الفصل الثالث
الولاية التكوينية للمعصوم
توضيح.. و.. بيان
بـدايـة:
إننا نذكر في هذا الفصل نموذجاً من أقاويل هذا البعض
حول أمور مختلفة ترتبط بالأنبياء والأوصياء.. ثم نعقب ذلك ببيان نحاول
أن يكون واضحاً، وموجزاً في آن واحد لما يقوله علماؤنا حول الولاية
التكوينية للمعصوم، من خلال ما فهموه من نصوص القرآن ومن أحاديث الرسول
وأهل بيته «صلوات الله عليهم أجمعين»، فنقول:
186 ـ
العلاقة الإلهية المميزة بالنبي تقتصر على الوحي.
187 ـ
دور النبي هو تبليغ الوحي للناس كرسالة فقط.
188 ـ
دور النبي: أن يغير العالم في صفته الفكرية والعملية، لا التكوينية.
189 ـ
من يقول بقدرة النبي على التغيير الكوني كمن يقول بلزوم كونه ملَكاً.
190 ـ الإعتقاد بأن الله جعل للنبي
ولاية تكوينية مبعث استغراب.
191 ـ استهجان الاعتقاد بأن النبي يعلم
الغيب دون حدود إذا أراد. (مع وروده في أخبار معتبرة وكثيرة عن أهل
البيت «عليهم السلام»).
192 ـ لا داعي للبحث فيما ليس من
الضروريات في العقيدة والعمل.
193 ـ
ما ليس من ضرورات العقيدة وفروض العمل لا قيمة له عقيدية أو عملية.
194 ـ
بعض العقائد التي تثبت بالروايات الصحيحة قد تكون مما لا قيمة له.
195 ـ
أنبياء يبرزون نقاط ضعفهم البشري بصراحة وتأكيد.
196 ـ
حتى ما يثبت من العقائد بالروايات الصحيحة قد يكون فيه سلبيات (كالغلو،
أو ما يشبه عبادة الشخصية).
197 ـ تحدث القرآن عن الضعف البشري للأنبياء في واقعهم
الداخلي والخارجي.
يقول البعض:
«..كيف يطلب هؤلاء منه أن يقوم بتلك الأعمال الخارقة
التي لا يستطيع أي بشرٍ بقدرته العادية أن يحققها؟! وهل كانت دعوى
النبوة تعني القيام بمثل ذلك، أو تختزن في مضمونها ادعاء القدرات
الغيبية، أو العمق الإلهي الذي يمكنه من تحقيق ذلك؟! لقد كان النبي
يعلن دائما أنه بشر يحمل الرسالة، مما يعني: اقتصار العلاقة الإلهية
المميزة بشخصه، التي يختلف بها عن بقية الناس، على الوحي الذي ينزله
الله عليه ليبلغه للناس كرسالة إلهية، بعيداً عن كل شيء آخر لأن ذلك هو
دور النبي في الحياة، فليس دوره أن يغير صورة العالم في صفته
التكوينية، بل كل دوره أن يغيره في صفته الفكرية والعملية، في حركة
الحياة والإنسان.. حتى المعجزة، فيما كان يقوم به الأنبياء من معاجز لم
تكن غاية في الرسالة، بل كانت وسيلة لمواجهة التحدي الكبير حولها»([1]).
ويقول أيضاً:
«ما هي شخصية الرسول؟! وما هي قدراته؟! هل هو إنسان
غيبي في شخصه، وفي إمكاناته.. هل من المفروض في الرسول الذي يرتبط
بالله من خلال الوحي، أن يكون ـ في طبيعته ـ شخصاً غير عادي، كما هو
الوحي شيء غير عادي في طبيعته.. أو هو إنسان مثل بقية الناس في شخصيته،
وفي قدرته، فلا يملك أن يغير شيئاً من سنن الكون التي أودعها الله في
الحياة، ولا يستطيع أن يكتشف الغيب بخصائصه الذاتية هذه أسئلة كانت
تدور في وعي الإنسان الذي عاصر الرسالات؟! عندما كان يطلب من الرسول
تفجير الينابيع من الأرض القاحلة، والصعود إلى السماء، والإتيان بكتاب
غير عادي منها.. وهذه أفكار لا تزال تعيش في وعي الإنسان المتأخر عن
عصر الرسالات، في اعتقاده بالنبي، كشخصية غيبية في قدراتها، حتى
اعتبرها البعض ذات ولاية تكوينية على الحياة، وعلى الناس فيما جعلها
الله له من ولاية، كما أن الكثيرين يعتقدون، بأنه يعلم الغيب، إذا أراد
من غير حدود.. إلى غير ذلك من الاعتقادات التي أبعدت النبي في تحديد
شخصيتهم عن مستوى شخصية الإنسان في طبيعته وقدرته.
إن الآية التي أمامنا تحدد لنا المسألة، كغيرها من
الآيات المماثلة، من دون فرق بين أن تكون جواباً عن الفكرة التي تتطلب
في النبي، شخصية الملك وبين أن تكون جواباً عن الفكرة التي تتطلب فيه
شخصية القادر على التغيير التكويني للواقع..»([2]).
ويقول في تفسير قوله تعالى: ﴿قُلْ
لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى
إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا
تَتَفَكَّرُونَ﴾([3]):
« وهذه هي الصورة المشرقة الواقعية للشخصية النبوية
التي يريد الله للنبي أن يقدم بها نفسه إلى الناس، فهو لا يريده كائناً
غيبياً يبرز إليهم من خلال الجو الغيبي الضبابي الذي يوحي إليهم
بالأسرار الخفية المقدسة للذات بعيداً عن التصور البشري الطبيعي، ولا
يريد له أن يبدو في نظرهم شخصية أسطورية تملك في حوزتها كل خزائن الله
الذهبية والفضية ونحو ذلك مما يدخل في عالم التقييم المادي بالمستوى
الذي يستطيع أن يغرف منها ما يشاء من المال لمن يشاء من الناس، ولا
يريده إنساناً يقف بين الناس ليتحدث للناس عن أسرارهم الكامنة في
صدورهم وعما ينتظر كل واحد منهم من أحداث المستقبل الخاصة والعامة، على
أساس ما يحمل من علم الغيب الإلهي، كما يتصوّر الكثيرون هذا الدور
لشخصية النبي، كما هي شخصية الكاهن الذي كان يمثل بعضاً من ذلك.. ولا
يريد له الشخصية الملائكية ليأخذ لنفسه دور الملك السماوي الذي يأخذ
بألباب الناس فيدهش العقول بأجنحته المتنوعة المتعددة، وقدرته
الأسطورية الخارجة عن كل حد.. لأن الله يريد للناس أن يؤمنوا به من
خلال رسالته بعيداً عن كل ضغط نفسي أو مادي.. وعن كل ألوان الإغراء
الذاتي، أو الاستعراض الانفعالي، الذي يوحي للإنسان بالانجذاب العاطفي،
والانسحاق الشعوري.. وهكذا أراده أن يقف بينهم عبداً خاشعاً بين يدي
الله، لا يملك أية مقومات ذاتية، كبيرة، أو أية قدرات شخصية مطلقة..
رسولاً أميناً على الدور الذي أوكله الله إليه فهو ينتظر أمر الله
ووحيه في كل صغيرة وكبيرة ليتبعه ويبلغه للناس.. وربما كان الحديث عن
الأتباع موحياً بالصفة المطيعة المتواضعة التي تجسدها شخصيته ليكون في
ذلك بعض الإيحاء لهم بالطاعة لله من خلال الإستغراق في دور العبد
المطيع الذي يتمثل في حركة العبد ـ النبي، ليتمثل ـ من خلاله ـ في
شخصية العبد المؤمن.. وإذا كان التوجه الإلهي يفرض على الرسول أن يقدم
نفسه إلى الناس بهذه الصفة فقد نجد فيه الدرس الفكري الذي يريدنا أن لا
نغرق أنفسنا بالأسرار العميقة التي يريد البعض أن يحيط بها شخصية
النبي، ليحصل له اللون الإيحائي الذي يرتفع به فوق مستوى البشر في
إمكاناته الذاتية، وقدراته الكبيرة.. بل يعمل على أن يربطنا بصفته
الرسالية من حيث أخلاقه وخطواته ومشاريعه المتصلة برسالته.. وذلك هو
السبيل للتعامل مع شخصية الأنبياء، والأولياء، بالأسلوب القريب إلى
الوعي الإنساني العادي، فيما يمكن للإنسان أن يعيشه ويتصوّره ويتمثله
في نفسه، ليشعر بأن النبي قريب منه بصفاته البشرية المثلى التي يمكن أن
تكون أساسا للتمثّل والإتباع والإقتداء.. وفي ضوء ذلك.. نجد في الأبحاث
السائرة في هذا الاتجاه، انحرافاً عن الخط القرآني الذي يرسمه القرآن
للناس في دراستهم لشخصية النبي «صلى الله عليه وآله»..»([4]).
ويقول أيضاً:
«..وقد نستوحي من هاتين الآيتين: أن الأنبياء لا
يتحدثون عن أنفسهم كثيراً للناس ليثيروا في حياتهم الشعور بالتعظيم
والتقديس لهم.. بل هم ـ على العكس من ذلك ـ يعملون على تأكيد جانب
البشرية في ذواتهم بشكل صريح مؤكّد.. ويبرزون نقاط الضعف البشري بطريقة
واضحة..
كما نجد ذلك فيما حكاه الله عن رسوله في حواره مع
المشركين.. الذين طلبوا منه فعل بعض خوارق العادة التي يقترحها للدلالة
على نبوته انطلاقاً من عقيدتهم فيه بأنه مزوّد بطاقات هائلة يستطيع أن
يقوم من خلالها بكل شيء يطلب منه.. فقد أجابهم بقوله: ﴿سُبْحَانَ
رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾([5]).
وفيما حدثنا الله: قل لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني
السوء إن أتّبع إلا ما يوحي إلي ربي.
وهكذا نلاحظ: أن القرآن لم يتحدث عن الأنبياء إلا من
خلال صفاتهم الذاتية المتصلة برسالتهم كما حدثنا عن حركة الرسالة في
حياتهم وما لاقوا من عنت واضطهاد وتشريد.. وعن بعض نقاط الضعف البشري
التي عاشوا في واقعهم الداخلي والخارجي.. من أجل إبعاد الناس عن الضلال
والغلوّ ليظل التصور في العقيدة مشدوداً إلى الواقع، بعيداً عن كل ضروب
الخيال والمثال الذي قد يطوف في أخيلة الكثيرين وأفكارهم».
ثم هو يقول:
الفكرة في خط التربية الإسلامية: «..وقد نحتاج إلى
استيحاء هذا الأسلوب التربوي في دراساتنا وأبحاثنا التي فيها حياة
الأنبياء والأئمة والأولياء، فنستغرق في الجوانب العملية في حركة
الإسلام في حياتهم الشخصية والعامة لنبقى في خط الارتباط بالشخص من
خلال الفكرة والرسالة والعمل، فيزيدنا ذلك ارتباطا بالخط الصحيح
وابتعاداً عن مواطن الخطأ والضلال في الطريق ولا نستغرق في الأسرار
الخفية والغامضة التي يثيرها البعض في حديثه عن هذه الشخصية أو تلك ممن
نعظّم من شخصيات الأنبياء والأولياء. لأن الاستغراق في الجوانب
الضبابية الغامضة التي لا نستطيع فهمها ولا تعقلها قد يؤدي بنا إلى
الإنحراف في التصور أو الوصول إلى درجة الغلوّ..
إن القضية ليست في واقعية هذه الصفات الممنوحة لهذه
الشخصية أو تلك وعدم واقعيتها ليتجه الحديث إلى إثبات صحّة ذلك
بالروايات الصحيحة أو غير الصحيحة، في عملية نقاش علمي طويل بل القضية
هي.. أن ذلك الأمر ليس من ضرورات العقيدة ولا من فروض العمل، فلماذا
نكلف أنفسنا الجهد والتعب في الدخول في أبحاث ليس لها قيمة عقيدية أو
عملية، بل قد تؤدي في بعض الحالات إلى ما يشبه عبادة الشخصية، إذا لم
تؤدِّ إلى الغلو المفرط عصمنا الله من الزلل ووقانا شر الإنحراف عن
الخط الإسلامي في العقيدة والعمل..»([6]).
إن ما نقلناه عن هذا البعض آنفاً من كلام، يتضمن الكثير
من الموارد التي تستحق التوقف عندها، وحيث إن ذلك سيدخلنا في بحوث
مطولة ومتشعبة، فلا بد من الإقتصار على ما لا يخل بالحد الأدنى من
الانسجام في مطالب الكتاب، فنقول:
1 ـ
إن هذا البعض لا يزال يؤكد ـ في كتبه ومحاضراته ـ على أن مهمة الأنبياء
تنحصر في التبليغ والدعوة، وأن كل دورهم هو أن يغّيروا العالم في صفته
الفكرية العملية، لا التكوينية.
2 ـ ثم يدعي هذا البعض: أن الأنبياء بشر عاديون، لا
قدرة لهم على التصرف والتأثير في الأمور التكوينية. وهو يبدي استغرابه
ممن يقول ذلك..
3 ـ إنه لم يزل يستشهد لمقولاته هذه بالآيات التي
تضمّنت التصريح بأن النبي بشر، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ
الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا
زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ
قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي
السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا
كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا
رَسُولًاِ﴾([7]).
ثم هو يضيف:
أن الآيات قد دلت على أن النبي لا يقدر على شيء مما ذكر، وليس لديه
خارج قدرة البشر أي قدرة ذاتية غير عادية.
ولذا لم تنسب الخوارق في القرآن إلى الشخص إلا في
قصة عيسى وإبرائه الأكمه والأبرص، وإحيائه الموتى.
4 ـ
فإذا كانت مهمات الأنبياء هي التبليغ والإرشاد، وفقاً لقوله تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا
وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾([8]).
فإن التصرفات الإعجازية وغير العادية تبقى محصورة في
دائرة التحدي وإثبات النبوة وحاجات التبليغ والدعوة.
ثم يستنتج من ذلك:
أن كل النصوص التي تثبت كرامات أو معجزات أو تصرفات غير عادية للأنبياء
ـ خارج هذا النطاق ـ لا يلتفت إليها، بل تخرج عن دائرة السيرة والتاريخ
الصحيح، أو الذي يمكن أن يكون صحيحاً.
5 ـ
ثم هو تبعاً لذلك لا يرتضي القول: بأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد
يعلم الغيب ـ بلا حدود ـ إذا أراد([9]).
6 ـ
إنه يقول: «من يقول: إن بإمكان النبي أن يمارس التغيير الكوني كمن
يقول: بأن النبي ملَك».
فكلام هذا الرجل يدور حول هذه الأمور التي قدمناها،
ولذلك فإننا سنقتصر على الحديث عنها، فنقول:
إن الآيات التي ذكرت تحدي الناس للرسول بالمطالب
التعجيزية، فلم يستجب النبي «صلى الله عليه وآله» لمطالبهم، لكونه
بشراً وليس ملكاًً، إنما جاءت رداً على ما يزعمونه من لزوم كون النبي
من غير البشر، ولذلك عقب الله تعالى هذه الآيات بقوله: ﴿وَمَا
مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ
قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي
الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا
عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾([10]).
ولأجل هذا نجد:
أنه «صلى الله عليه وآله» لم يستجب لمطالبهم التعجيزية لأن ذلك يعني
ترسيخ اعتقادهم الخاطئ في نفوسهم وإقرارهم عليه بصورة عملية.
علماً أنه قد ثبت في علم الكلام أنه لا يجب على النبي
الاستجابة لكل المطالب من المعاجز الاقتراحية التي يطلبها آحاد أو
جماعات القوم الذين بعث إليهم، ويكفيه في إثبات صدقه معجزته التي
يلقيها من تلقاء نفسه.
إن مهمة الأنبياء لا تنحصر بالتبليغ والدعوة، وإنما
تتجاوز ذلك ليكونوا القادة والذادة والحكام على الناس، المهيمنين على
مسيرة البشرية، حيث يريدون إيصالها إلى الله سبحانه، من خلال تربيتهم
وهدايتهم لها، وحاكميتهم وهيمنتهم على كل شؤونها، في مسيرتها إلى
كمالها، الذي ينتهي بها إلى معرفته سبحانه وتعالى. ولهم إشراف على كل
الواقع الروحي، والعقيدي والتربوي، والسلوكي للأمة، وعلى كل علاقاتها
بأي شيء في هذا العالم، سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة.
ولأجل ذلك: يرفع للإمام «عليه السلام» عمود من نور يرى
فيه أعمال الخلائق. وهذا يحتم أن يكونوا على درجة كبيرة من المعرفة،
وأن يملكوا قدرات وطاقات كبيرة، تتناسب مع حجم المهمة الموكلة إليهم
على مستوى البشرية، بل والعالم بأسره.
والعنصر الأساس والضروري والحساس في هذه الهيمنة
الشاملة هو العلم، وهو الأمر الذي ظهر لنا من قصة داود «عليه السلام».
أنه هو الوسيلة الأعظم تأثيراً في ذلك. وقد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ
آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾([11]).
وقد قال سليمان «عليه السلام»: ﴿عُلِّمْنَا
مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾([12]).
ووصف الله سبحانه داود: بـ ﴿ذَا
الْأَيْدِ﴾([13]).
وقال: ﴿وَشَدَدْنَا
مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾([14]).
بل إن أحد أتباع سليمان «عليه السلام» قد جاء بعرش
بلقيس قبل ارتداد الطرف، بواسطة العلم، قال تعالى: ﴿قَالَ
الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ
أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا
عِنْدَهُ﴾([15]).
وحين فهم سليمان «عليه السلام» كلام النملة: ﴿فَتَبَسَّمَ
ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا﴾([16]).
واعتبر ذلك نعمة إلهية تستوجب الشكر، الأمر الذي يشير إلى أنه هو الذي
فهم قولها بما أنعم الله عليه من معرفة لغات الطير والحيوان وتعلّمه
لها.
كما أن معرفة سليمان «عليه السلام» بوجود عرش بلقيس
لم تكن بواسطة المعجزة بل بواسطة الهدهد.
وتسخير الجبال، والجن، الطير، والريح لآل داود «عليه
السلام»، وحتى لين الحديد لداود «عليه السلام» قد كان ـ فيما يظهر ـ من
خلال المعرفة والعلم، لا لمجرد الإعجاز، وإلا لما كان يحتاج سليمان
«عليه السلام» إلى مراقبة الجن الذين كانوا يعملون له ما يشاء من
محاريب وتماثيل، ولما كان بحاجة إلى تشغيلهم بالبناء، وبالغوص في
البحار لاستخراج خيراتها. فقد كان بإمكانه إيجاد ذلك بالمعجزة، ولم يكن
أيضاً بحاجة إلى أن يقرن شياطين الجن بالأصفاد كما لم يكن بحاجة لتهديد
الهدهد ووعيده، ما لم يأته بسلطان مبين..
وكذلك الحال بالنسبة لموسى «عليه السلام»، فإن الأمر لو
كان يقتصر على الإعجاز المجرد، لم يكن ثمة حاجة إلى ضرب البحر بعصاه،
ولا إلى تحول عصاه إلى ثعبان، بل كان البحر ينفلق وإبطال السحر يتم
بدون ذلك، بصورة إعجازية. فهل كانت هذه الأسباب مجرد أدوات صورية
لتقريب الفكرة إلى الناس؟!
أم كانت شيئاً آخر لم يدركه البعض، فقال ما قال، وكتب
ما كتب؟!
3 ـ المعصوم يعلم إذا أراد:
وأما استغرابه المعبر عن رفضه للقول: بأن النبي يعلم
الغيب ـ بلا حدود ـ إذا أراد (ويلاحظ، أنه أقحم كلمة: بلا حدود لغرض لا
يخفى).
فهو عجيب منه وغريب، فإن من يراجع الروايات الواردة
عن أئمة أهل البيت «عليهم السلام» يجد: أنهم هم الذين صرّحوا بهذا
الأمر، وأعلنوه وأشاعوه، فهو مأخوذ منهم وعنهم، فما هو الوجه في
استغرابه واستهجانه؟!
كما أن طبيعة المهمة الموكلة إليهم تقضي بصحّة ـ بل
بضرورة ـ مثل هذه العلوم لهم، وأن يتمكنوا من الحصول عليها كلما وجدوا
حاجة إلى ذلك..
على أن الحديث عما لديهم «عليهم السلام» من علوم، وعن
كيفية حصولهم عليها هو بحد ذاته من الأمور الغيبية، التي لا سبيل لعقل
البشر إليها، فلا بد من أخذها عنهم «عليهم السلام»، لأنها لا تعرف إلا
من قبلهم.
وملاحظة أخرى نسجلها هنا: وهي أن ما أسماه بـ «الخدمات
غير العادية» لسليمان ولداود «عليهما السلام»، هي من الأمور المعجزة
التي كانت خارج دائرة التحدي وإثبات النبوة وقد نطق بها القرآن الذي هو
معجزة النبي «صلى الله عليه وآله»، خارج نطاق التحدي وإثبات النبوة،
فهل أن حديث القرآن عن غيبيات الأنبياء يعدّ من الحديث الضبابي الذي لم
يفهمه البعض؟!
أما قضية الإسراء، وقضية المعراج ونحوها مما لا يستطيع
ذلك البعض أن ينكره، فليست هذه كلها هي معجزته الرئيسية العامة.
هذا، مع أن كرامات ومعجزات النبي «صلى الله عليه
وآله» والأئمة من بعده، تعد بالعشرات، بل المئات، إلى درجة أن إنكارها
وعدم ثبوتها يفسح المجال أمام إنكار واحدة من واضحات الإسلام. فراجع ما
ينقلونه عنه «صلى الله عليه وآله» من إطعامه «صلى الله عليه وآله»
جيشاً بأكمله قبضة من تمر، أو من شاة، وتسبيح الحصى بيده، وتسليم الشجر
والحجر عليه، وتكليم الحيوانات له، وغير ذلك كثيراً جداً. ولم يكن ثمّة
تحدّ يقتضي المعجزة، ولا كان ثمة ضرورة لإقامة الحجة لإثبات النبوة.
مع تذكيرنا:
بأن المعجزة لا تعني خرق سنن الكون وتغييرها.
أما قولهم:
لم يذكر في القرآن ما ظاهره نسبة الفعل إلى الشخص إلا بالنسبة لعيسى
«عليه السلام»، فلا يمكن قبوله. إذ قد تقدم ما يشير إلى مثل ذلك في آل
داود وغيرهم، بل ثمّة ما يشير إلى ذلك بالنسبة لأحد أتباع سليمان «عليه
السلام» وهو آصف بن برخيا، الذي نسب الإتيان بعرش بلقيس إلى نفسه: ﴿أَنَا
آَتِيكَ بِهِ..﴾([17])..
على أن تعقيب الحديث عن عيسى «عليه السلام» بقوله: ﴿بِإِذْنِ
اللهِ﴾
لا يمنع من نسبة الفعل إلى هذا النبي، واختياره فيه كما اعترف به.. فهي
على غرار قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ
لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾([18])،
مع أن مدار العقاب والثواب، على الإيمان. وكل ذلك يدل على أن قوله
تعالى: ﴿بِإِذْنِ
اللهِ﴾
غير ظاهر الفائدة فيما يرمي اليه البعض، إذ إن كل معجزات وكرامات
الأنبياء صدرت بإذن الله تعالى وكانت من فعلهم واختيارهم. وقول الله
لموسى: ﴿اضْرِبْ بِعَصَاكَ﴾([19])،
أو: ﴿أَلْقِ
عَصَاكَ﴾([20]).
إذن منه تعالى، فلا يختلف الأمر بالنسبة إليه عن عيسى «عليه السلام».
بل ربما كان فعل موسى أظهر في نسبة الفعل إلى صاحبه من
فعل عيسى، لأن موسى لم يأتِ بكلمة بإذن الله مع أنه بإذن الله قطعاً.
وكل ذلك يدل على أن لهم قدرة ذاتية، وهبهم الله إياها،
وهم يتصرفون فيها في الكون، كما يريد الله وفي طاعته سبحانه، ﴿لَا
يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾([21]).
وذلك يؤكد على أن ما يجري ليس لأجل أن لدى الأنبياء
والأئمة قدرات ذاتية بمعزل عن إرادة الله تعالى، كما أن ما يجري على
أيديهم بإذن الله هو فعلهم وباختيارهم، لا أنه فعل الله أجراه على
أيديهم بصورة جبرية، ومن دون أي اختيار منهم.
إننا نستغرب قوله:
إن ما ليس من ضروريات العقيدة ولا من فروض العمل لا قيمة له، لا عقيدية،
ولا عملية.
فإن معنى ذلك:
هو أن تعّرض النبي «صلى الله عليه وآله» والأئمة «عليهم السلام» لها
كان أمراً عبثياً، لا قيمة له ويكون قد ارتكب أمراً جزافاً.
كما أن الإسلام قد طلب من الناس الاعتقاد بها، وحرم
عليهم رفضها وذلك مثل عقيدة الرجعة ونحوها، فهل يصح أن يقال لما هو من
هذا القبيل: إنه لا قيمة له: لا عقيدية ولا عملية؟! وإذا كان البحث في
غير العقائد الضرورية لا قيمة له، فلماذا أفتى بوجوب الإعتقاد بـ
«الرجعة»، مع حكمه بأنها ليست من ضروريات الدين([22]).
ثم قوله بلزوم تأويل أحاديثها كما جاء في مقالته: «مع
الشيخ المفيد في تصحيح الإعتقاد»([23]).
أما قوله بعدم وجود داع للبحث في غير العقائد الضرورية،
فلا نرى حاجة للتذكير بعدم صحته، فإن الكلام المتقدم يكفي لرده، وبيان
بطلانه.
وأما ما ادعاه من أن العلاقة المميزة بين الله وأنبيائه
تقتصر على الوحي، فهو غير صحيح. وكيف نفسر العلاقة المميزة لمريم
«عليها السلام»، مع الله سبحانه، حتى إنها ﴿كُلَّمَا
دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا
قَال يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾([24])..
مع أن مريم ليست من الأنبياء!!
وكيف نفسر قوله تعالى: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ
لِنَفْسِي﴾([25]).
وقوله تعالى:
﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾([26]).
وكيف نفسر تكليم عيسى للناس في المهد وجعله مباركاً
أينما كان؟! وإيتاء يحيى الحكم صبياً؟!
ألا يدل ذلك: على علاقة إلهية مميزة مع كل هؤلاء
الأنبياء «صلوات الله عليهم» خارج نطاق الوحي؟!
وكيف نفسر «الخدمات غير العادية»، التي أعطاها الله
لداود ولسليمان «عليهما السلام»؟! أليست هي الأخرى خارج نطاق الوحي.
وخارج نطاق المعجزة في مقام التحدي؟!
ثم إن هذا البعض قد صرّح بمعارضته للقائلين: بأن
الله قد أعطى الأنبياء والأوصياء القدرة على التصرف في الأشياء
المادية، والهيمنة عليها، وهو ما يعبر عنه بالولاية التكوينية.
وقد صرح أيضاً ـ كما يأتي في فصول لاحقة من هذا
الكتاب وهو متواتر عنه([27])
ـ: بأنه يراها شركاً، وأن القرآن كله دليل على عدم الولاية التكوينية..
وقد ذكرنا هناك بضع نقاط لا تخلو المراجعة إليها من فائدة.
ونحن هنا لا نريد أن نتوسع في الحديث عن هذا الأمر،
لأن ذلك يحتاج إلى وقت طويل، وجهد مستقل ، وإلى مساحة لا يتسع لها، ولا
ينسجم معها هذا الكتاب، بملاحظة طبيعة أسلوبه، وما توخينا معالجته فيه.
ولكننا نذكر القارئ بأمور قد يكون وقوفه عليها
مفيداً وسديداً، فنقول:
المقصود بالولاية التكوينية:
هو المقدرة على التصرف والتأثير في الموجودات المحيطة إلى حد تجاوز
القدرة العادية في التعامل مع النواميس الطبيعية، مثل أن يفجر للناس
ينبوعاً، أو أن يرقى في السماء، أو أن يكلم الحيوان، أو أن تطوى له
الأرض، أو أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين قبل ارتداد الطرف،
أو تحريك الرياح، وما إلى ذلك.
ونحن بغض النظر عما اشتملت عليه الأحاديث الكثيرة من
تفاصيل فيما يرتبط بالولاية التكوينية، نستطيع أن نقرب للقارئ الكريم
هذا الأمر على النحو التالي:
إن الغاية من تأسيس الدول: هو أن تضطلع بمهمات، وتعالج
أموراً، أدرك الناس أنها ضرورية لحياتهم وبقاء وجودهم، فتصدوا
لمعالجتها، وتفادي سلبياتها، وللهيمنة عليها في المجالات التي تعنيهم.
وإذا ألقينا نظرة فاحصة على هذه الأمور فإننا نجد أنها محدودة
جداً، ومحصورة في نطاق خاص، وهو عيّنات قليلة مما يتعامل معه هذا
الإنسان في حياته العملية الجوارحية، فتنشأ الوزارات، والأجهزة،
والمؤسسات العظيمة والواسعة لإنجاز هذا المهم.
ولكنها برغم كل ما توظّفه من إمكانات وقدرات مادية،
وبشرية وفكرية، وغيرها، تبقى عاجزة عن حماية حفنة من التشريعات
والقرارات المحدودة جدا التي تنشؤها، مع أن ما تضطلع به هذه الدول
وتتصدى له ما هو إلا نقطة في بحر بالقياس إلى ما يدخل في نطاق اهتمامات
الإسلام، ويأخذ على عاتقه مهمة التعاطي معه، ويريد أن يفرض نظامه
وهيمنته عليه، وأن يجريه وفق مفاهيمه، ويدخله في أطره ومناهجه، التي
وضعها بهدف إقرار حالة التوازن العام في مسيرة التكامل باتجاه الهدف
الأسمى والأمثل الذي تسعى إليه المخلوقات بحسب مقتضيات خلقتها.
وإن من الواضح:
أن الله قد
خلق هذا الإنسان وأراد له أن يدخل هذا الوجود ليقوم بدور هام فيه، وهو
أن يعرف الله تعالى، ويعبده؛ قال تعالى: ﴿وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾([28]).
وقد أباح له في هذا السبيل أن يعمر هذا الكون، ويتكامل فيه، ومعه، ومن
خلاله، قال تعالى: ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾([29]).
نعم.. إنه أراد له أن ينطلق في هذه الحياة في مسيرة
تكاملية سليمة وقويمة، تستطيع أن تحقق الأهداف السامية من خلقته، وهي
العبودية المطلقة والحقيقية لله سبحانه وتعالى.
هذا مع العلم:
أن ما في هذا الكون ليس جماداً بقولٍ مطلق، وقد دلت الآيات الكثيرة،
والروايات المتواترة: أن لدى الكثير من الموجودات ـ إن لم يكن كلها ـ
درجة من الشعور، تجعل التعاطي معه ذا حساسية معينة.
وذلك كله يستدعي:
رسم ملامح شخصية هذا الإنسان بصورة تتناسب مع الدور الكبير الذي أعده
الله له.
كما أنه يتطلب:
أن يقدم له أطروحة تشتمل على ضوابط ومناهج تحفظه من الزلل والخطأ في
تعاطيه الإيجابي أو السلبي في جميع المواقع والمواضع على أن تكون تلك
المناهج موضوعة من قبل من يملك المعرفة الحقيقية والكافية، ومن له الحق
في ذلك.
كما لا بد من أن يمنحه قدرات وإمكانات تفي بحاجاته،
ويستفيد منها في نطاق انطلاقته في هذه الحياة، وتعاطيه الإيجابي مع كل
ما يحيط به من منطلق المعرفة التي تمكنه من تسخير ما في هذا الكون،
والاستفادة مما أودعه الله فيه من خلال الهيمنة على نواميسه الطبيعية
وتفعيلها، وبث الحياة فيها، وإثارتها، واستكناه الكثير من أسرارها،
وتحريك كوامن هذا الكون وتوظيف ذلك كله في مجال تحقيق الهدف الأسمى
وبناء الحياة، ومساهمته الحقيقية في إعمار هذه الأرض، وفي إسعاد
الإنسان وتكامله، وبإنمائه المطرد في خصائصه الإنسانية، فيما يرتبط
بحالاته الروحية، والنفسية، والفكرية، والعقيدية، فضلاً عما سواها مما
يدخل في تكوينه الإنساني، وله دوره في فاعليته الحياتية، وتأثيره
الإيجابي في كل ما يحيط به.
ومن هنا نجد الإسلام يرصد هذا الإنسان ثم يتدخل في أدق
تفاصيل وجوده وحياته، ومختلف حالاته، وفي كافة شؤونه وعلاقاته، ويواكبه
في حركته نحو الأهداف الإنسانية والإلهية: ﴿يَا
أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا
فَمُلَاقِيهِ﴾([30]).
ويفرض عليه أن يلتزم بضوابط محددة، لأنه يريد من خلال
ذلك كله أن ينشّئه بصورة متوازنة ومتكاملة، تنشئة خاصة، تؤهله للإضطلاع
بدوره الكبير والخطير، وتتوازن وتتكامل مع كل ما سخره الله للإنسان
ليفجر من خلاله ـ وبالإيحاء الصحيح ـ روافد الحياة في هذا الكون
الفسيح، فيشرع له في جميع ميادين الحياة ما يعينه على السير في هذه
الطريق.
ولأجل ذلك:
نجده يتدخل حتى في أفكاره ونواياه، ويلاحقه حتى في خياله الرحب، بل حتى
في خطرات قلبه وأوهامه، فضلاً عن طموحاته وأحلامه..
فهو يريد منه:
أن يكون عطوفاً رحيماً في موضع. وقاسياً وحازماً بل وغليظاً: ﴿وَلْيَجِدُوا
فِيكُمْ غِلْظَةً﴾([31])
في موضع آخر.
ثم هو يريده:
أن يحب تارةً، وأن يبغض أخرى. وأن يتراجع في موضع، وأن يكون شجاعاً
مقداماً في موضع آخر. وأن ينطلق في خياله في حالة، وأن يمحو حتى الصورة
التي كان حضورها عفوياً في حالة أخرى.
إنه يريد:
أن يرافق الإنسان في كل موقع، وفي كل مجال، وأن يكون هو القائد والرائد
وله كلمة الفصل، في كل صغيرة وكبيرة من قضاياه.
ومن جهة أخرى:
إنه تعالى حين سخّر هذا الكون كله لخدمة هذا الإنسان،
ليستعين بما أودعه الله فيه على تحقيق أهدافه، وأراد له أن يعمر الأرض،
فإنما أراد أن يتم ذلك من خلال شخصيته الإنسانية التي نمت وتكاملت
وتتكامل بعين الله ورعايته وتربيته.
وأراد أيضاً لهذا التسخير:
أن ينبسط على مساحات شاسعة على هذا الكون الفسيح من موقع الهيمنة على
نواميسه وتفعيلها إيجابياً في نطاق إعماره، واستكناه الكثير من
أسراره..
على أن يتم ذلك كله من موقع الرعاية الإلهية المتمثلة
بمقام الإمامة والنبوة التي تقف في موقع الرصد الدقيق، والمعرفة
الواعية، والهادية، والقادرة على التدخل الحقيقي حيث تمس الحاجة إلى
ذلك..
وذلك ينتج:
أنه لا بد من تزويد النبي «صلى الله عليه وآله» والإمام «عليه السلام»
الهادي والمهيمن على المسيرة بحاجاته ووسائله المؤثرة في نجاحه، وفي
نجاح المهمة الموكلة إليه، فلا يتعاطى مع الأمور من موقع القاصر في
معارفه وفي إمكاناته، لأن ذلك يجعل دوره دور الواعظ لا دور المربي
والراعي، ولا دور المهيمن والحاكم الذي أنزل الله معه الحديد فيه بأس
شديد، ليقوم الناس بالقسط..
قال تعالى: ﴿لَقَدْ
أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ
الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ
اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾([32]).
فلا غرو إذن، في أن يعرف الأنبياء والأئمة لغات البشر،
بل أن يعرفوا حتى لغات الطير والحيوان وغيرها.. بل لقد كان الحجر
والشجر يكلمهم «عليهم الصلاة والسلام»، ويسبح الحصى في أيديهم..
ولا غرو أيضاً:
أن تطوى لهم الأرض ليذهب الإمام السجاد «عليه السلام» من الكوفة إلى
كربلاء لدفن أجساد الشهداء، بمعونة قبيلة بني أسد([33])،
ويأتي أمير المؤمنين علي «عليه السلام» بسرعة خاطفة من المدينة في
الحجاز إلى مدائن كسرى في العراق ليتولى تجهيز سلمان الفارسي «رحمه
الله» والصلاة عليه ودفنه.
وأن يذهب الإمام الجواد النقي «عليه السلام» من مدينة
الرسول «صلى الله عليه وآله» إلى خراسان، ليجهّز أباه الإمام الرضا
«عليه السلام» ويصلي عليه، «صلوات الله وسلامه عليهما».
إلى غير ذلك من موارد كثيرة حفل بها التاريخ القطعي،
والحديث المتواتر، الذي لا ريب في صحته.. لأن ذلك هو من مسؤوليات النبي
والإمام «عليهما الصلاة والسلام».
ولأجل مسؤولية هذا النبي عن كل شيء في هذه الحياة،
كان لا بد لسليمان «عليه السلام» أن يسمع ما تقوله النملة، وأن يتعاطى
مع الهدهد، ومع الريح، ومع الجن، ومع الجبال، من موقع مسؤوليته ليقدم
نموذجاً مصغرا للحكم الإلهي المطلوب تحقيقه على يد الأنبياء والأوصياء،
وليقدم تجسيداً حياً لنوعية تعاطيهم ومستواه في هذا النطاق.
ومن جهة أخرى، إذا كنا نعلم أن الله سبحانه قد أرسل
النبي للناس جميعاً، حيث قال تعالى: ﴿وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾([34]).
ويقول تعالى: ﴿تَبَارَكَ
الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ
نَذِيرًا﴾([35]).
وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا
تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ
لِلْعَالَمِينَ﴾([36]).
فلا بد أن يكون هذا النبي قد أبلغ رسالته لكل من على
وجه الأرض، لا لخصوص أهل الحجاز، أو أهل المنطقة العربية، ولا لخصوص
الملوك الذين أرسل إليهم رسائل يدعوهم فيها إلى الإسلام.
إننا نقطع:
بأن النبي «صلى الله عليه وآله» والإمام، والأئمة من بعده «عليهم
السلام» قد أقاموا الحجة، وقاموا بمسؤولياتهم تجاه كل الناس من ملوك
وغيرهم وقد تعاملوا معهم باللغات التي يفهمونها، وبالطريقة التي
يتعقلونها.. ولا بد أن تكون لديهم القدرة على الاتصال بهم، وعلى
الانتقال إليهم لهدايتهم ورعايتهم، وتدبير أمورهم، وحل مشاكلهم، لأنهم
رعيتهم، فيكون النبي «صلى الله عليه وآله» والامام «عليه السلام» هو
المسؤول عنهم، والشاهد عليهم، والمعني بهم.
وحين يصعد هذا الإنسان إلى الأجرام السماوية، فإن عليه
أن يكون معه، وأن يهيمن عليه من موقع المعرفة والقدرة على التصرف في أي
موقع كان، و إلى أي جهة اتجه، حتى وهو خارج دائرة السماوات.. فيما لو
استطاع هذا الإنسان أن ينفذ بعلمه ووسائله من أقطارها حسبما أشارت إليه
الآية الكريمة التي تقول: ﴿يَا
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا
مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ
إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾([37]).
وذلك كله يفسر لنا ما ينقل عن النبي والأئمة «عليهم
السلام» من كرامات وخوارق للعادات([38]).
ثم هويفسر لنا قضية الإسراء والمعراج لنبينا الأكرم
«صلى الله عليه وآله» حسبما نطق به القرآن الكريم.
ويفسر لنا أيضاً علم الأنبياء والأئمة بلغات الحيوان
وشكواها لهم بعض ما تعانيه من مشاكل.
هذا فضلاً عن معرفتهم «عليهم السلام» بلغات جميع البشر
كما دلت عليه النصوص الكثيرة.
إنه ما دام أن المفروض بالإنسان هو أن يتعاطى مع جميع
المخلوقات التي سخرها الله تعالى له، فقد كان لا بد من أن يخضع تعامله
هذا، وكذلك تعامله مع نفسه ومع ربه ومع أي شيء آخر لضوابط تحفظه من
الخطأ أو التقصير أو التعدي؟!
ولأجل قصور الإنسان الظاهر، فقد شاءت الإرادة الإلهية
من موقع اللطف والرحمة: أن تمد يد العون له، وأن تقوم بهدايته في
مسيرته الطويلة المحفوفة بالمزالق والأخطار، هداية تامة تفضي به إلى
نيل رضا الله سبحانه وتثمر الوصول إلى تلك الأهداف الكبرى السامية
وتحقيقها، وهي إعمار الكون وفق الخطة الإلهية، التي تريد من خلال ذلك
بناء إنسانية الإنسان وإيصاله إلى الله سبحانه وتعالى، حيث يصبح جديراً
بمقامات القرب منه تعالى حيث الرضوان والزلفى.
وإذا كان كذلك، فإنه يصبح واضحاً: أن المثل القرآني
الذي يتمثل في تجربة سليمان وداود «عليهما السلام»، إنما أراد أن يجسّد
ولو بصورة مصغّرة هذه الحقيقة بالذات ليتلمس هذا الإنسان الأهداف
الإلهية وهي تتجسد واقعاً حياً ملموساً، وليس مجرد خيالات أو شعارات أو
آمال وطموحات غير عقلانية ولا مسؤولة ولا حتى خدمات غير عادية.
وهي أيضاً تجّسد معنى القيادة المطلوبة والصالحة لتحقيق
هدف كهذا، حتى إن طائراً وهو الهدهد يضطلع بدورٍ حيويٍ، وفي مستوى مُلك
بأسره، وكما أن أحد الحاضرين في مجلس سليمان يأتي بعرش بلقيس ـ بواسطة
العلم الذي عنده من الكتاب ـ قبل أن يرتد الطرف.
كما أن هذه الشواهد القرآنية وتلك الكرامات والمعجزات
النبوية قد رسخّت هذه الحقيقة.
سواء بالنسبة لدور الإنسان في الكون وتعاطيه معه، أو
بالنسبة إلى حقائق راهنة لا بد أن تأخذ دورها وحقّها ويحسب حسابها على
مستوى التخطيط وعلى مستوى الممارسة.
أو بالنسبة إلى الدور الذي لا بد لهذه القيادة أن تضطلع
به في مقام الرعاية التامة، والهداية العامة. وما يتطلبه ذلك من طاقات،
ومن إمكانات ومواصفات قيادية خاصة ومتنوعة، لا تحصل إلا بالرعاية
والتربية الإلهية لها، ولا تكون إلا في نبي أو في وصي.
وتصبح معرفة لغات الحيوانات، والوقوف على كثير من أسرار
الخلقة، ونواميس الطبيعة ضرورة لا بد منها لهذه القيادة التي لا بد أن
ترعى، وتوازن، وتربي، وتحفظ، لكل شيء حقه، وكيانه ودوره في الحياة، حيث
لا بدّ لها من التدخل المباشر، في أحيان كثيرة لحسم الموقف، ولحفظ
سلامة المسار، كما لا بد لها من توجيه الطاقات والاستفادة منها في
الوقت المناسب وفي الموقع المناسب بصورة قويمة، وسليمة، كما كان الحال
بالنسبة لنبي الله داود أو نبي الله سليمان «على نبينا محمد وآله،
وعليهما أفضل الصلاة والسلام».
وبذلك يتضح:
أنه لا بديل عن قيادة المعصوم، إذ إن كل القيادات الأخرى حتى إذا كانت
عادلة لن يكون لها أكثر من دور الشرطي الذي ينجح في درء الفتنة حيناً،
ويفشل أحياناً.
أما إذا كانت قيادة منحرفة، فهناك الكارثة الكبرى التي
عبّرت عنها الكلمة المنسوبة إلى أمير المؤمنين علي «عليه الصلاة
والسلام» حيث يقول: «أسدٌ حطوم، خير من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم، خير
من فتنة تدوم»([39]).
وقد اتضح أيضاً:
أن وجود الإمام المعصوم في كل عصر وزمان أمر حتمي وضروري حتى ولو كان
غائباً ومستوراً، لأن هذا الإمام يحفظ ويرعى كثيراً من المواقع
والمواضع في هذا الكون المسخّر للإنسان، والتي لولا حفظه ورعايته «عليه
السلام» لها وقعت الكارثة، كما أنه لولاه لساخت الأرض بأهلها، كما ورد
في الروايات المعتبرة.
وبذلك نعرف السر في أن الروايات قد ذكرت: «أنه لو بقيت
الأرض بغير إمام»، أو «لو أن الإمام رفع من الأرض ولو ساعة لساخت
بأهلها، وماجت كما يموج البحر بأهله»([40]).
وأصبح واضحاً معنى الرواية التي تقول: «وأما وجه انتفاع
الناس بي في غيبتي، فكالشمس إذا جلّلها عن الأنظار السحاب».
واتضح أيضاً: سر معرفة الأئمة «عليهم السلام» بعلوم
الأنبياء، وسر أنهم يعلمون إذا أرادوا، وسرّ معرفتهم بألسنة جميع البشر
وبألسنة أصناف الحيوان أيضاً([41]).
إلى غير ذلك من خصائص وتفصيلات علومهم «عليهم السلام»، وفي حدود
ولايتهم ورعايتهم لهذا الإنسان في هذا الكون الأرحب([42]).
وبذلك يتضح:
أنه لا مناص من الالتزام بالولاية التكوينية للأنبياء وأوصيائهم «عليهم
السلام».
ولكي تصبح الفكرة أكثر وضوحاً فيما يرتبط بالمعجزات
والكرامات نقول:
هناك معجزات وكرامات في اتجاهات ثلاثة:
الأول:
معجزات وخوارق للعادات قد ظهرت للنبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»
وللأنبياء السابقين، وكذلك الأوصياء، تهدف إلى مواجهة الإنسان المكابر
بالصدمة التي توصد أمامه كل أبواب التملّص والتخلّص، والتجاهل للواقع،
ودلائله القاهرة وأعلامه الباهرة وحججه الظاهرة، بحيث لو لم تظهر
المعجزة أو الكرامة لاستطاع أولئك الشياطين أن يثيروا الشبهات المضعفة
للدعوة والموجبة لزعزعة درجة الطمأنينة والوثوق لدى كثير ممن آمن بها،
واطمأن إليها، أو يحدث نفسه بذلك.
فتأتي المعجزة لتثبت أولئك، وتشجّع هؤلاء، ولتسحق أيضاً
كبرياء المستكبرين، وتكسر شوكتهم. ويكون بها خزي المعاند، وبوار كيد
الماكر والحاقد.
الثاني:
وثمة معجزات وكرامات، وخوارق عادات أكرم الله بها أنبياءه وأولياءه
تشريفاً لهم، وتجلّةً وتكريماً، وإعزازاً لجانبهم. وقد يستفيد منها
المؤمن القوي سموّاً ورسوخ قدم في الإيمان، ومزيد بصيرة في الأمر، حيث
تسكن نفسه، ويطمئن قلبه، على قاعدة قوله تعالى: ﴿قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾([43]).
وعلى قاعدة: ﴿سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ
آَيَاتِنَا﴾([44]).
ونلحق بهذا القسم ما يصدر عنهم «عليهم السلام» مما
تقتضيه قواهم الروحية ومكانتهم النفسية وتعلقاتهم الغيبية، وهذا لا
يُسأل عنه إلا على نحو السؤال عن سبب صدوره عنهم لا عن سبب وجوده فيهم،
وليس بالضرورة أن يكون فيه إظهار كرامة من الله لهم أو إعجاز يظهره
الله تعالى على أيديهم، بل هو من آثار طبيعتهم البشرية الصافية، التي
تقتضي هذا النوع من الآثار بل تقتضي ما هو أكثر منه.
الثالث:
ذلك القسم الذي هو عبارة عن تجلّي السنن والنواميس الواقعية التي تحكم
المسار العام، فيما يرتبط بتبلور دور الشخصية القيادية الواقعية في
نطاق هيمنتها على الواقع العام، من خلال تلك النواميس وعلى أساسها،
فتجسّد الكرامة والمعجزة بصفتها ضرورة حياتية في نطاق الهداية الإلهية
على أساس نواميس الواقع، وتجليّاتها حسب مقتضياته، الأمر الذي يعني: أن
تعامل النبي والإمام مع المخلوقات من موقع المدبر والراعي، والحافظ
لها، باعتبارها جزءاً من التركيبة العامة، حيث لا بد من التعامل معها
على هذا الأساس.
وهذا القسم الأخير هو الذي يعنينا الحديث عنه هنا.
إن جميع ما قدمناه يمثل جوهر البحث الذي أردنا إطلاع
القارئ على موجز منه. ولكن لكي يتضح ما نرمي إليه بصورة أوفى وأصفى، لا
بد من وضع النقاط على الحروف في الأمور التالية:
1 ـ
حجم هذا الكون حسب البيان الإلهي.
2 ـ
الآيات الدالّة على تسخير الموجودات للإنسان .
3 ـ هذا الكون ليس جماداً، بل لديه درجة من الشعور
والإدراك..
وذلك يعني:
أن ثمة مسؤولية ذات طابع معين يتحمّلها هذا الإنسان في تصرفاته مع كل
ما فيه.
4 ـ
نموذج تجسّدت فيه الخطّة الإلهية فيما يرتبط بالحاكمية التي يريد الله
أن يوصل الإنسان إليها ـ وهو قصة سليمان «عليه السلام».
واستطراداً نقول:
إن سعة السموات والأرض التي سخر الله جميع ما فيها لبني
الإنسان هي فوق حدود التصّور، وأكثر بكثير مما تشير إليه الإكتشافات
التي تعتمد وسائل الرصد والإكتشاف المتطورة جداً في هذا العصر.
ونوضح ذلك على النحو التالي:
إن لغة العرب، قد وضعت في بداياتها لمعانٍ حسيّة أو
قريبة من الحس، فلم تكن قادرة على تحمّل المعاني الدقيقة والعميقة إلا
بالإستعانة، بأساليب بيانية متنوعة باستطاعتها توجيه الفكر والخيال
باتجاه الأعماق والآفاق، ليقتنص المعنى، أو يتلمسه بصورة أو بأخرى.
فكانت الكنايات والمجازات، وكان التطعيم للمعاني
الحسيّة بمعان إيمائية، تعتمد على حالات الألفاظ، وطبيعة التراكيب
المختلفة وخصوصياتها، حسبما تشير إليه ـ جزئياً ـ علوم البلاغة.
ولكن كل ذلك لم يف أيضاً بالمطلوب، فكان لا بد من ضم
المعاني بعضها إلى بعض في تراكيب متعددة، تشير كل منها إلى جزء أو إلى
خصوصية في المعنى المقصود بيانه.
ومن الأمثلة الواضحة على ذلك، ما روي، من أن الإمام
علياً «عليه السلام»، قد استنبط أقل الحمل من الجمع بين آيتين
قرآنيتين:
إحداهما تقول:
﴿وَحَمْلُهُ
وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾([45]).
والأخرى تقول:
﴿وَفِصَالُهُ
فِي عَامَيْنِ﴾([46]).
أما بالنسبة لحجم السماوات التي سخّر الله كل ما فيها
لهذا الإنسان. والتي ورد في الحديث عن النبي «صلى الله عليه وآله»:
«ما السماوات السبع في الكرسي الا كحلقة ملقاة في أرض
فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة»([47]).
فقد استخدم لبيان حجمها وسعتها تراكيب وكنايات متنوعة،
فبين في بعض الآيات: أن السماوات سبع، ثم بين أن هناك سماء دنيا، أي
قريبة وواطئة يقابلها سموات عالية وبعيدة.
وتحدث مشيراً إلى حجم السماء الدنيا والواطئة
والقريبة بأسلوب آخر، حينما أشار إلى أنها هي التي تستوعب الكواكب،
وتضم النجوم التي يصل نورها إلينا، حتى لو بقي يسير ملايين السنين
الضوئية، فكل ما يصل نوره ـ مهما بعد ـ فهو من السماء الدنيا.
قال تعالى: ﴿إِنَّا
زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾([48]).
وقال تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ
سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ
أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا
ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾([49]).
وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ
جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ﴾([50]).
وقال تعالى: ﴿أَفَلَمْ
يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا
وَزَيَّنَّاهَا﴾([51]).
فالسماء الدنيا إذن أوسع مما نظن، وربما تصل امتداداتها
إلى ما لايعلم من السنين الضوئية، إذا كان ثمّة كواكب ونجوم يمكن أن
يصل ضوؤها إلينا، ونصير قادرين على رؤيتها. وأصبحت تزين هذه السماء،
وتعطيها المزيد من الرّواء والبهجة والبهاء.
فإذا كان هذا حال السماء الدنيا والقريبة، فما حال سائر
السماوات: الثانية، ثم الثالثة، وهكذا إلى السابعة؟!
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتعداه إلى حقيقة علمية
اخرى تباريه وتجاريه، وهي: أن السماء في اتساع مستمر، كما قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ
بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾([52]).
ثم إنه تعالى قد قرّر في آية أخرى: أن هذا الإنسان قادر
على اختراق جميع السماوات، والخروج منها جميعا إلى عالم جديد، لم
يبّيّن ما هو، وما هي طبيعته، وآفاقه، وامتداداته. غير أنه أشار إلى أن
هذا الاختراق سيواجه بصعوبات وموانع كبيرة وخطيرة، لن يمكن التغلب
عليها إلا بالإعداد، والحصول على القوة، وامتلاك قدرات فائقة وكبيرة.
ثم بّين لنا طبيعة هذه الحواجز والعوائق ونوعها،
ليفهمنا بأسلوب (بيان الواقع بتفاصيله): أن الكلام ليس مسوقاً على سبيل
الفرض والإدّعاء بهدف التعجيز، بل هو الحقيقة التي لا بد أن تقع في
دائرة طموحات هذا الإنسان، وفي متناول أطماعه حين يريد الله له أن يفتح
عينيه على هذا الكون الرحيب، ويثير شهيته للتعامل معه، و للتسلّط
والهيمنة عليه.
وقد أشار تعالى إلى ذلك كله في الآية الكريمة التي
تقول: ﴿يَا
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا
مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ
إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا
تَنْتَصِرَانِ﴾([53]).
ثم قدّم نموذجاً عملياً لإمكان هذا الاختراق لآفاق
السموات، وحدوثه بالفعل، وذلك في قضية المعراج برسول الله «صلى الله
عليه وآله». وهي قضية مسلمة عند المسلمين.
ومعنى ذلك:
هو أن البشرية بالنسبة لاكتشاف أسرار الكون ومعرفة آفاقه الرحبة
وامتداداته الهائلة ربما هي اليوم لا تزال في عصرها الحجري السحيق.
فكيف بالنسبة لتسخير ما في السموات والأرض، والهيمنة عليه.
وقد أشارت الآيات القرآنية إلى تسخير الموجودات للإنسان
ويتضح ذلك بالتأمل في الآيات التالية:
﴿أَلَمْ
تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾([54]).
﴿وَسَخَّرَ
لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾([55]).
﴿وَسَخَّرَ
لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ
لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآَتَاكُمْ مِنْ
كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا
تُحْصُوهَا﴾([56]).
﴿وَهُوَ
الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا
وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾([57]).
ثم إن الإنسان يريد أن يتعامل مع عالمٍ ليس جماداً بقول
مطلق، وإنما كل الموجودات فيه تمتلك درجة من الشعور والإدراك، وإن كنّا
لا نعرف كنهه، ولا حدوده.
قال تعالى: ﴿إِنَّا
عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ
فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا
الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾([58]).
فليلاحظ كلمة: وأشفقن منها فإن الاشفاق يرتبط بالمشاعر،
لا في عالم الإدراك وحسب. وإضافة كلمة «والجبال» في الآية تظهر عدم صحة
التفسير الذي يقول بأن المقصود هو العرض على (أهل السماوات والأرض) من
ملائكة وجن وغيرهما لو وجد.
ولو سلمنا جدلا صحة هذا التفسير فإن الايات الأخرى
التي ذكرناها، تكفي في إثبات ما نرمي اليه.
وقال سبحانه عن داود «عليه السلام»: ﴿إِنَّا
سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ﴾([59]).
وقال في آية أخرى عن داود أيضا: ﴿يَا
جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾([60]).
والمراد بالتأويب ترجيع التسبيح على ما يظهر.
وقال تعالى: ﴿وَيُسَبِّحُ
الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ﴾([61]).
وقال تعالى: ﴿وَالنَّجْمُ
وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾([62]).
وقال تعالى: ﴿تُسَبِّحُ
لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ
شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ
تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾([63]).
ولو كان المراد التسبيح التكويني، بمعنى تنزيه الله
سبحانه فلا يبقى مجال لقوله: ﴿وَلَكِنْ
لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾.
وتسبيح ما في السموات والأرض، مذكور في عدة آيات([64]).
وقال سبحانه: ﴿
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ
لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾([65]).
وقال تعالى: ﴿أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ
وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾([66]).
وقال تعالى: ﴿أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾([67]).
فكل ما تقدم يشير بوضوح إلى أن هذه المخلوقات تملك حالة
شعورية وادراكية معينة، وليست مجرد جمادات أو حيوانات خاوية.
فإذا كان الله سبحانه قد سخر المخلوقات لهذا الإنسان،
وكانت هذه المخلوقات تمتلك صفة الشعور والإدراك، ولها أعمال عقلانية،
ومرتبطة بالشعور، ومستندة إليه، وهي على درجة من الإدراك، فما علينا
الا أن نذكر هنا نموذجا قرآنياً حياً، وواقعياً لهذا التسخير تجلّت فيه
طريقته، وأبعاده ومجالاته بصورة ظاهرة، حيث ذكرت الآيات أن الله سبحانه
قد سخّر الريح، والطير، والجبال، والجن، لسليمان، وداود «عليهما
السلام».
قال تعالى: ﴿وَسَخَّرْنَا
مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾([68]).
وقال تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ
الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي
بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ وَمِنَ
الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ
ذَلِكَ﴾([69]).
﴿إِنَّا
سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ﴾([70]).
وقال تعالى عن سليمان: ﴿فَسَخَّرْنَا
لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ
وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ
فِي الْأَصْفَادِ﴾([71]).
وقال تعالى: ﴿وَحُشِرَ
لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ
يُوزَعُونَ﴾([72])
نلاحظ كلمة: فهم يوزعون. أي يمنعون.
وإذا راجعنا سورة النمل، فإننا نجد فيها نماذج فذة عن
تعاطي سليمان وداود «عليه السلام» مع ما آتاهما الله سبحانه في هذا
المجال. وأول ما يواجهنا في الحديث عنهما «عليهما السلام»: أنه تعالى
قد وفّر لهما الأدوات الضرورية للتعامل مع هذه المخلوقات في نطاق
رعايتها وهدايتها وتوجيهها. فنجدها تبدأ الحديث: بأن الله قد آتاهما
علماً، وعُلّما منطق الطير، وأوتيا من كل شيء، ثم ذكرت الآيات نماذج
تطبيقية لهذا العلم، وللمعرفة بجميع الألسنة.
ثم لتأثير ما آتاهم الله سبحانه في إدارة الأمور،
وتوجيهها ورعايتها، والهيمنة عليها بصورة حيوية وبناءة وإيجابية، لا
تأتي إلا بالخير، ولا تؤدي إلا إلى الفلاح.
فقد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ
آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلهِ
الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ
هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا
أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا
النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ
وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ
قَوْلِهَا﴾([73]).
وقد أظهرت الآيات المتقدمة كيف تم توظيف كل القدرات
المادية وغيرها في تحقيق رضا الله سبحانه، وبناء الحياة وتكاملها
باتجاه الأهداف الإلهية، ووفقاً للخطة الربانية. بدءاً من قصة تبسّم
سليمان من قول النملة، مروراً بقصّة الهدهد والدور الذي قام به،
والإتيان بعرش بلقيس من قبل أحد أتباع سليمان «عليه السلام» بعلم من
الكتاب قبل ارتداد الطرف، ثم تنكير عرشها لها، وانتهاءً بأمرها بدخول
الصرح الذي حسبته لجة، مع أنه صرحٌ ممرد من قوارير.
وقد تجّسّد ذلك كله من خلال حاكمية وإمامة سليمان «عليه
وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام»، ورعايته وهدايته التامة والشاملة.
وقد كانت هذه الهداية والرعاية مستندة إلى علم آتاه
الله إياه، وإلى إمكانات ذات صفة شمولية. ﴿وَأُوتِينَا
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾([74])،
فلم يكن ثمة أي قصور في القدرات الذاتية، فقد علم سليمان منطق الطير،
وأوتى من العلم ما يكفيه في مهمته الكبيرة والخطيرة.
كما أنه لم يكن ثمّة نقصٌ في الإمكانات المادية، كما
أشرنا وكان سليمان أيضا يحظى برعاية الله تعالى له، ولطفه به، وتسديده
وتأييده له، في درجة العصمة وغير ذلك.
فلم يبق والحالة هذه إلا المبادرة إلى القيام بالدور
المرصود له في نطاق الإستفادة الواعية والإيجابية والبناءة من كل
المخلوقات المسّخّرة لهذا الإنسان، وتوجيهها لتؤدي دورها في الحياة
كاملاً غير منقوص.
وهذا ما حصل بالفعل، فكانت المعجزة الكبرى، وكان
الإنجاز العظيم وهذا ما سوف يتحقق بحول الله وقدرته بصورة أكثر رسوخاً
وشموخاً وعظمة في عهد ولي الأمر قائم آل محمد «عجل الله تعالى فرجه
الشريف». وجعلنا من جملة العاملين في نصرته والمدركين لأيامه «صلوات
الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين المعصومين».
([1])
من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج17 ص21.
([2])
من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج13 ص282 و 283.
([3])
الآية 50 من سورة الأنعام.
([4])
من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج9 ص79 ـ 81.
([5])
الآية 93 من سورة الإسراء.
([6])
من وحي القرآن (الطبعة الأولى) ج6 ص82 و 83 و 84.
([7])
الآيات 90 ـ 93 من سورة الإسراء.
([8])
الآيتان 45 و 46 من سورة الأحزاب.
([9])
يلاحظ إقحامه كلمة (بلا حدود) ولا يخفى على الناقد البصير سبب
هذا الإقحام.
([10])
الآيتان 94 و 95 من سورة الإسراء.
([11])
الآية 15 من سورة النمل.
([12])
الآية 16 من سورة النمل.
([13])
الآية 17 من سورة ص.
([14])
الآية 20 من سورة ص.
([15])
الآية 40 من سورة النمل.
([16])
الآية 19 من سورة النمل.
([17])
الآية 40 من سورة النمل.
([18])
الآية 100 من سورة يونس.
([19])
الآية 63 من سورة الشعراء.
([20])
الآية 117 من سورة الأعراف.
([21])
الآية 6 من سورة التحريم.
([22])
المسائل الفقهية ج1 ص312.
([23])
مجلة المعارج، السنة الثامنة ص328 و 329.
([24])
الآية 37 من سورة آل عمران.
([25])
الآية 41 من سورة طه.
([26])
الآية 39 من سورة طه.
([27])
وقد سمعنا عن بعض المولعين بالبعض. انه يبني على شرك القائل
بها، تبعال له ولكنه بنفس الوقت يقول بطهارة القائل بها بناء
على ما يذهب اليه هذا البعض من طهارة كل انسان.
([28])
الآية 56 من سورة الذاريات.
([29])
الآية 61 من سورة هود.
([30])
الآية 6 من سورة الإنشقاق.
([31])
الآية 123 من سورة التوبة.
([32])
الآية 25 من سورة الحديد.
([33])
ولعل هذا ما يفسر لنا الحديث الذي يكثر السؤال عن معنا ه: ( من
رآنا فقد رآنا، فإن الشيطان لا يتمثل بنا) حيث يكون هذا القول
قد جاء ليعالج شائعات ربما كان أعداء أهل البيت من الأمويين
وغيرهم يطلقونها في مواجهة الناس الذين كانوا يخبرون عن
مشاهداتهم للأئمة في المواضع البعيدة جدا عن محل سكناهم، كبني
أسد وأهل المدائن. فيتخلص اؤلئك الحاقدون من الاحراجات بالقول:
إن الذي رأيتموه شيطان. فيأتي الرد من قبل الأئمة عليهم
السلام:: (من رآنا فقد رآنا، فإن الشيطان لا يتمثل بنا ).
أما قولهم «عليهم السلام»: (من رآنا فكذبوه ) فربما يكون
المراد به رد من يدعي رؤية الإمام قائم آل محمد عجل الله تعالى
فرجه الشريف في أيام الغيبة بهدف تضليل الناس واستغلال
طهارتهم، فأوصدوا «عليهم السلام» هذا الباب الذي قد يحاول
الطامحون أو المستغلون النفاذ منه إلى عقول الناس الأمر الذي
تترتب عليه سلبيات كثيرة وخطيرة فيما يرتبط بسلامة المسيرة
الإيمانية.
([34])
الآية 107 من سورة الأنبياء.
([35])
الآية 1 من سورة الفرقان.
([36])
الآية 104 من سورة يوسف. وراجع الآية 90 من سورة الأنعام.
([37])
الآية 33 من سورة الرحمن
([38])
راجع على سبيل المثال: السيرة الحلبية ج3 ص283 ـ 284 ـ والسيرة
النبوية لدحلان (مطبوع بهامش السيرة الحلبية) ج3 ص128 وما
بعدها.
([39])
البحار الجزء 75 ص359. عن كنز الفوائد للكراجكي وراجع دستور
معالم الحكم صفحة 170 وغرر الحكم ودرر الكلم ج1ص437 وج2 ص784.
([40])
راجع بصائر الدرجات ص488 ـ 489 والكافي ج1 ص179 ـ 198 والغيبة
للنعماني ص138 ـ 139.
([41])
راجع كتاب بصائر الدرجات وفيه التفاصيل حول الأئمة عليهم
السلام في جميع المجالات وراجع أيضا البحار للعلامة المجلسي
والكافي ج1 وغير ذلك.
([42])
راجع كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله»
ج8 ص347 ـ 360.
([43])
الآية 260 من سورة البقرة.
([44])
الآية 1 من سورة الإسراء.
([45])
الآية 15 من سورة الأحقاف.
([46])
الآية 14 من سورة لقمان.
([47])
راجع: البحار: ج57 ص5 و 17 وج77 ص71 و 73 عن الآمالي للطوسي ج2
ص138 وفي هوامشه عن معاني الأخبار ص333 وعن الخصال ج2 ص103 و
104 والدر المنثور ج1 ص328.
([48])
الآية 6 من سورة الصافات.
([49])
الآية 12 من سورة فصلت. وراجع الآية 5 من سورة الملك
([50])
الآية 16 من سورة الحجر.
([51])
الآية 6 من سورة ق.
([52])
الآية 47 من سورة الذاريات.
([53])
الآيات 33 ـ 35 من سورة الرحمن.
([54])
الآية 20 سورة لقمان.
([55])
الآية 13 من سورة الجاثية.
([56])
الآيات 32 ـ 34 من سورة إبراهيم.
([57])
الآيات 14 ـ 18 من سورة النحل.
([58])
الآية 72 من سورة الأحزاب.
([59])
الآيات 18 ـ 19 سورة ص.
([60])
الآية 10 من سورة سبأ.
([61])
الآية 13 من سورة الرعد.
([62])
الآية 6 من سورة الرحمن.
([63])
الآية 44 من سورة الإسراء.
([64])
راجع: الآيات 1 و 24 من سورة الحشر، والآية 1 من سورة
التغابن، والآية 1 من سورة الصف، والآية 1 من سورة الجمعة،
والآية 1 من سورة الحديد.
([66])
الآية 18 من سورة الحج.
([67])
الآية 41 من سورة النور.
([68])
الآية 41 من سورة الأنبياء الآية 79.
([69])
الآيتان 81 و 82 من سورة الأنبياء.
([70])
الآيتان 18 و 19 من سورة ص.
([71])
الآيات 36 ـ 38 من سورة ص.
([72])
الآية 17 من سورة النمل.
([73])
الآيات 15 ـ 19 من سورة النمل.
([74])
الآية 16 من سورة النمل.
|