![]() |
تأملات في دعاء كميل
في معنى استغفار المعصوم وعودة أخرى إلى الحديث عن طلب الإمام المغفرة من هذه الذنوب مع القول بالعصمة المطلقة له عليه السلام ، فنقول : حين يطلب الإمام المغفرة من الله على الذنوب وغيرها كما ورد في الدعاء ، فهو وإن كان من جهة دعائه عليه السلام به دعاء حقيقي لأنه لا مجاز في الدعاء فكل ما يدعو به يكون على نحو الحقيقة والطلب الحقيقي ، ولكن السؤال هو أنه هل ذنوب الإمام كذنوبنا فيها المخالفة لأوامر الله سبحانه وفيها المعصية وفيها عدم السير على النهج الواضح المأمور به ؟! أم أن هذه الذنوب هي أمور أخرى ؟! بعض التوجهات التي ذكرها العلماء لقد ذكر العلماء في توجيه ذلك أمورا عديدة ، وأقربها إلى الحق وأجملها ، ما ذكره الفاضل العلامة الأربلي صاحب كشف الغمة ، والمعنى الذي ذكره تلقاه الأصحاب والعلماء بالقبول ، قال رحمه الله : إن الأنبياء والأئمة عليهم السلام تكون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى ، وقلوبهم مملوءة به ، وخواطرهم متعلقة بالملأ الأعلى ، وهم أبدا في المراقبة كما قال عليه السلام " أعبد الله كأنك تراه فإن لم تره فإنه يراك " ، فهم أبدا متوجهون إليه ، ومقبلون بكلهم عليه ، فمتى انحطوا عن تلك الرتبة العالية والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالمأكل والمشرب والتفرغ إلى النكاح وغيره من المباحات ، عدّوه ذنبا واعتقدوه خطيئة واستغفروا منه ، ألا ترى أن بعض عبيد أبناء الدنيا لو قعد وأكل وشرب ونكح وهو يعلم أنه بمرأى من سيده ومسمع لكان ملوما عند الناس ومقصرا فيما يجب عليه من خدمة سيده ومالكه ! فما ظنك بسيد السادات وملك الأملاك " . انتهى كلامه رحمه الله . ويؤكد هذا الكلام الحديث الشريف : " التوبة حبل الله ، ومدد عنايته ولا بد للعبد من مداومة التوبة على كل حال ، وكل فرقة من العباد لهم توبة ، فتوبة الأنبياء من اضطراب السر ، وتوبة الأصفياء من التنفس ، وتوبة الأولياء من تلوين الخطرات وتوبة الخاص من الإشتغال بغير الله ، وتوبة العام من الذنوب " . ومن التوجيهات أيضا أن الأنبياء والإئمة عليهم السلام لما كانت معرفتهم بالله فوق كل معرفة ، وإدراك لعظمة الله وجلاله فوق كل إدراك ـ ومن هنا كان قول أمير المؤمنين عليه السلام : " لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا " ـ ، فهم عليهم السلام يرون أن العباد يجب أن يكونوا دائما وأبدا في خدمة الله ، وبما أن البشر لا ينقطعون عن المعاصي والآثام والخطايا ، وترتكب هذه المعاصي منهم بحضور الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، وحيث لا يمكنهم التغيير والتبديل برغم التوجيه والتعليم وإنكار المنكر ، يرون أن هذه الذنوب ذنوبهم ، لأنها ترتكب بحضرتهم ، ولذلك يستغفرون منها . وهذا لا مانع منه ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى بقوله تعالى " لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ " أي من ذنوب أمّتك . ومن التوجيهات أيضا أن النعم التي أفيضت عليهم ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ كبيرة وجليلة ، من النبوة والإمامة والعلوم والمعارف وإخدامهم الملائكة . وهم عليهم السلام في مقابل ذلك يرون لله عليهم وجوب الشكر ، فيريدون شكره على ما أنعم الله عليهم ، وحيث إنهم عليهم السلام يرون أن الشكر الذي يتلاءم ومقام العزة الإلهية صعب المنال فيعدّون ذلك تقصيرا ويعتبرونه ذنبا ، ولذلك يستغفرون منه مع أنهم لم يفعلوا ذنبا ولا ارتكبوا خطيئة ، بل هم على العكس يتواصلون في العبادة والذكر والطاعة لله والبكاء خوفا وشكرا . ومما يروى في ذلك تأييدا لما ذكرنا ، ما روي عن عطا أنه قال : قلت لعائشة : أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وآله . قالت : وأيّ شأنه لم يكن عجبا ، إنه أتاني في ليلتي .. إلى أن قالت : ثم قال صلى الله عليه وآله : ذريني أتعبّد لربي ، فقام فتوضأ ، ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره ، ثم ركع فبكى ، ثم سجد فبكى ، ثم رفع رأسه فبكى ، فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة ، فقلت : يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : ألا أكون عبدا شكورا ، ولم لا أفعل وقد أنزل الله عليّ هذه الليلة : " إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ " . هذا واقع وحال الأنبياء والأئمة الطاهرين عليهم السلام في أدعيتهم واستغفارهم من الذنوب والأستقالة منها ، فهي في الواقع ليست ذنوبا ، وبكاؤهم ليس بكاء خطيئة كما يصدر من الناس ، وإنما هم لمقامهم السامي ومعرفتهم بعظمة الله وجلاله وما يجب عليهم من الاستمرار دائما وأبدا في خدمة الله تعالى وتمجيده وتسبيحه وتهليله فإذا انقطع عن ذلك بعمل مباح عدّ ذلك ذنبا . وأين هذا مما يقال إنهم يفعلون الذنوب الصغيرة ويرتكبون الخطأ ؟ وأيّ نسبة ينسبونها للأنبياء والإئمة وبالتالي ينسبونها لله تعالى حيث أجازوا عليه أن يرسل أو يستخلف على الناس من يخطىء ويذنب ويرتكب ما يرتكبه الناس من موبقات وذنوب ؟ ! أهذا تهاون واستخفاف بالأنبياء والأوصياء والأمة ، أم هو تهاون واستخفاف بالله حيث ينسب إليه مثل هذه النسبة الباطلة ؟ ! أم هو تشكيك للناس في الله وفي الأنبياء والأوصياء ؟! ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قال : الإمام منا لا يكون إلا معصوما ، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها ، ولذلك لا يكون إلا منصوصا . فقيل : يا ابن رسول الله ، فما معنى العصمة ؟ قال : هو المعتصم بحبل الله ، وحبل الله هو القرآن ، لا يفترقان إلى يوم القيامة ، والإمام يهدي إلى القرآن ، والقرآن يهدي إلى الإمام ، وذلك قول الله تعالى : " إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ " . وهذا ما يؤكده حديث الثقلين أيضا ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : إني مخلف فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض . وفي هذين الحديثين تأكيد على العصمة ، كما يؤكده الإستشهاد بالقرآن وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم . فأين المعصية من الإمام عليه السلام ؟! كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيدا . من كتاب تأملات في دعاء كميل للسيد علي السيد حسين يوسف مكي |
الساعة الآن »03:28 AM. |