أهل بيتين منهم: آل أبي الحقيق، وآل حيي بن أخطب. فإنهم لحقوا بخيبر. ولحقت طائفة منهم بالحيرة (1).

أما بنو قريظة. فقد كانوا على الصلح والسلم حتى وقعت غزوة الخندق. وبداية الغدر صنعها حيي بن أخطب رئيس بني النضير الذي سمح له أن ينزل بخيبر. وروي أن حيي بن أخطب كان قد ركب إلى مكة.

وحث قريشاً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وحزب الأحزاب.

وركب إلى بني قريظة وجاءهم في ديارهم يوسوس إليهم ويلح عليهم لنقض العهد ومناجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعندما رضوا بما قاله لهم اشترطوا عليه أن يدخل في حصنهم فيصيبه ما أصابهم فقبل ودخل. فنقضوا العهد ومالوا إلى الأحزاب الذين حاصروا المدينة، ولقد روى كثير من المفسرين غدر بني قريظة وما حدث يوم الخندق منه ما روي عن محمد بن كعب القرظي وغيره من أصحاب السير. قالوا: كان من حديث الخندق. أن نفراً من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب في جماعة من بني النضير الذين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه

____________

(1) تفسير الميزان 207 / 19.

الصفحة 93
وآله وسلم. خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقالوا: إنا سنكون معكم عليهم حتى نستأصلهم. فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود. إنكم أهل الكتاب الأول.

فديننا خير أم دين محمد؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه. فأنتم أولى بالحق منه. فسر قريشاً ما قالوا. ونشطوا بما دعوهم إليه فأجمعوا لذلك واستعدوا له. وفي هؤلاء أنزل الله تعالى (ألم تر إلى الذين أتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً - إلى قوله تعالى - وكفى بجهنم سعيراً).

ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاؤوا غطفان فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبروهم إنهم سيكونون عليه وأن قريشاً قد بايعوهم على ذلك. فأجابوهم فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب. وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصين في فزارة، والحارث بن عوف في بني مرة، ومسعر بن جبلة الأشجعي فيمن تابعه من الأشجع.

وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد. فأقبل طليحة فيمن اتبعه من بني أسد. وكتب قريش إلى رجال من بني سليم فأقبل أبو الأعور السلمي فيمن أتبعه من بني سليم مددا لقريش.

فلما علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرب الخندق على المدينة. وكان الذي أشار إليه سلمان الفارسي ولما فرغ رسول الله من الخندق. أقبلت قريش حتى نزلت بين الجرف (1) والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد. وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى

____________

(1) وكان خارج المدينة.

الصفحة 94
سلع (1) في ثلاثة آلاف من المسلمين. فضرب هناك عسكره. والخندق بينه وبين القوم (2) وبعد أن نجحت دسائس اليهود وتحركت قريش وغيرهم، روي أن حيي بن أخطب النضيري خرج حتى أتى كعب بن أسيد القرظي صاحب بني قريظة. وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قومه وعاهده على ذلك فلما سمع كعب صوت ابن أخطب أغلق دونه حصنه. فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فناداه: يا كعب إفتح لي.

فقال: ويحك يا حيي. إنك رجل مشؤوم. إني قد عاهدت محمداً ولست بناقض ما بيني وبينه. ولم أر منه إلا وفاء وصدقاً. قال: ويحك إفتح لي حمى أكلمك. ففتح له: فقال: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام (3) جئتك بقريش على قادتها وسادتها. وبغطفان على سادتها وقادتها.

قد عاهدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه.

فلم يزل حيي بكعب. يفتل منه في الذروة والغارب (4) حتى سمح له على أن أعطاه عهداً وميثاقاً لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً، أن أدخل معك في حصنك. حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب عهده وبرئ مما كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

9 وفي غزوة الأحزاب أخزى الله تعالى الذين إجتمعوا على قتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي هذه الغزوة قتل علي بن أبي طالب عمرو بن عبد ود. فلم يبق بيت من بيوت المشركين إلا قد دخله وهن بقتل عمرو، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلا وقد دخله عز بقتل

____________

(1) جبل بالمدينة.

(2) تفسير الميزان 300 / 16.

(3) الطام: البحر العظيم.

(4) الذروة والغارب / أعلى الشئ وأصله. مأخوذ من فتل ذروة البعير المصعب وغاربه. لوضع الخطام في أنفه.

الصفحة 95
عمرو. وفي هذه الغزوة بعث الله تعالى على أعدائه ريحاً وجنوداً تفعل بهم ما تفعل. فلم يستمسك لهم بناء ولم تثبت لهم نار ولم يطمئن لهم قدر.

فرجعوا كيدهم في نحورهم ولم ينالوا شيئاً مما تعاهدوا وتكاتفوا عليه.

ولما أنصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخندق وفرغ من أمر الأحزاب. ووضع عنه اللامة واغتسل واستحم. تبدى له جبريل بوحي من الله يأمره بالمسير إلى بني قريظة. فوثب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعزم على الناس أن لا يصلوا صلاة العصر حتى يأتوا قريظة. فلبس الناس السلاح. فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس. واختصم الناس.

فقال بعضهم: إن رسول الله عزم علينا أن لا نصلي حتى نأتي قريظة فإنما نحن في عزمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فليس علينا إثم. وصلى طائفة من الناس احتساباً. وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس فصلوها حين جاؤوا بني قريظة احتساباً. فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحداً من الفريقين.

وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمساً وعشرين ليلة.

حتى أجهدهم الحصار. وقذف الله في قلوبهم الرعب. وكان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت قريش وغطفان. فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم. قال رئيسهم كعب بن أسيد: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثاً فخذوا أيها شئتم. قالوا: ما هي؟

قال: نبايع هذا الرجل ونصدقه. فوالله لقد تبين لكم إنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم. فتأمنوا على دمائكم وأموالكم ونسائكم. قالوا:

لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره.

قال: فإذا أبيتم على هذا فهلموا فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد رجالاً مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتى يحكم الله