القسم الأول
التشيع والإمامة..
بـدايـة:
إن الأمور التي تشير إلى ـ أو تدل على ـ ما يرمي إليه
البعض في حديثه عن الإمام والإمامة، وعن الشيعة والتشيع، كثيرة
ومتنوعة، والمكتوب منها كثير وخطير، فكيف بالمسموع في النوادي،
والمدارس، والسهرات، والمجالس..
ونحن نقتصر هنا على ذكر مجموعة من كلماته ـ وهي كثيرة
ليست قليلة ـ عسى أن نبلغ بها غايتنا في إعطاء الصورة الوافية عن
الإتجاه الفكري العام، وعما تحتله هذه الشؤون الحساسة فيما يراد له أن
يأخذ موقعه في عقل وفكر الناس، وتكون له آثاره على مواقفهم، وحتى على
مواقعهم..
فإلى ما يلي من صفحات، ومن الله نستمد القوة والحول،
ومنه نطلب السداد والرشاد.
784 ـ الشيعة في قفص الإتهام.
ثم إن ذلك البعض يشير بطريقته الخاصة إلى أن الشيعة هم
الذين اعتبروا أنفسهم مجتمعا يختلف عن غيرهم.. وكأن الآخرين هم الأساس،
الذي فصل الشيعة أنفسهم عنه، وبالتالي، فإنهم قد نأوا بأنفسهم عن معونة
أهل السنّة ونصحهم، على عكس ما كان من عليّ أمير المؤمنين «عليه
السلام» تجاه الخلفاء ـ مع أنّه هو صاحب القضية معهم، فصاحب القضية
يتعاون، ويقدم النصح والمشورة، والشيعة لا يفعلون ذلك، مما يوضح: أنهم
أقل وعيا، وأقل إسلامية من المتقدمين، فهو يقول:
«المسلمون في عصر الخلافة الراشدة (!!) كانوا أقرب إلى
المواجهة الواقعية لمثل هذه المشكلة، بعدها، عاش المسلمون أوضاعاً
حادّة تحولت إلى حروب بين السنّة والشيعة، ثم إلى حالة انفصال اعتبرت
الشيعة نفسها مجتمعا يختلف عن مجتمع السنة، بينما كان الإمام علي ـ وهو
صاحب القضية ـ يتعاون مع الخلفاء، ويعطيهم المشورة والنصح، بالرغم من
رفضه للمسألة، مما يعني: أن المتقدمين كانوا أكثر وعياً، وأكثر
إسلامية»([1]).
785 ـ الشيعة إرهابيون في المجال
الفكري!
786 ـ دعوة السنّة والشيعة إلى التنازل
عما ورثوه.
787 ـ الشيعة مصداق للآية:
﴿إِنَّا
وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ﴾([2]).
788 ـ لا يوجد نقد علمي عند الشيعة والسنة.
789 ـ لا حرية إلا لمناقشة القضايا
السنية.
ثم هو يتهم الشيعة بالإرهاب الفكري، وأنه ليست هناك أية
حريّة في داخل المذهب الشيعي، ويظهر رغبته في تنازل الشيعة والسنة عما
ورثوه.
فهو يقول:
«المشكلة هي أن السنّة لا يريدون أن يتنازلوا عن أي شيء
مما ورثوه، وأن الشيعة لا يريدون أن يتنازلوا عن أي شيء مما ورثوه،
بقطع النظر عما إذا كان ما ورثوه يخضع للبرهان أو للدليل أو لا يخضع،
لأن القضية في بعض أوضاعها: ﴿إِنَّا
وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ
مُقْتَدُونَ﴾([3]).
لذلك لا نجد أية حرية في داخل المذهب السني لمناقشة
القضايا السنية، وليست هناك أية حرية في داخل المذهب الشيعي لمناقشة
القضايا الشيعية.. الحرية المطروحة هنا وهناك هي مناقشة الآخر.. أما أن
نناقش فكرنا في عملية نقد علمي فهذا ليس واردا، بل قد تجد هناك إرهابا
فكريا هنا، وإرهابا فكريا هناك»([4]).
790 ـ التشيع وجهة نظر في فهم الإسلام.
791 ـ إتهام الشيعة بأنهم إنفصاليون،
لا يتعاونون مع إخوانهم ولا ينصحونهم.
وهو يعتبر التشيع مجرد وجهة نظر، في مقابل وجهة نظر
أخرى هي التسنن، ووجهة النظر عموما: قد تكون خطأ، وقد تكون صواباً..
كما أن وجهة النظر الأخرى كذلك. مع أن التشيع هو حقيقة الإسلام، وصريح
هذا الدين، فهو يقول:
«وقد تكون القضية المطروحة هي أن لا يكون خط التشيع ـ
فيما هو التشيع وجهة نظر في فهم الإسلام ـ حالة معزولة عن الواقع العام
للمسلمين»([5]).
792 ـ الفكر الإلهي! والفكر البشري.
793 ـ الإمامة فكر بشري!!
794 ـ كل التراث الفقهي والكلامي فكر
بشري.
795 ـ الحقيقة نسبية..
796 ـ بديهيات الإسلام فقط فكر إلهي.
وهو يعتبر أن كل التراث الفكري والعقيدي والفلسفي، فكر
بشري، باستثناء البديهيات، فإنها: فكر إلهي.
ولا ندري كيف نفسر عبارة «فكر إلهي»، وما تحمله من جرأة
على الذات الإلهية، فهل الله يجلس ليوازن ويفكر، ويقدم ويؤخر، ثم يخرج
بهذه النتيجة أو تلك؟!
ولنتوقف قليلا أيضاً عند اعتبار ذلك كله فكرا بشرياً!!
أما عباراته التي تضمنت ذلك فهي التالية:
«..ونحن نعتقد من خلال ذلك: أن كل ما جاءنا من تراث
فقهي، وكلامي، وفلسفي، هو نتاج المجتهدين والفقهاء والفلاسفة
والمفكرين، من خلال معطياتهم الفكرية، ولا يمثل الحقيقة، إلّا بمقدار
ما نقتنع به من تجسيده للحقيقة على أساس ما نملكه من مقاييس الحقيقة.
وبهذا، فإننا نعتبر: أن كل الفكر الإسلامي، ما عدا
الحقائق الإسلامية البديهية هو فكر بشري، وليس فكرا إلهيّا، قد يخطئ
فيه البشر فيما يفهمونه من كلام الله، وكلام رسول الله «صلى الله عليه
وآله» وقد يصيبون.
وعلى هذا الأساس، فإننا نعتقد: أن من الضروري جداً
أن ننظر إلى التراث المنطلق من اجتهادات المفكرين، أينما كانت مواقع
تفكيرهم، نظرة بعيدة عن القداسة في حياتهم ومؤهلاتهم الروحية والعملية
في حياة الناس الآخرين، فيمن يكون على مستوى المراجع أو الأولياء في
تقواهم لله سبحانه وتعالى الخ..»([6]).
إن هذا البعض قد اعتبر كل التراث الفقهي والكلامي «أي
العقائدي» والفلسفي هو نتاج أفكار المجتهدين، وهو كله ليس إلهيا، وإنما
هو فكر بشري، حتى الإمامة فإنها عنده من المتحول، لأن النص لم يكن عنده
صريح الدلالة بحيث لا مجال لاحتمال الخلاف فيه، ولا موثوق السند إلى
درجة لا يمكن الشك فيه
([7])،
فالإمامة إذن فكر بشري أيضاً، لأنها بحاجة إلى الاجتهاد، وليست من
البديهيات عند جميع المسلمين.
هذا كله عدا عن أن كلامه الآنف الذكر صريح في أنه يعتبر
الحقيقة نسبية، فلا يستطيع أحد أن يدعي أنه يملك الحقيقة كلها، بل هو
يملك منها بحسب ما يقتنع به من مقاييس الحقيقة..
فقد يكون أمر مّا يمثل الحقيقة عند شخص، ـ بحسب تلك
المقاييس ـ ويمثل الباطل عند آخر بحسب المقاييس التي يملكها ذلك الآخر
أيضاً.
ونحن قد ناقشنا هذه المقولات في كتابنا: «لماذا كتاب
مأساة الزهراء»، ونؤكد على القاريء الكريم أن يراجع ما كتبناه هناك..
غير أنّا نذكّر هنا: بأن ما هو فكر إلهي عند هذا البعض،
هو أمور يسيرة وعناوين محدودة جدّاً، عبّر عنها في بعض كتاباته
بالثّابت، ويقابلها المتحوّل. فقال:
«إن من الثابت: التوحيد، والنبوة، والمعاد، ومسلمات
الشريعة، مثل: وجوب الصلاة، والصوم، والجهاد، والحج، والزكاة، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحريم الزنا والسرقة، والخمر، والميسر،
والنميمة، واللواط، والغيبة، وقتل النفس المحترمة، ونحوها مما لا يخرج
عن دائرة العناوين العامة جدا، دون تفاصيلها، فإن التفاصيل تدخل في
نطاق الاجتهادات الشخصية البشرية، غير الإلهية»([8]).
وهو ما عبّر عنه هذا البعض بالمتحول.
ويقول:
المراد من الضروري الشيء البديهي الثابت بشكل طبيعي
جداً، وعفوي جدا، من دون حاجة إلى الإستدلال بين المسلمين، مثل وجوب
الصلاة، ووجوب الصوم، ووجوب الحج، ووجوب الزكاة، كما ذكرنا. أما تفاصيل
الصلاة، وتفاصيل الصوم، أو الحج، أو الزكاة، فهذه أمور يختلف فيها
المسلمون، ويحتاج فيها إلى أن يستدل بعضهم على بعض، ليثبت قناعته من
خلال ذلك، وكل شيء يحتاج إلى الإستدلال بحسب طبيعته، أو بحسب طبيعة
الواقع العام، باعتبار أن الناس يختلفون فيه فهو أمر نظري([9]).
797 ـ سند حديث: «من مات ولم يعرف إمام زمانه» موضع
نقد.
أجاب البعض عن سؤال حول حديث النبي «صلى الله عليه
وآله»:
«س: .. قال الرسول: من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة
جاهلية؟!
ج: الواقع أن سند هذا الحديث ليس فوق مستوى النقد»([10]).
ومن الواضح:
أن أبرز تجليات هذا الحديث قد كانت في موقف فاطمة
الزهراء «عليها السلام» من أبي بكر، حيث ماتت وهي مهاجرة له، كما دلت
عليه النصوص القاطعة، ولم تكن تعتبره إمام زمانها، ولا يمكن بحال أن
يقال: إنها ماتت ميتة جاهلية، وهي التي يغضب الله لغضبها، ويرضى
لرضاها.
وهو من الأحاديث الثابتة المروية لدى أهل السنة
والشيعة، وتجدهم به يستدلون، وعليه يعتمدون، على اختلاف مذاهبهم
ومشاربهم.
ولا ندري ما هو الداعي لإثارة الشبهة حول سند هذا
الحديث؟! مع أن الأفرقاء قد تلقوه بالقبول كما ألمحنا إليه؟! وذكرنا
ذلك في كتابنا «مأساة الزهراء «عليها السلام»».
798 ـ الخلاف بعد النبي لم يضر بالإسلام.
799 ـ المسيرة الإسلامية لم تنحرف بعد النبي «صلى الله
عليه وآله».
ويتحدث عن خلافات الصحابة بعد النبي «صلى الله عليه
وآله» فيقول:
«علينا أن نمارس خلافنا في الرأي كما مارسه الأولون،
فقد مارسوه فيما لم يكن الاختلاف مضرة للإسلام، حتى سارت المسيرة
الإسلامية في طريقها المستقيم»([11]).
ظاهر الكلام: أن الصحابة لم يمارسوا خلافاتهم بصورة
مضرة للإسلام، فلم يكن اغتصاب بعضهم للإمامة مثلا ضررا على الدين، ولا
انحرافا بل سارت المسيرة الإسلامية في طريقها المستقيم!!
800 ـ إبعاد علي «عليه السلام» كان
نتيجة فهم الكلام بطريقة معينة.
801 ـ المسلمون(!!) فهموا ذلك.
802 ـ الخطأ في اجتهاد أهل السقيفة.
803 ـ مشكلتنا: أن حديث الغدير مروي
بشكل مكثف.
804 ـ ينبغي لأهل السنّة أن يناقشوا
سند حديث الغدير.
805 ـ كلمات النبي «صلى الله عليه
وآله» في الغدير، تجعل الشك في أذهان الناس.
806 ـ النبي «صلى الله عليه وآله» لم
يكتب كتاباً للأمة لأنه أراد للتجربة أن تتحرك.
ويقول البعض:
«ألف:
إنطلق رسول الله «صلى الله عليه وآله» ليؤكد مسألة
القيادة من بعده، حتى لا تكون حركة المسلمين في فراغ، بعد أن ينتقل
«صلى الله عليه وآله» إلى الرفيق الأعلى.
ولكن المسلمين فهموا القضية بطريقة معينة، ففرضت
الأوضاع الجديدة نفسها، والتي أوجدوها خارج دائرة توجيهات رسول الله
«صلى الله عليه وآله»؛ فأبعد علي «عليه السلام»..»([12]).
فالفهم الخاطيء لكلام النبي «صلى الله عليه وآله» كان
هو السبب في إبعاد علي «عليه السلام»..
ب:
ولكنه يذكر في مورد آخر: أن سبب فهم المسلمين لهذا
الأمر بطريقة معينة هو أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد تكلم بطريقة
تلقي بأذهان الناس الشك، فهو يقول:
«بيعة الغدير مما يذكره السنة والشيعة، لكن دخل بعض
الناس على الخط، كما يقرأ في كلمة «مولى»: من كنت مولاه فعلي مولاه،
يعني ناصره، فالقضية ربما كانت من خلال طبيعة الكلمات مجالا لأن النبي
«صلى الله عليه وآله» مثلا، بأذهان الناس يصير شك.
أما لماذا لم يكتب النبي «صلى الله عليه وآله»
كتاباً؟! كان النبي ذاك الوقت يريد للتجربة أن تتحرك»([13]).
ج:
وإذا ضممنا إلى ما تقدم حديث البعض عن سند حديث الغدير،
ودعوته أهل السنة للبحث فيه أيضاً، فهو يقول في نطاق سؤال وجواب:
سؤال: يقول تاريخ الشيعة بأن رسول الله «صلى الله عليه
وآله» نصّب علياً (كرّم الله وجهه) على مشهد من (120) ألف مسلم ما بقي
منهم إلاّ أربعة أو خمسة، فهل هذا مقبول منطقياً؟!
«جواب: ـ عندما ندرس كيف تتبدل الأوضاع، وكيف تتغير
الأفكار وكيف تختلط الأوراق، فإننا نجد بالتجربة الكثير من واقعنا،
والسبب في ذلك هو أن المؤثرات التي يمكن أن تتحرك في الواقع الإجتماعي
أمام أية قضية لا تتحرك في المجرى الإجتماعي الذي يرضاه الناس أو
يحبونه.
فلا بد أن تتحرك الكثير من الأساليب والوسائل من أجل
إبعاد القضية عن خطها المستقيم ولو بالقول.
لقد قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «من كنت
مولاه فعلي مولاه» فهل إن معناه: من كنت أحبه فعلي يحبه، ومن كنت ناصره
فعلي ناصره؟! أو إن معناه: من كنت أولى به من نفسه ـ وهو معنى الحاكمية
ـ فعلي أولى به من نفسه، فبعض الناس يقول هذا تصريح وليس تأكيداً. إنّ
مشكلتنا هي أن (حديث الغدير) هو من الأحاديث المروية بشكل مكثف من
السنة والشيعة، ولذلك فان الكثير من إخواننا المسلمين السنة يناقشون
الدلالة ولا يناقشون السند، في الوقت الذي لا بد أن ندرس القضية من
خلال ذلك أيضاً، فعندما ندرس قصة الحسن والحسين «عليهما السلام» نجد أن
النبي «صلى الله عليه وآله» ربّى لهم حبّا في نفوس المسلمين وقد
استطاعوا أن يعمقوا هذا الحب من خلال سلوكهم وسيرتهم. وكدليل على ذلك
عندما انطلق الإمام الحسين «عليه السلام» وقد بايعه أهل الكوفة التقى
(الفرزدق) في الطريق فقال له: «قلوبهم معك وسيوفهم عليك» ونحن عشنا
أيها الأحبة، الكثير من هذا في (العراق) وعشناه في (لبنان) ونعيشه في
أكثر من موقع في العالم، لأن مسألة الجماهير هي أنها تنطلق بانفعال
وتتحرك بانفعال أيضاً. هذه هي المسألة التي تجعل هذا الواقع واقعا
قريباً من المنطق»([14]).
فمشكلة هذا البعض إذن، هي: أن حديث الغدير مروي بشكل
مكثف عند السنة والشيعة.. ورغم أن أهل السنة يناقشون في دلالة حديث
الغدير فقط، فإنه يتمنى عليهم أن يناقشوا السند بالإضافة إلى المتن..
د: ومهما يكن من أمر، فإن ذلك البعض نفسه هو الذي اعتبر
قضية الإمامة من المتحول الذي لا صراحة فيه من حيث الدلالة إلى درجة
عدم احتمال الخلاف فيه، ولا موثوقا سندا إلى درجة عدم إمكان الشك فيه،
فهو يقول وهو يتحدث عن الثابت والمتحول داخل الثقافة الإسلامية:
هناك المتحول الذي يتحرك في عالم النصوص الخاضعة في
توثيقها ومدلولها للاجتهاد، ما لم يكن صريحاً بالمستوى الذي لا مجال
لاحتمال الخلاف فيه، ولم يكن موثوقاً بالدرجة التي لا يمكن الشك فيه،
وهذا هو الذي عاش المسلمون الجدل فيه، كالخلافة والإمامة، والحسن
والقبح العقليين([15]).
فالإمامة إذن تعاني من مشكلة، إما في السند أو في
الدلالة، ولأجل ذلك اختلف المسلمون؛ فهم مأجورون فيما توصلت إليه
اجتهاداتهم، ولو أخطأوا في تلك الاجتهادات.
ونحن قبل أن نتابع حديثنا نلفت النظر إلى النقاط
التالية:
1 ـ أمّا بالنسبة لأسانيد أحاديث الإمامة.. فنقول: إنها
متواترة في موارد عديدة منها.. عند السنة والشيعة معا، وصحيحة السند في
موارد كثيرة أخرى عند السنة والشيعة أيضاً.. وحديث الغدير أيضاً من
الأحاديث المتواترة، كما لا يخفى على من لاحظ كتاب الغدير للعلّامة
الأميني، وغيره من مؤلفات علماء هذا المذهب، وكذلك مؤلفات سائر
المسلمين.
فلا معنى للحديث حول هذا الموضوع، كما لا معنى لاعتبار
الإمامة من المتحول استنادا إلى ذلك، ولو جزئيا.
2 ـ إن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، قد أمره
الله بتبليغ ما أنزله إليه في قوله تعالى:﴿وَإِنْ
لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾([16]).
فإذا كان قد تكلم بكلمات تستوجب الشك في أذهان الناس،
فمعنى ذلك: أنه لم يبلغ ما أمره الله بتبليغه.
فإمّا أنه تعمّد زرع الشكّ والشبهة في عقول الناس، أو
أنه لم يحسن التبليغ، ولم يعرف الطريقة المناسبة التي يتحقق بها ذلك،
وكلا الأمرين باطل لا يصح نسبته إلى النبي «صلى الله عليه وآله».
وفي كلا الحالين: كيف يصح أن ينزل الله سبحانه بعد
إتمام الحجة في يوم الغدير الآية الشريفة التي تقول:
﴿الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾([17]).
فهل يصح ـ والعياذ بالله ـ أن يقال: إن الله سبحانه لم
يكن عالما بأن رسوله قد أوهم الناس وشكّكهم، ولم يبلغهم ذلك، ولم يمتثل
أمره.. أم أن الله ـ والعياذ بالله ـ قد أراد أن يمتنّ على الناس بأمر
وهمي لا حقيقة له؟!
3 ـ إن فهم المسلمين للنص بطريقة معينة، هل يعني: أن
القصة كانت مجرد فهم واجتهاد خاطيء ـ ولم يكن ثمة تعمد إلى إبعاده عليه
الصلاة والسلام؟! ـ وإذا كان ذلك نتيجة فهم خاطيء فالظاهر: أنهم
مأجورون على هذا الخطأ في الاجتهاد؟!
4 ـ إن هذا الفهم المعيّن للنص هل كان عامّا للمسلمين
كلهم ـ كما هو ظاهر عبارته ـ وهل شمل هذا الفهم المعيّن سلمان، وأبا
ذر، والهاشميين وغيرهم.. أم اقتصر على فريق دون فريق؟!
وماذا نصنع بقول القائل بعدما بايعوا علياً «عليه
السلام» يوم الغدير: بخ بخ لك يا علي، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن
ومؤمنة؟!
5 ـ وإذا كانت الإمامة لا بد فيها من ثبوت النص، ثم
وضوحه، فهل يعني ذلك: أن تصبح الإمامة فاقدة لكلا هذين الشرطين، ويكون
عدّها من المتحول قد وقع من أهله في محله؟! وذلك لأنها ليست من
البديهيات عند بعض المسلمين، منذ وفاة الرسول «صلى الله عليه وآله» على
حدّ زعم البعض، فهي إذن فكر بشري قابل للاجتهاد وليس إلهيّا على حدّ
تعبير ذلك البعض أيضاً، كما تقدّم في مطلع هذا الفصل؟!
ولسنا ندري هل إن وجود شبهة في أمر بديهي لدى البعض
يجعل هذا البديهي من المتحول، ومجرد وجهة نظر؟! وبالتالي يجعله فكراً
بشرياً؟! وهل إذا كانت هناك شبهة في مقابل البديهة تسقط البديهة عن
بداهتها؟!
نعم.. قد دل الدليل على أن من لم يقل بالإمامةـ مع
بداهتها ـلشبهة طرأت عليه، لا لجحود وإنكار، يحكم بإسلامه.
807 ـ الإمامة من المتحول لا من الثابث.
808 ـ الإمامة تتحرك في النصوص الخاضعة للاجتهاد.
809 ـ نصوص الإمامة ليست صريحة بحيث لا يحتمل الخلاف
فيها.
810
ـ نصوص
الإمامة ليست بدرجة عدم إمكان الشك فيها.
811 ـ مسألة الحسن والقبح العقليين من المتحول.
812 ـ مسألة الحسن والقبح العقليين ليست موثوقة بدرجة
لا شك فيها..
813 ـ نصوص الحسن والقبح العقليين ليست موثوقة لا يحتمل
الخلاف فيها.
ويقول البعض، وهو يتحدث عن الثابت، والمتحول:
«..في داخل الثقافة الإسلامية ثابت يمثل الحقيقة
القطعية، مما ثبت بالمصادر الموثوقة، من حيث السند والدلالة، بحيث لا
مجال للاجتهاد فيه، لأنه يكون من قبيل الاجتهاد في مقابل النص.
وهذا هو المتمثل ببديهيات العقيدة كالإيمان بالتوحيد،
والنبوة، واليوم الآخر، ومسلمات الشريعة، كوجوب الصلاة، والصوم،
والزكاة، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحرمة
الخمر، والميسر، والزنا.. واللواط، والسرقة، والغيبة، والنميمة، وقتل
النفس المحرمة ونحو ذلك..
هذا بالإضافة إلى الوضوح في الموقف السلبي أو الإيجابي
من المفاهيم المتقابلة، من الظلم، والعدل، والكذب، والصدق، والخيانة،
والأمانة، ونحو ذلك.
فلا مجال لتحريكها في مستوى رفض المبدأ، بل قد يثور
الجدل فيها على مستوى التفاصيل في المفردات الصغيرة المتناثرة في نطاق
الظروف والطوارئ.
وهناك المتحول الذي يتحرك في عالم النصوص الخاضعة في
توثيقها، ومدلولها للاجتهاد، مما لم يكن صريحا بالمستوى الذي لا مجال
لاحتمال الخلاف فيه، ولم يكن موثوقا بالدرجة التي لا يمكن الشك فيه.
وهذا الذي عاش المسلمون الجدل فيه كالخلافة والإمامة
والحسن، والقبح العقليين، والذي ثار الخلاف فيه بين العدلية وغيرهم..
الخ»([18]).
1 ـ إنني أعتقد أن القارئ الكريم في غنى عن التذكير بأن
الإمامة هي من الثوابت القطعيّة التي لم يزل النبي «صلى الله عليه
وآله» يؤكدها قولاً وعملاً بالإشارة والتلميح، وبالكناية والتصريح،
وبالقول والفعل.
والنصوص الدالة على ذلك تعد بالمئات، بالإضافة إلى
الكثير من الآيات القرآنية التي أوضحت هذا الأمر بجلاء تام..
وإذا لم يكن ذلك كله مما يوجب القطع واليقين، وهو عبارة
عن تواترات عديدة، وصريحة فأي شيء بعد هذا يمكن أن يوجب ذلك؟!
2 ـ إن مجرد حصول الشبهة في الأمر البديهي لا يخرجه عن
دائرة البداهة، ولا يجعله نظرياً، اجتهادياً، لدخوله في دائرة المشكوك
في سنده وفي دلالته.. حسبما ورد في مقولة هذا البعض..
3 ـ ولو صح ذلك.. للزم اعتبار وجوب الصلاة، والصوم،
وغير ذلك من العبادات، من المشكوك، فإنه يدخل في دائرة المتحول
الاجتهادي المشكوك في سنده وفي دلالته، لوجود فِرَق يعتبرها نفس هذا
الشخص فرقاً إسلامية ـ كالدروز مثلاً ـ، لا تجد ضرورة لممارسة هذه
الشعائر، ولا تعتبرها من الأحكام الثابتة والملزمة.
وقد كتب هذا البعض نفسه مقدمات لكتب صدرت عن اتباع تلك
الفرق أيد فيها إسلاميتها، ومدحها بما تيسر له.. ولا نريد أن نقول أكثر
من ذلك..
وأعتقد أن إلقاء نظرة سريعة على مقولات الفرق المعدودة
في فرق المسلمين.. يثير العجب، والدهشة مما أثارته تلك الفرق والمذاهب
من مقولات، وشبهات حول أبده البديهيات.. فهل تخرجها تلك الشبهات عن
دائرة البداهة، وتجعلها من المتحول في عالم النصوص التي لا يقين
بسندها، ولا بدلالتها؟!.
4 ـ والأغرب من ذلك كله.. أنه جعل مسألة الحسن والقبح
العقليين من المتحول الذي يتحرك في عالم النصوص التي لم تكن صريحة
بالمستوى الذي لا مجال لاحتمال الخلاف فيه، ولا موثوقا بالدرجة الذي لا
يمكن الشك فيه، مع أن المسألة عقلية كما هو صريح عنوانها.. فأين هذه
المسألة من عالم النصوص المتيقنة أو المشكوكة.
([1])
أسئلة وردود من القلب (الطبعة الثانية) ص83 ومجلة المرشد
العددان 3 و 4 ص47.
([2])
الآية 23 من سورة الزخرف.
([3])
الآية 23 من سورة الزخرف.
([4])
للإنسان (الطبعة الثانية) والحياة ص195.
([5])
تأملات في آفاق الإمام الكاظم «عليه السلام» (الطبعة الأولى ـ
دار التعارف) ص94.
([6])
حوارات في الفكر والسياسة والإجتماع ص480.
([7])
مجلة المنهاج العدد الثاني مقالة الأصالة والتجديد ص60.
([8])
مجلة المنهاج العدد الثاني مقالة الأصالة والتجديد ص60.
([10])
كلام هذا البعض، ورد في شريط مسجل بصوته، وهو موجود لدى المؤلف
برقم 32.
([12])
للإنسان والحياة ص257.
([13])
من شريط مسجل بصوته بتاريخ 14 ـ 10 ـ 1995.
([15])
مجلة المنهاج عدد 2 مقالة الأصالة والتجديد.
([16])
الآية 67 من سورة المائدة.
([17])
الآية 3 من سورة المائدة.
([18])
مجلة المنهاج: العدد الثاني, ص61 سنة 1417 هـ.
|