تمهيد

   

:   

بداية وتوطئة:

قد تعرض هذا الكتاب إلى أمور أثيرت في الآونة الأخيرة، حول «مأساة الزهراء «عليه السلام».. شبهات وردود»، وما جرى عليها بعد وفاة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وحول أمور أخرى لها نوع ارتباط بها «صلوات الله وسلامه عليها» ـ أثيرت ـ بطريقة تطلبت منا توضيحاً، أو تنقيحاً.

وقد أحببنا قبل الدخول في ما هو المهم: أن نذكر القارئ العزيز بأمور وبنقاط، يرتبط أكثرها بإثارات في دائرة البحث العلمي لا بد له من الإطلاع عليها، كنا قد أوردنا قسما منها في مقال لنا نشر قبل أشهر بعنوان: «لست بفوق أن أخطئ من كلام علي «عليه السلام»..».

ونعيد عرض بعضها للقارئ الكريم في هذا التمهيد أيضاً لأهميتها، ولأنه قد لا يتيسر له المراجعة إليها في ذلك المقال، فإلى ما يلي من نقاط معادة أو مزادة، والله ولي التوفيق:

نقاط لا بد من ملاحظتها:

1 ـ لقد وردت النقاط التي ألمحنا إليها وناقشناها في هذا الكتاب في مؤلفات، ومقالات، ومحاضرات، ومقابلات صحافية، أو إذاعية، أو تلفزيونية.

وقد حرصنا على أن لا نصرح باسم قائلها من أجل الحفاظ على المشاعر، حيث لم نرد أن نتسبب بأدنى دغدغة للخواطر، وقد كنا ولا نزال نحرص على صداقتنا مع الجميع، وحبنا لهم، وإرادة الخير لكل الناس. ولولا أننا رأينا أن من واجبنا المبادرة إلى توضيح بعض الأمور، لكنا أعرضنا عن نشر هذه المطالعة من الأساس.

فإذا ما أراد شخص أن يعتبر أن ما يرد في هذا الكتاب يعنيه دون سواه، على قاعدة: «كاد المريب أن يقول: خذوني»، فذلك شأنه،

ولكننا نسدي له النصح بأن لا يفعل ذلك، لأننا، إنما نقصد بذلك نفس القول من أي قائل كان.

2 ـ قد تصادف في حياتك العلمية بعض المتطفلين على الثقافة والمعرفة، ممن قد يحملون بعض الألقاب أو العناوين يشن حملة تشهيرية ضد من يخالفه في الرأي أو يناقشه فيه، ولو على القاعدة التي أطلقها بعض هؤلاء بالذات منتصراً ليزيد بن معاوية، حين اعتبر لعنه سقوطا، فقال: «ولكن تلك المحافل سقطت في جوانب منها إلى السباب واللعن، فلم تكتف بالشمر اللعين، بل طالت فيمن طالت معاوية ويزيد وبني أمية»([1]).

فإذا واجهنا نحن أيضاً هذا النوع من الناس، فإن ذلك لن يرهبنا، ولن يمنعنا من اتباع هذا الكتاب بنظائر له، تناقش شتى الموضوعات المطروحة بطريقة علمية وموضوعية، وهادئة، إذا كان ثمة ضرورة لمناقشتها، أو إذا تبلور لدينا شعور بالتكليف الشرعي الملزم باتخاذ موقف تجاهها، إذ قد بات من الواضح: أنه لا مجال للمجاملة أو المهادنة في أمر الدين، وقضايا العقيدة، وما يتعلق بأهل البيت «عليهم السلام».

ولن نلتفت إلى مهاترات بعض هؤلاء، أو أولئك. فما ذلك إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.

وليحق الله الحق بكلماته، ويبطل كيد الخائنين.

3 ـ وبعد.. فقد يقول البعض: إن مناقشة الأفكار ونقدها يعتبر تشهيرا بصاحب الفكرة، مع أن اللازم هو حفظه، والتستر على أخطائه، وعدم الاعلان بها.

ونقول:

أولاً: إذا كانت مناقشة الأفكار ونقدها تشهيرا، فاللازم هو إغلاق أبواب المعرفة والعلم، ومنع النقد البناء من الأساس، مع أن نقد أفكار حتى كبار العلماء عبر التاريخ هو الصفة المميزة لأهل الفكر والعلم، خصوصا أتباع مدرسة أهل البيت «عليهم السلام».

ثانياً: إن التشهير الممنوع هو ذلك الذي يتناول الأمور الشخصية، وليس النقد البناء والموضوعي وتصحيح الخطأ في الأمور العقيدية، والإيمانية والفكرية، معدودا في جملة ما يجب فيه حفظ الأشخاص، ليكون محظورا وممنوعا.

لا سيما إذا كان هذا الخطأ سينعكس خطأ أيضاً في عقائد الناس، وفي قضاياهم الدينية ومفاهيمهم الايمانية، فإنها تبقى القضية الأكثر إلحاحا، وإن حفظ الناس في دينهم هو الأولى والأوجب من حفظ من يتسبب بالمساس بذلك، أو يتطاول إليه.

ولا بد للإنسان أن يعرف حده فيقف عنده، ولا يحاول النيل من قضايا وثوابت الدين والعقيدة، والإيمان.

3 ـ وثالثاً: إن المبادرة إلى نقد الفكرة ليس تجنيا ولا تشهيرا، بل إن الإصرار على طرح الأمور التي تمس الثوابت الدينية أو المذهبية أو التاريخية، أو غيرها بطريقة خالية من الدقة العلمية، وتجاوز الحدود الطبيعية هو الذي يؤدي إلى التشهير بصاحبها.

4 ـ قد يرى البعض إن التعرض إلى بعض الثوابت يمثل نوعا من التجديد في الفكر، أو في الثقافة الإسلامية أو التاريخية، وما إلى ذلك.

ولكن الحقيقة هي أن ما قد اعتبر من هذا القبيل هو ـ على العموم ـ يمثل عودة إلى طرح أمور سبق الآخرون إلى طرحها في عصور سلفت، بل لا يزال كثير منهم يذكرون أبعاضا منها في مناقشاتهم مع الشيعة الإمامية إلى يومنا هذا، وهو مبثوث في ثنايا كلماتهم، واحتجاجاتهم الكلامية والمذهبية في مؤلفاتهم.. كما لا يخفى على المتتبع الخبير. وقد أجاب عنها الشيعة الإمامية ولا يزالون، بكل وضوح ودقة، ومسؤولية، ووعي، ولله الحمد.

5 ـ هناك مقولة سمعناها وقرأناها أكثر من مرة تفيد: أن علينا أن لا نخشى من طرح القضايا على الناس، فإن القرآن قد نقل لنا أفكار المشككين في النبي:

«وكيف لنا أن نعرف ما قالوه فيه «صلى الله عليه وآله» من أنه مجنون، وساحر، وكاذب لو لم يستعرض القرآن مواقفهم المعادية».

ونقول:

أولاً: إن قولهم: ساحر، وكاذب، ومجنون، ليس أفكاراً للمشككين، بل هو مجرد سباب وشتائم، وإهانات منهم لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، في نطاق الحرب الإعلامية ضد الرسول «صلى الله عليه وآله»، والذين قالوا ذلك أنفسهم كانوا يعرفون كذبها وزيفها أكثر من غيرهم.

ثانياً: إن إثارة التساؤلات وإلقاء التشكيكات والسباب، وكيل التهم للنبي «صلى الله عليه وآله» أو لغيره لا يعتبر فكرا، فضلا عن أن يكون تجديدا في الفكر، أو حياة له وفيه.

ثالثاً: إن القرآن حين تحدث عن مقولات هؤلاء فإنما تحدث عنها في سياق الرد عليها، وتهجينها فلم يكتف بمجرد إثارتها ولا تركها معلقة في الهواء، لتتغلغل وتستحكم في نفوس الناس الذين لا يملكون من أسباب المعرفة ما يمكنهم من محاكمتها بدقة ووعي وعمق.

6 ـ يقول البعض: إن مسؤولية العالم أن يظهر علمه إذا ظهرت البدع في داخل الواقع الإسلامي وخارجه، وإذا لم يفعل ذلك «فعليه لعنة الله» كما يقول النبي «صلى الله عليه وآله»، والله تعالى قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ([2]).

ونقول:

إننا عملاً بهذه المقولة بالذات، قد ألزمنا أنفسنا في كل حياتنا العلمية بالتصدي العلمي لأي تساؤل يثار في داخل الواقع الإسلامي وخارجه، إذا كان يمثل إدخالا لشيء جديد في تراثنا الفكري، أو في الدين الحنيف، أو في المذهب الحق الذي حقق حقائقه رموز الإسلام، ورواد التشيع الأصيل، وأساطين العلم وجهابذته، بالأدلة الواضحة والبراهين اللائحة.

7 ـ قد يجعل بعض الناس دعواه هي نفسها دليله القاطع عليها، فليتأمل المتأمل في ذلك، وليلتفت إليه.

8 ـ إذا كان ثمة من يحاول هدم الأدلة التي أقامها العلماء على قضية عقيدية أو غيرها، فبقطع النظر عن فشله أو نجاحه في ذلك، فإنه حين لا يقدم الدليل البديل، فإنه يكون بذلك قد قرر التخلي عن تلك العقيدة التي زعم أنه هدم دليلها، حيث لا يمكنه أن يلتزم بعقيدة ليس له دليل عليها، إلا إذا كان مقلداً في الأمور العقائدية، وهو أمر غير مقبول من أحد من الناس.

9 ـ وقد يقول البعض: إنه ليس من حق أحد أن ينصحه، بأن لا يطرح على الناس العاديين بعض آرائه وتساؤلاته حول الأمور العقيدية، والإيمانية، والتاريخية التي يخالف فيها ما أجمع عليه علماء المذهب، ورموزه وجهابذته، حتى لو كانت هذه النصيحة تهدف إلى صيانته عن الوقوع في المحذور الكبير إذا كان ما سيطرحه يمثل خروجا خطيرا، يفرض على العلماء الذين يحرم عليهم كتمان العلم والبينات مواجهته بالدليل القاطع، وبالحجة البالغة، وبالأسلوب المماثل، بل بأي أسلوب مشروع يجدي في التوضيح والتصحيح.

هذا عدا عن أنه يستتبع أيضاً أمورا خطيرة فيما يرتبط بآثار هذه المخالفات وتبعاتها، وما يفرضه على الآخرين من طريقة تعامل معه، وأسلوب التعرض لتساؤلاته وآرائه وطروحاته.

10 ـ ويقول أيضاً: «يخاف البعض أن يؤدي طرح المسائل الفكرية والعقائدية إلى مس أفكار متوارثة قد تكون صحيحة، وقد لا تكون».

ثم يتوجه إلى الناس بقوله: «لا تبيعوا عقولكم لأحد، ولا تبقوا على جمودكم على غرار ما ذكرته الآية الكريمة: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ([3])، لأن كل جيل يجب أن ينفتح على الحقيقة وفق ما عقله، وفكر به».

ثم يستدل على لزوم طرح أفكاره وتساؤلاته بحديث: إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله، وبالآية الكريمة المتقدمة ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾([4]) الخ..

ونقول:

إننا لا ندري ما هو المبرر لهذا التصريح الخطير الذي ضمنه اتهاما بأن بعض أفكار وعقائد مذهبنا الحق قد لا تكون صحيحة!!

وما كنا نظن أن اتباع هذا المذهب يتوارثون أفكارهم وعقائدهم من دون دليل وحجة، وإنما لمجرد التقليد الأعمى غير المقبول ولا المعقول!! ولم نكن نحسب أن أتباع هذا المذهب قد أصبحوا موردا لقوله تعالى: إنا وجدنا آبائنا على أمة الخ..!!

والأدهى من ذلك كله: تصنيف عقائدنا (المتوارثة!!) على حد تعبيره في عداد البدع التي ظهرت. فاحتاج إلى إظهار علمه انطلاقا من حديث: إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه!!

11 ـ وربما يلجأ البعض إلى إظهار أية معالجة علمية للمقولات التي تصدر عنه، على أنها تتصل بدوافع شخصية، ثم تبدأ التحليلات،

والتكهنات، وتصاغ التهم، فينشغل الناس بها، وينسوا ما وراء ذلك.

ونحن لا نريد أن نفرض على أحد أن يحسن ظنه بأي كان، وإن كنا نعتقد: أن إحسان الظن ـ خصوصا ـ على المستوى العلمي هو ما تدعو إليه الأخوة الإسلامية والإيمانية.

ولكننا نذكر المشتغلين بالشأن العلمي بأمر يوجبه الله سبحانه وتعالى على الجميع، وهو أن عليهم أن ينأوا بأنفسهم على التكهنات، والتهم والرجم بالغيب، مع ما يتضمن ذلك من تعد على كرامات الناس من دون إثبات له بالطرق الشرعية. وهذا التعدي مرفوض، ويعد مخالفة لأحكام الشرع والدين، وللضمير والوجدان.

ثم إننا نذكر أيضاً بأمرين:

أحدهما: إن هذا النوع من الفهم للأمور، لا يقلل من قيمة الطرح العلمي أو الفكري الذي تقدمه تلك المعالجة، التي ربما يراد حجب تأثيرها بأساليب كهذه، بل تبقى الروح العلمية، ومتانة الدليل هي المعيار والميزان في الرد أو في القبول، إذا اقتضى الأمر أيا من هذين الأمرين في أي مسألة من المسائل التي هي في صلب اهتماماتنا، وتقع في سلم الأولويات عندنا.

الثاني: إننا قد لا نجد مبررا لإساءة الظن هذه، لأن المعابير الشرعية هي التي يجب أن تحكم أي موقف أو سلوك، لا سيما إذا كانت العلاقة فيما بين طرفي الحوار حميمة وسليمة على مدى حين طويل من الدهر، لولا هذه المعارضة للأفكار، يريد أن يروج لها، ويستظهر بها، وينتصر لها بقوة وبحماس، فحرك الطرف الآخر شعوره بالمسؤولية العلمية أو الشرعية لبيان ما يراه حقا وصدقا، ولا حرج ولا غضاضة في ذلك، بل إنه لو لم يفعل ذلك لكان للريب في صلاحه واستقامته مجال ومبرر، مقبول ومعقول.

12 ـ يقول البعض: إن ما يصدر عنه من مقولات هو مجرد اجتهاد، ويحق لكل أحد أن يمارس الاجتهاد، ويخالف الآخرين في آرائهم..

ونقول:

لا حرج في أن يجتهد فلان من الناس، ويخالف الآخرين في آرائهم أو يوافقهم.. إذا كان الأمر يقتصر عليه هو، وينحصر به، ويمثل عقيدة شخصية له، لا تتعداه إلى غيره.

أما إذا كان هذا الشخص يريد أن ينشر بين الناس اجتهاده المخالف لثوابت المذهب التي قامت عليها، البراهين القاطعة، ودلت عليها النصوص الصريحة والصحيحة والمتواترة، فيدعوا الناس إلى مقالاته المخالفة لها، فالموقف منه لا بد أن يختلف عن الموقف من ذاك، حيث لا بد من التصدي له، وتحصين الناس عن الانسياق معه، في أفكاره التي تخالف حقائق الدين وثوابته التي حققها رموز المذهب وأعلامه، ولا بد من وضع النقاط على الحروف، وتوضيح التفاوت والاختلاف فيها بينه وبينهم.

ويتأكد لزوم مواجهة طروحاته حين نجده يقدمها للناس بعنوان أنها هي الفكر المنسجم مع ما تسالم عليه علماؤنا تحت شعار التجديد والعصرنة، ولا يعترف أبدا بأنها تختلف مع كثير من الحقائق الثابتة في النواحي العقيدية والإيمانية، الأمر الذي لا ينسجم مع الأمانة الفكرية ولا مع خلقية الإنسان الناقل والناقد.

13 ـ قد يلاحظ على البعض إيغاله في الاعتماد على عقله، وفي إعطائه الدور الرئيس، والقرار الحاسم، حتى في أمور ليس للعقل القدرة على الانطلاق في رحابها، بل ربما جعل من عقله هذا معيارا ومقياسا، مدعيا أنه يدرك علل الأحكام، فيعرض النصوص عليه، فإن أدرك مغزاها، وانسجم مع محتواها قبلها ورضيها، وإلا فلا يرى في رفضها، والحكم عليها بالوضع والدس أي حرج أو جناح.

ونوضح ذلك في ضمن فرضيتين يظهر منهما موضع الخلل:

إحداهما: إن ظاهر النص قد يتناقض مع حكم العقل، تناقضا ظاهرا وصريحا في أمر هو من شؤون العقل، ويكون للعقل فيه مجال، وله عليه إشراف. ففي هذه الحالة لا بد من تأويل النص بما يتوافق مع العقل، وينسجم مع قواعد التعبير.

فإن لم يمكن ذلك فلا بد من رده، ورفضه، وهذه الفرضية هي الصحيحة والمقبولة لدى العلماء.

الثانية: إن يعجز عقل الفرد عن إدراك وجه الحكمة أو العلة في ما تحدث عنه النص، كما لو تحدث النص عن أن المرأة الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، أو تحدث عن أن الله سبحانه سيرجع في آخر الزمان أناسا من الأولياء، وأناسا من الأشقياء، فينال الأولياء الكرامة والزلفى، ويعاقب الأشقياء ببعض ما اقترفوه، ويشفي بذلك صدور المؤمنين.

فإذا عجز عقله عن تفسير ذلك الحكم، أو هذا الحدث الذي أخبر عنه النص، رأيته يبادر إلى رفضه، أو يطالب بتأويله، ويقول: إن المراد هو رجعة الدولة والنفوذ مثلاً.

مع أنه لا مورد لذلك الرفض، ولا لتلك المطالبة بالتأويل.

إذ ليس من المفترض أن يدرك عقل هذا الشخص جميع العلل والحكم لكل ما صدر أو يصدر عن الله سبحانه.

كما أنه إذا لم يستطع عقله أن يدرك بعض الأمور والأسرار اليوم، فقد يدرك ذلك غدا، بل قد لا يتمكن الآن أحدا من إدراكها، ثم تدركها أجيال سوف تأتي بعد مئات السنين، كما هو الحال بالنسبة لكثير مما تحدث عنه القرآن من أسرار الكون والحياة التي عرفنا بعضها في هذا القرن.

وحتى لو لم ندرك ذلك، وبقي في دائرة من استأثر الله لنفسه بمعرفته، وربما علمه أنبياءه وأولياءه، فما هو الإشكال في ذلك؟!

ويبدو لنا: أن الاسراف في تقديس العقل، باعتباره هو مصدر المعرفة الأوحد، وجعله مقياساً لرد أو قبول النصوص حتى في هذه الفرضية الأخيرة ـ إن ذلك ـ مأخوذ من المعتزلة، وقد كان هو الداء الدوي لهم، ومن أسباب انحسار تيارهم، وخمود نارهم في العصور السالفة.

وما هو التاريخ يعيد نفسه، حيث نشهد العودة إلى نفس مقولتهم، التي أثبت الدليل بطلانها، كما عادت مقولات أخرى أكل الدهر عليها وشرب لتطلع رأسها من خبايا التاريخ وزواياه، لتطرح من جديد باسم التجديد، تارة، وباسم العصرنة والفكر الجديد أخرى، والله هو الذي يبدئ ويعيد، وهو الفعال لما يريد.

14 ـ قد يحاول البعض أن يدعي: أن السبب في نقد أفكار هذا الشخص أو ذاك هو إرادة إثارة الأجواء ضده، لأنه يحتل موقعا متميزا، فتحركت العصبيات في هذا الاتجاه أو ذاك، بهدف إسقاطه..

ونقول:

أولاً: إن من الواضح: أن الكثيرين ممن أعلنوا رفضهم لتلك الأقاويل ويناقشونها لا يعيشون فكرة أو هاجس «المقامات، والعناوين»، حتى ولو كان هو عنوان أو فكرة المرجعية بالذات، ولا يقع ذلك كله في دائرة اهتماماتهم.

ثانياً: إننا قد نجد أن أصحاب تلك الأقاويل المتهمة نفسها هم الذين يبادرون إلى طرح الأمور المثيرة، ويعيشون هاجس نشر طروحاتهم بكل الوسائل، ويرفعون من مستوى التوتر والحماس تارة، ويخفضونه أخرى. وقد أثبتت الوقائع ذلك.

ثالثاً: عدا عن ذلك كله، فإن المعيار والميزان في الفكرة المطروحة هو عناصر الاقناع فيها، وحظها في ميزان الخطأ والصواب، ومدى قربها وبعدها عن حقائق الدين والمذهب.

وليس لأحد أن يدعي علم الغيب بما في ضمائر الناس، وحقيقة دوافعهم، فلتكن دوافعهم هذه أو تلك، فإن ذلك لا يؤثر في تصحيح أو تخطئة الفكرة، ولا يقلل أو يزيد من خطورتها.

15 ـ ما زلنا نسمع البعض يطرح مسائل في مجالات مختلفة، لا تلتقي مع ما قرره العلماء، ولا تنسجم مع كثير مما تسالموا عليه استنادا إلى ما توفر لديهم من أدلة قاطعة تستند إلى قطعي العقل، أو صريح النقل أو ظاهره..

وقد بذلت محاولة تهدف إلى بحث هذه الأمور مع نفس أولئك الذين بادروا إلى إثارتها، وطلب منهم في أكثر من رسالة، وعبر أزيد من رسول الدخول في حوار علمي مكتوب وصريح، توضع فيه النقاط على الحروف، ويميز فيه الحق من الباطل بالدليل القاطع وبالحجة الدامغة.

وذلك على أمل أن يؤدي ذلك لو حصل إلى أن تجنب الساحة سلبيات إعلانهم المستمر بما لا يحسن الاعلان به، قبل التثبت واليقين، وسد جميع الثغرات فيه.

ولكن ـ للأسف الشديد ـ قد جاءنا الجواب منهم برفض الحوار، إلا أن يكون ذلك بين جدران أربع، وخلف الأبواب، وهذا ما يسمونه بالحوار!!

لقد أبوا أن يكتبوا لنا ولو كلمة واحدة تفيد في وضع النقاط على الحروف، متذرعين بعدم توفر الوقت لديهم، للكتابة، رغم أنهم قد كتبوا وما زالوا يكتبون حتى هذه المسائل بالذات، ويوزعون ذلك في أكثر من اتجاه، لأناس بأعيانهم تارة، وللناس عامة أخرى... وفي مقالاتهم، وخطاباتهم، ومحاضراتهم عبر وسائل الإعلام المختلفة ثالثة.

وحين لمسوا منا الإصرار على موقفنا، لم يتحرجوا من العودة إلى قواميسهم ليتحفونا بما راق لهم منها، مما له لون، وطعم، ورائحة، من قواذع القول، وعوار الكلم، وتوجيه سهام الاتهام.

وكأن طلبنا للحوار العلمي كان كفرا بالله العظيم. أو ربما أقبح لو كان ثمة ما هو أقبح.

ولعل أيسر ما سمعناه وأخفه وأهونه هو أننا نتحرك بالغرائز، أو نعاني من التخلف والعقد، والوقوع تحت تأثير هذا وذاك، هذا عدا

عن وصفنا بالذهنية الايرانية، وبالتعصب. وهذه هي التهمة المحببة إلينا، لأننا إنما نتعصب للحق، وندافع عنه، وهو أمر ممدوح ومرضي عند الله ورسله، وعند أوليائه وأصفيائه صلوات الله عليهم أجمعين.

هذا، مع العلم: أننا كنا وما زلنا إلى ما قبل أشهر يسيرة من تاريخ كتابة هذه الكلمات من خير الأحباب والأصحاب لهم ومعهم، ولم يعكر صفو هذه المحبة والمودة إلا أننا اكتشفنا في هذه الآونة الأخيرة ما رأينا أن تكليفنا الشرعي يفرض علينا أن نطلب منهم الحوار العلمي الهادئ والرصين لحل معضلته.

16 ـ إن هذا الكتاب الماثل أمام القارئ الكريم يقدم قدرا كبيرا من النصوص المأخوذة من عشرات بل مئات المصادر، رغم أنه أنجز في أشهر لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، وهي مدة قصيرة، لا تسمح بكثير من التنقيب والتقصي، لا سيما مع وجود كثير من الصوارف عن القيام بأدنى جهد في الأيام ذات العدد، خلال تلك المدة.

ونجدنا بحاجة إلى تذكير القارئ الكريم، بأن المصادر الموضوعة في هوامش الكتاب كانت كثيرة إلى درجة بتنا نخشى معها أن نكون قد وقعنا في أخطاء في أرقام الأجزاء والصفحات، كما أننا أخذنا في موارد كثيرة من طبعات عدة للكتاب الواحد فليلاحظ ذلك..

هذا.. وإن اهتمامنا بالمصادر ـ كما هو ديدننا ـ يأتي على قاعدة وضع القارئ أمام أدق جزئيات الحدث وتفاصيله ليكون هو الذي يوازن، ويفكر، ثم يستنتج ويقرر، من خلال تشبثه بأسباب المعرفة، وإشرافه المباشر على الأمور المطروحة، واطلاعه على ما لها

من مناخات وظروف وأحوال، لتكون نظرته إلى الأمور ـ من ثم تتسم بالدقة، والعمق، ومن منطلق الوعي والإحاطة، وتمتاز بالأصالة والثبات.

وهذه الطريقة قد لا يستسيغها بعص الناس، الذين قد تقرأ لهم مئات بل آلاف الصفحات، فتجدهم يستغرقون بالإنشائيات، التي تعتمد على الكلمة الرنانة، وعلى الدعاوى العريضة، من دون أن يوثق ذلك بالنص الصريح، أو أن يفتح لك آفاق المعرفة المباشرة والشاملة، إلا نزرا يسيرا مما يتداوله عامة الناس أو خصوص ما يؤيد فكرته منها!!

إنه يكتم عنك الكثير مما يرى أن من المصلحة أن لا تهتدي إليه، أو أن تطلع عليه، وإن أردت شيئاً من ذلك فلن تجد في نفسك معطيات التفكير فيه، حيث لن تملك من وسائله شيئاً، ولن يجعلك ـ إن استطاع ـ تحصل على شيء يمكنك أن تمسك به، وتطبق يدك عليه.

إنه يريد منك أن تقرأ ثقافته هو، وتجربته كفرد، وتهوم في آفاقه، وتتلمس آلامه، وآماله، وأحلامه، وحتى تخيلاته وأوهامه، وليس ثمة شيء وراء ذلك إلا السراب، والسراب فقط.

17 ـ وبعد، إننا نأسف كل الأسف إذا قلنا: إن هذا الكتاب لم يقدر له أن يعالج موضوعا محددا له بداية ونهاية، وعناصر لها ما يجمع بين متفرقاتها، ويؤلف بين مختلفاتها، بل هو يعالج شتاتا من المسائل المختلفة، استخدمها البعض للتشكيك في أحداث جرت على الزهراء «عليها السلام»، أو أثارها في مناسبة الحديث عنها «عليها السلام»، لسبب أو لآخر.


 

([1]) جريدة السفير: 27/6/1996م من مقال لأحد الأساتذة.

([2]) الآية 159 من سورة البقرة.

([3]) الآية 22 من سورة الزخرف.

([4]) الآية 159 من سورة البقرة.

 
   
 
 

موقع الميزان