يحاول بعض الناس أن يدعي: أن الزبير انصرف عن الحرب.
ربما لكي يحقق الأهداف التالية:
1 ـ
كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة قالا:
ومضى الزبير في صدر يوم الهزيمة راجلاً نحو المدينة، فقتله ابن جرموز.
2 ـ
أن يبعد عن الزبير شبح عار الهزيمة، في الوقت الذي يريدون فيه أن
يظهروه على أنه يضارع علياً في فروسيته، فهو بطل مغوار، وفارس كرار،
لطالما جلَّى سيفه الكرب عن وجه رسول الله «صلى الله عليه وآله».. مع
أن هذا من المكذوبات اليقينية، كما أشرنا إليه في غير موضع من هذا
الكتاب.
3 ـ
إنه لم يحارب إمامه الذي بايعه..
4 ـ
لم يتحقق فيه قول رسول الله «صلى الله عليه وآله» له عن علي «عليه
السلام»: لتقاتلنه، وأنت له ظالم.
5 ـ
إن ما صدر منه في البداية من المسير إلى الحرب كان بسبب نسيانه قول
رسول الله «صلى الله عليه وآله».
6 ـ
إنه ليس شريكاً في الدماء التي أريقت في حرب الجمل، والتي بلغت عشرات
الألوف من المسلمين..
7 ـ
إنه قتل مظلوماً، بيد غادر فاتك.
ولكن قد فات هؤلاء:
أولاً:
أن من يجمع هذه الألوف المؤلفة لحرب إمام قد بايعه، لا يكفي أن يقول:
نسيت، ثم ينصرف إلى بيته، وينام قرير العين، هادئ البال، وقد غفر ذنبه،
وتاب عليه ربه. بل عليه أن يصلح ما أفسد، وأن يخرج مما فعله، ويعمل على
تفريق من جمعهم، وهداية من أضلهم. وبيان الحقائق لمن غشهم، وكذب
عليهم..
ثانياً:
تقدم: أن الحديث عن توبته ورجوعه منقوض بنصوص كثيرة، تدل على أنه عاد
إلى الحرب، بعد أن أعتق عبده مكحولاً.. ولعله أعتق عبداً آخر باسم سرجس
أيضاً. وربما كانا اسمين لشخص واحد..
بالإضافة إلى تصريح نصوص كثيرة: بأنه قتل وهو منهزم.
ثالثاً:
ذكرنا أيضاً: أن نفس استجارته بهذا وذاك من الرجال المعروفين يدل على
أنه لم يتب، ولم ينصرف عن الحرب. وإلا فما وجه الحاجة إلى الجوار إن لم
يكن له عدو يطلبه. ويحتاج إلى من يحميه منه..
رابعاً:
إن علياً «عليه السلام» قد أعلن بعد هزيمة الناكثين: أنه قد آمن الأبيض
والأسود، وأمر جميع من معه أن لا يتبعوا مدبراً، ولا يجهزوا على جريح..
فغاية ما كان سيحصل للزبير في هذه الحال: أن يؤخذ ويسلِّم إلى علي
«عليه السلام»، فلن يجد عنده إلا الترحيب والإكرام، لأنه قد انصرف عن
حربه. وتاب من ذنبه. فلماذا يستجير بهذا أو بذاك؟!
خامساً:
لو كان الزبير قد انصرف عن الحرب أمام الناس كلهم، وسلك سبيل وادي
السباع إلى المدينة، لتسامع الناس بذلك، وانقسم الجيش، ولكانت قد لحقته
ثلة منه، ألف أو آلاف أو مئات أو مئة شخص..
ولكان عمرو بن جرموز لم يأت بخاتمه وسيفه، وغير ذلك إلى
علي «عليه السلام» ويطلب منه الجائزة.. لأنه يعلم: أن علياً «عليه
السلام» سيلومه، وسيحاسبه ويعاقبه.. لأنه قتل امرءاً مسلماً تائباً من
ذنبه، هارباً إلى ربه..
إلا أنه يدَّعي:
أن ابن جرموز لم يعلم بانصرافه عن الحرب، وفي هذه الحال، نقول:
كان من المناسب، أو المتوقع أن يسأله علي «عليه
السلام»: ألم يبلغك أنه تاب، وانصرف عن الحرب، فلِم قتلته؟!
سادساً:
تضمن هذا النص الذي نقله الطبري: أن الزبير مضى في صدر يوم الهزيمة نحو
المدينة.. فكأنه يشير إلى أن المعركة قد بقيت أكثر من يوم، وهذا يؤيد
قول من صرح بذلك، وأنها بقيت ثلاثة أيام.
كما أنه يدل على أن الزبير قد قاتل في الأيام التي سبقت
يوم الهزيمة..
ويؤيد ذلك:
قوله: إنه انصرف إلى المدينة راجلاً، فإنه يدل على أنه فقد فرسه، ولم
يجد فرصة للحصول على غيرها. بسبب الخوف من أن يدركه أعداؤه فيقتلوه..
ولو كان قد انصرف عن الحرب تائباً، فالمفروض أن علياً
«عليه السلام» قد واجهه وطالبه بما سمعه من رسول الله «صلى الله عليه
وآله» قبل نشوب الحرب. وكان فرسه لا يزال معه.
فيكون انصرافه راجلاً قرينة على أنه انصراف هزيمة لا
انصراف قرار توبة وعزيمة..
قال الذهبي: «وقتل الزبير بن العوام الأسدي، حواري رسول
الله «صلى الله عليه وآله»، وابن عمته، وأول من سلّ سيفه في سبيل الله.
قتله ابن جرموز بوادي السباع»([1]).
ونقول:
أولاً: إن ما ادعاه الذهبي:
من أن الزبير هو حواري رسول الله «صلى الله عليه وآله»
قد تقدم بطلامه في الفصل السابق.
ثانياً:
ما ادعاه أيضاً: من أن الزبير هو أول من سل سيفه في
سبيل الله.. ليس بصحيح.
والظاهر:
أنه تعمد إطلاق هذه الدعوى هنا من أجل التعتيم على الجريمة العظمى التي
اقترفها، وهي خروجه على إمامه، ونكثه البيعة التي له في عنقه، وانتهابه
بيت مال المسلمين، وأنه قد قتل، وهو منهزم من حرب ظالمة، كان هو أحد
أهم القادة فيها. وقد قتل فيها عشرات الألوف..
غير أننا نقول:
1 ـ
إن ما ذكره من أن الزبير أول من سل سيفاً إنما أخذه من أبي هلال
العسكري في كتابه: «الأوائل»([2])
الذي فرغ من تصنيفه سنة 394 هـ ق. وذكره أيضاً غيره.
وادعى بعضهم: أن عمر الزبير حين شهر سيفه أحد عشرة سنة،
حين بلغه أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد قتل([3]).
مع تصريحهم بأن عمره كان حين أسلم اثنتي عشر سنة([4]).
مع أن هذا أيضاً غير صحيح، لأن الزبير قد قتل وهو ابن
ست وستين سنة([5]).
فلو كان قد أسلم يوم بعث رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فإن عمره
يكون آنئذٍ سبع عشرة، أو ثماني عشرة سنة.. فلو كان قد أسلم وعمره اثنا
عشرة سنة، فيكون إسلامه قبل بعثة النبي «صلى الله عليه وآله» بخمس أو
ست سنين!!
2 ـ
يضاف إلى ذلك: أن الراوي لأوليته في إشهار السيف هو
ابنه عروة وسعيد بن المسيب، وراوي ذلك عنهما هو الزبير بن بكار([6]).
3 ـ
إنه حتى لو كان الأمر كذلك، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون الرجل من
المحسنين في بداية أمره، ثم يسيء في آخر عمره..
وفي التاريخ شواهد كثيرة تدل على حصول مثل هذا الأمر
لكثيرين حيث إن بعض الناس قد يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، كما أن بعضاً
آخر يمسي كافراً ويصبح مؤمناً. وقد قال تعالى مشيراً إلى هذا الأمر: ﴿وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ
يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا﴾([7]).
وقال سبحانه: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾([8]).
وقال سبحانه: ﴿وَإِنْ
تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا
أَمْثَالَكُمْ﴾([9]).
4 ـ
بل إن قصة قزمان قد دلتنا: على أن بعض الناس كان يشارك في الحروب مع
رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ويقتل الكثيرين من المشركين، فيظن
الناس أنه من أعظم المخلصين، ثم يتبين لهم عكس ذلك. وينتهي به الأمر
إلى الجراحة، فيقتل نفسه تخلصاً من ألم الجراح، بعد أن يكون قد صرح
بأنه لا يدري ما جنة وما نار، ولكنه يقاتل عن الأحساب. وليس قربة إلى
الله سبحانه([10]).
وذكر الطبري أيضاً: أن ميمنة أمير المؤمنين حملت على
ميسرة أهل البصرة، فاقتتلوا من ارتفاع النهار إلى قريب العصر، ثم
انهزموا.
لكن في حديث سيف، عن محمد وطلحة: قالا: ولما انهزم
الناس في صدر النهار، نادى الزبير: أنا الزبير، هلموا إلي أيها الناس،
ومعه مولى له ينادى: أعن حواري رسول الله «صلى الله عليه وآله»
تنهزمون!
وانصرف الزبير نحو وادي السباع، واتبعه فرسان، وتشاغل
الناس عنه بالناس.
فلما رأى الفرسان تتبعه عطف عليهم، ففرق بينهم، فكروا
عليه، فلما عرفوه قالوا: الزبير! فدعوه، فلما نفر فيهم علباء بن الهيم،
ومر القعقاع في نفر بطلحة وهو يقول: إلى عباد الله، الصبر الصبر!
فقال له: يا أبا محمد، إنك لجريح، وإنك عما تريد لعليل،
فادخل الأبيات.
فقال: يا غلام، أدخلني، وابغني مكاناً.
فأدخل البصرة ومعه غلام ورجلان، فاقتتل الناس بعده،
فأقبل الناس في هزيمتهم تلك وهم يريدون البصرة، فلما رأوا الجمل أطافت
به مضر عادوا قَلْبَاً كما كانوا، حيث التقوا وعادوا إلى أمر جديد،
ووقفت ربيعة البصرة، منهم ميمنة ومنهم ميسرة.
وقالت عائشة: خل يا كعب عن البعير، وتقدم بكتاب الله عز
وجل، فادعهم إليه، ودفعت إليه مصحفاً.
وأقبل القوم وأمامهم السبائية يخافون أن يجري الصلح،
فاستقبلهم كعب بالمصحف، وعلي من خلفهم يزعهم ويأبون إلا إقداماً.
فلما دعاهم كعب رشقوه رشقاً واحداً، فقتلوه. ورموا
عائشة في هودجها، فجعلت تنادى: يا بني ـ البقية البقية ـ ويعلو صوتها
كثرة ـ الله الله ـ اذكروا الله عز وجل والحساب، فيأبون إلا إقداماً،
فكان أول شيء أحدثته حين أبوا أن قالت: أيها الناس، العنوا قتلة عثمان
وأشياعهم، وأقبلت تدعو.
وضج أهل البصرة بالدعاء.
وسمع علي بن أبي طالب الدعاء، فقال: ما هذه الضجة؟!
فقالوا: عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان
وأشياعهم.
فأقبل يدعو ويقول: اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم.
وأرسلت إلى عبد الرحمن بن عتاب وعبد الرحمن بن الحارث:
اثبُتا مكانكما، وذمرت الناس حين رأت أن القوم لا يريدون غيرها، ولا
يكفون عن الناس.
فازدلفت مضر البصرة، فقصفت مضر الكوفة حتى زوحم علي،
فنخس علي قفا محمد، وقال: احمل.
فنكل، فأهوى علي إلى الراية ليأخذها منه، فحمل، فترك
الراية في يده.
وحملت مضر الكوفة، فاجتلدوا قدام الجمل حتى ضرسوا،
والمجنبات على حالها، لا تصنع شيئاً.
ومع علي أقوام غير مضر، فمنهم: زيد بن صوحان، فقال له
رجل من قومه: تنح إلى قومك، ما لك ولهذا الموقف، ألست تعلم أن مضر
بحيالك، وأن الجمل بين يديك، وأن الموت دونه.
فقال: الموت خير من الحياة، الموت ما أريد.
فأصيب وأخوه سيحان، وارتث صعصعة، واشتدت الحرب.
فلما رأى ذلك علي بعث إلى اليمن وإلى ربيعة: أن اجتمعوا
على ما يليكم.
فقام رجل من عبد القيس، فقال: ندعوكم إلى كتاب الله عز
وجل.
قالوا: وكيف يدعونا إلى كتاب الله من لا يقيم حدود الله
سبحانه، ومن قتل داعى الله كعب بن سور؟!
فرمته ربيعة رشقاً واحداً، فقتلوه.
وقام مسلم بن عبد الله العجلي مقامه، فرشقوه رشقاً
واحداً، فقتلوه.
ودعت يمن الكوفة يمن البصرة، فرشقوهم.
2 ـ كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة
قالا: كان القتال الأول يستحر إلى انتصاف النهار، وأصيب فيه طلحة «رضي
الله عنه»، وذهب فيه الزبير، فلما أووا إلى عائشة وأبى أهل الكوفة إلا
القتال، ولم يريدوا إلا عائشة، ذمرتهم عائشة، فاقتتلوا حتى تنادوا
فتحاجزوا، فرجعوا بعد الظهر فاقتتلوا.
وذلك يوم الخميس في جمادى الآخرة، فاقتتلوا صدر النهار
مع طلحة والزبير، وفي وسطه مع عائشة، وتزاحف الناس، فهزمت يمن البصرة
يمن الكوفة، وربيعة البصرة ربيعة الكوفة، ونهد علي بمضر الكوفة إلى مضر
البصرة، وقال: إن الموت ليس منه فوت، يدرك الهارب ولا يترك المقيم([11]).
ونقول:
هاتان روايتان رواهما سيف بن عمر، وفيهما الكثير من
المواضع التي تحتاج إلى بيان، ونحن نكتفي منها بالإشارة إلى ما يلي:
صرحت هاتان الروايتان، بالرغم من أن سيف بن عمر هو
راويهما: بأن الزبير قد قاتل يوم الجمل، وقاتل الناس معه ومع طلحة صدر
من النهار، ثم ذهب الزبير.. وليلاحظ التعبير بـ «ذهب» في الرواية
الثانية وتحاشي كلمة «انهزم»..
أما في الرواية الأولى، فقد صرح:
بأن الناس انهزموا في صدر النهار، وأن الزبير ناداهم: أنا الزبير،
هلموا إليَّ أيها الناس، ومعه مولى ينادي: «أعن حواري رسول الله «صلى
الله عليه وآله»
تفرون»؟!
وانصرف الزبير نحو وادي السباع، واتبعه فرسان.. ثم يذكر
ما جرى بينه وبينهم..
ويلاحظ:
التعبير أيضاً بكلمة:
«انصرف»
حيث تحاشى التعبير بكلمة:
«انهزم».
مع أنه قال عن الناس: إنهم انهزموا والسبب في ذلك ظاهر. وهو يدل على
خبث ومهارة ظاهرة..
أما نداء مولى الزبير: أعن حواري رسول الله
«صلى
الله عليه وآله»
تفرون؟! فقد قلنا أكثر من مرة: إن هذا الوسام لم ينله الزبير، بل لا
يمكن أن يناله أمثاله.. فلا بأس بمراجعة ما ذكرناه حول هذا الأمر.
على أن هذه الرواية من ترهات سيف المعروف بالكذب
والوضع، والمتهم بالزندقة..
والحديث عن القعقاع وطلحة يشبه الحديث عن حواري الرسول
«صلى الله عليه وآله»، فـ:
أولاً:
هو مروي عن سيف، وهو متهم بالزندقة والكذب والوضع.
ثانياً:
إن القعقاع ـ كما يرى بعض العلماء ـ شخصية وهمية، من مخترعات سيف.
ثالثاً:
إن طلحة بعد أن رماه مروان بسهم في ركبته قد شغل بنفسه عن حث الناس على
القتال.. فضلاً عن أن ينحازوا إليه ليتولى قيادتهم.
رابعاً:
كيف يكون طلحة قد دخل إلى بيت في البصرة، وهو قد مات في المعركة، وبقي
بين القتلى، وقد مرَّ به علي
«عليه
السلام»،
وطلب أن يجلسوه، ثم خاطبه بقوله: قد وجدت ما وعد ربي حقاً، فهل وجدت ما
وعدك ربك حقاً؟!
وما زعمته الرواية، من أن عائشة قد أمرت كعب بن سور بأن
يتقدم بكتاب الله ويدعوهم إليه، ودفعت إليه مصحفاً، غير صحيح. وذلك لما
يلي:
أولاً:
إن الفتى مسلماً المجاشعي هو الذي عرض المصحف على الناكثين من قبل علي
«عليه
السلام»
فأمرت عائشة بقتله فقتل.. وعرض عليهم علي «عليه السلام» المصحف مرة
أخرى أيضاً فلم يستجيبوا له.
ثانياً:
إن كعب بن سور قد قتل في أول المعركة، ويقال: إنه كان أول قتيل منهم،
وهذه الرواية تدعي: أنه قتل بعد فرارهم وفرار الزبير، وبعد قتل طلحة..
ثالثاً:
إن كعب بن سور كان يحمل معه مصحفاً، وقد علقه برقبته، فلم يكن بحاجة
إلى أن تدفع إليه عائشة مصحفاً.. إلا أن يدعى: أن هذا المصحف هو نفس
المصحف الذي دفعته إليه عائشة.
علي
والأحنف:
وفي روايات سيف بن عمر:
أنه بعد أن قتل ابن جرموز الزبير بن العوام، وجاء إلى الأحنف بفرسه
وسلاحه وخاتمه، انحدر الأحنف إلى علي «عليه السلام» وابن جرموز معه،
ودخل على علي علي «عليه السلام»، فأخبره. فأخذ علي «عليه السلام» سيف
الزبير، وقال: سيف طالما جلى الكرب عن وجه رسول الله «صلى الله عليه
وآله».
قال الطبري: ثم أقبل على الأحنف، فقال: تربصت.
فقال: ما كنت أراني إلا قد أحسنت، وبأمرك كان ما كان يا
أمير المؤمنين، فارفق، فإن طريقك الذي سلكت بعيد، وأنت إليَّ غداً أحوج
منك أمس، فاعرف إحساني، واستصف مودتي لغد، ولا تقولن مثل هذا، فإني لم
أزل لك ناصحاً([12]).
ونقول:
إن هذه الحكاية موضع ريب وشك، لأن ما ذكرته الرواية، من
أن علياً «عليه السلام» قال للأحنف: تربصت.. ثم جواب الأحنف له، يحتاج
إلى تفسير وتوضيح:
فأولاً:
قد أظهر النص المتقدم: أن الأحنف كان يرغب بقتل الزبير، جزاء له على
إثارته الفتنة، ثم سعيه للنجاة بنفسه.
وهذا ما فهمه عمرو بن جرموز منه أيضاً.
وهو يدل على أن الأحنف كان متحاملاً على الخارجين على
علي «عليه السلام»، مهتماً بالتخلص منهم. وهو لا يناسب اتهام علي «عليه
السلام» إياه بالتربص، وقسوته عليه..
ثانياً:
لقد تضمن جواب الأحنف لأمير المؤمنين «عليه السلام» أن علياً «عليه
السلام» هو الذي أمره بالاعتزال، فكيف يتهمه بالتربص؟! وكيف يأمره
بفعلٍ؛ ثم يؤاخذه عليه..
ثالثاً:
إذا كان باعتزاله كلا الفريقين قد كف عن علي أربعة آلاف أو ستة آلاف
سيف ـ على اختلاف الروايات ـ كانوا سيحاربون علياً «عليه السلام» مع
الناكثين، فلا شك في أنه كان محسناً، ولا تصح ملامته على اعتزاله، ولا
مجال لاعتباره متربصاً..
رابعاً:
إن ما ذكره الأحنف، من أن الحكمة هي استصفاء مودته، والرفق به، لأنه
«عليه السلام» سيحتاج إلى معونته ونصيحته، كلام صحيح، فكيف يمكن أن
يغفل علي «عليه السلام» عن مثل هذا الأمر البديهي؟!
إلا أن يقال:
إنه «عليه السلام» قد أطلق هذه الكلمة لكي يُسْمِع الناس جواب الأحنف،
ويعرِّفهم بأنه هو الذي أمره بالإعتزال. فكأنه «عليه السلام» قد واجهه
بنفس التهمة التي كان يتدوالها أصحابه «عليه السلام». فحسم الأمر بذلك.
ويشهد على ذلك:
أن الحاجة قد مست لهذا الحوار، كما أظهرته النصوص المتقدمة، فإنه لما
جاء عمرو بن جرموز ليلتقي علياً «عليه السلام»، كان الناس يسألونه عن
نفسه، فيخبرهم بأنه رسول الأحنف. فكان قسم منهم يرحب به، وقسم منهم
يقول له: لا مرحباً بك ولا بمن جئت من عنده. فأراد «عليه السلام»
معالجة هذا الأمر بهذه الطريقة العفوية، وبكلمة واحدة. وهكذا كان.
وهذا نموذج ينبغي الإستفادة منه في معالجة الحالات
المشابهة، وبصورة حاسمة وسريعة، ومن دون التصريح بأنه بصدد علاج أمر
بعينه، بل من دون أن يشعر أحد بأنه على علم بما يقال، أو يشاع، أو
يتوهم.
وكانت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، تحت عبد الله بن
أبي بكر، فمات عنها، وكانت جميلة، فخطبها إلى نفسها عمر بن الخطاب
فرفضته. (قالوا:) فعقد لنفسه بدون رضاها، ثم ذهب إليها فعاركها،
فنكحها، ثم قام عنها وهو يتأفف، (يقول: أف. أف)، ثم لم يأتها (ثم خرج
من عندها وتركها لا يأتيها)..
فأرسلت إليه أن ائتنا (فأرسلت إليه مولاة لها أن تعال
فإني سأتهيأ لك)([13]).
ثم تزوجها الزبير، فقتل عنها، فقالت ترثيه:
غدر ابن جرموز بفارس بهمة يوم اللقاء وكان غير
مسدد
يا عمرو ! لو نبهته لوجدته لا طائشاً رعش
الجنان ولا اليد
هبلتك أمك إن قتلت لمسلماً حلت عليك عقوبة
المتعمد([14])
ونقول:
إن الروايات التي ذكرناها لا يدل أكثرها على أن الزبير
قد قتل غدراً. بل قتله ابن جرموز في ساحة النزال والقتال.. ولم تكن
عاتكة حاضرة، إلا إن كانت قد قصدت الغدر، بمعنى أنه أمنه، ثم عاد فأظهر
عدوانه، فقاتله وقتله..
ولكن الذي يبدو لنا:
هو أن أنصار الزبيريين والأمويين كانوا يأنفون من قبول حقيقة أن يكون
ابن جرموز من أقرانه، أو أنه كان قادراً على قتله بمفرده، أو بمعونة
شخص آخر وشخصين معه، فادَّعوا أنه قتله غدراً في حال الصلاة..
وقال سحيم بن وثيل اليربوعي:
لحا الله جيران الـزبير مجاشعاً على سفوان مـا
أدق وأخـورا([15])
وقال جرير بن عطية الخطفي:
إن الرزية مــن تضمن قــــبره
وادي السباع لكل جنب مصرع
لمــا أتى خبر الــزبير تضعضعت
سور المدينة، والجــبال الخشع([16])
وقال جرير أيضاً:
لو كنت حراً يا ابن قين مجاشع شيعت ضيفك فرسخاً
أو ميــلا
قتـل الــزبير وأنتم جــيرانه غيا لمن قتل
الــزبير طــويلا([17])
([1])
العبر ج1 ص27 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص420.
([2])
الأوائل لأبي هلال العسكري ج1 ص307 وراجع: الأوائل للسكتواري
ص46 والإصابة ج1 ص545.
([3])
الأوائل للسكتواري ص46 وراجع: الإصابة (ط دار الكتب العلمية)
ج2 ص459.
([4])
الإصابة ج1 ص545 (ط دار الكتب العلمية) ج2 ص457 والإستيعاب (ط
دار الجيل) ج2 ص511 وأسد الغابة ج2 ص196 ومعارج الوصول ص57
والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج1 ص434.
([5])
الإصابة ج1 ص545 و (ط دار الكتب العلمية) ج2 ص460 وتهذيب
التهذيب ج3 ص275 وتهذيب الكمال ج9 ص326.
([6])
الإصابة ج1 ص545 و (ط دار الكتب العلمية) ج2 ص459.
([7])
الآية 144 من سورة آل عمران.
([8])
الآية 54 من سورة المائدة.
([9])
الآية 38 من سورة محمد.
([10])
تقدمت المصادر لذلك تحت عنوان: بشر قاتل ابن صفية بالنار.
([11])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص512 و 514 و (ط الأعلمي) ج3 ص522 ـ
524.
([12])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص535 و (ط الأعلمي) ج3 ص539 و 540
وراجع: الكامل في التاريخ ج3 ص256 والفتنة ووقعة الجمل ص174 و
175 وتاريخ مدينة دمشق ج18 ص419 والبداية والنهاية (ط دار
إحياء التراث) ج7 ص273 والفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص429 ـ
433.
([13])
الطبقات الكبرى لابن سعد ج8 ص265 و (ط ليدن) ج8 ص194 والبداية
والنهاية ج7 ص250 ونسب قريش 365 وأنساب الأشراف (بتحقيق
المحمودي ـ ط سنة 1416 هـ) ج2 ص170 وراجع: الغدير ج10 ص38
وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج13 ص633 ومنتخب كنز العمال
(مطبوع بهامش مسند أحمد) ج5 ص279.
([14])
أنساب الأشراف (ط سنة 1416 هـ) ج2 ص170 و (تحقيق المحمودي ـ
الطبعة الأولى ـ نشر مؤسسة الأعلمي سنة 1394 هـ) ص260 وشرح
إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص486 وراجع: المستدرك للحاكم ج3
ص368 والآحاد والمثاني ج1 ص161 والإستيعاب ج4 ص1879 والطبقات
الكبرى لابن سعد ج3 ص112 وتاريخ مدينة دمشق ج18 ص435 وأسد
الغابة ج5 ص499 وتهذيب الكمال ج9 ص327 وسير أعلام النبلاء ج1
ص67 وعيون الأنباء في طبقات الأطباء ص173 والوافي بالوفيات ج16
ص319 والبداية والنهاية (ط دار إحيء التراث العربي) ج5 ص368
وج7 ص278 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص680 وجواهر المطالب
لابن الدمشقي ج2 ص20 .
([15])
أنساب الأشراف (ط سنة 1416 هـ) ج2 ص170 و (تحقيق المحمودي ـ
الطبعة الأولى ـ نشر مؤسسة الأعلمي سنة 1394 هـ) ص260.
([16])
أنساب الأشراف (ط سنة 1416 هـ) ج2 ص170 و (تحقيق المحمودي ـ
الطبعة الأولى ـ نشر مؤسسة الأعلمي سنة 1394 هـ) ص260 والطبقات
الكبرى لابن سعد ج3 ص113 وتاريخ مدينة دمشق ج18 ص426 وسير
أعلام النبلاء ج1 ص63 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص507 وشرح
ديوان جرير، لمهدي محمد ناصر الدين..
([17])
أنساب الأشراف (ط سنة 1416 هـ) ج2 ص170 و (تحقيق المحمودي ـ
الطبعة الأولى ـ نشر مؤسسة الأعلمي سنة 1394 هـ) ص260 وشرح
ديوان جرير، لمهدي محمد ناصر الدين، وراجع: تاريخ مدينة دمشق
ج18 ص427.
|