|
عضو مجتهد
|
|
|
|
|
|
|
المستوى :
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
زائر الأربعين
المنتدى :
ميزان الثقلين القرآن الكريم والعترة الطاهرة عليهم السلام
بتاريخ : 31-Jan-2013 الساعة : 04:44 PM

اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
-[ 66 ]-
نعم هنا دَعْوَيَان قد يَتَشَبّث المنكِر بواحدة منهما، يحسن منّا عَرْضُهما، والجوابُ عنهما، إتماماً للفائدة، واستيعاباً في الاستدلال..
بُطْلان دَعْوى التَّسَلْسُل في العِلَل إلى ما لا نِهَايَةَ له
الأولى: أنّ الأسباب والعلل الممكنة الحادثة تتسلسل صاعِدَةً إلى ما لا نهاية له في الأَزَل(الزَّمَن القديم جِدًّا)، مِن دُون أن تنتهي إلى علةٍ وسببٍ أزليٍّ واجِبٍ.
لكنها دعوى مَرْدُودة تُبْطِل نَفْسَها، لأَنّ مَرْجِعها إلى أنّ كُلَّ ما حَصَلَ ممكِنٌ حادِثٌ(فلا نَصِلُ ولا نَقِفُ عنْد واجب الوجود)، وحيث كان كُلُّ حادثٍ مَسْبُوقاً بالعدم، فلازِمُ ذلك أنّ كلّ ما حصل في هذه السلسلة مَسْبُوقٌ بالعدم، وأنه قد مرّ زمَنٌ خالٍ مِن كلّ شيء.
وهو(وهذا المَعْنَى) يُناقِض تسلْسلَ الحوادث والعلل مِن الأزل(فإنّ معنى تسلسل الحوادث والعلل مِن الأزل هو أن لا يكون البدْءُ مِن العدم ومِن لا شيء، بل يكون مِن علة،فإذا كانت هذه العلة ممكنة،إذًا سيسبقها العدم،فلابد أن تكون هذه العلة واجبة الوجود حتى لا يسبقها العدم).
وإلى هذا يَرْجِع ما تَكَرَّر في كلام أهل المَعْقُول مِن امْتِنَاع التَّسَلْسُل في العلل، حتى عُدَّ مِن البديهيات، بل لابد مِن بدء الحوادث مِن الصفر(أي: الصِّفْر مِن الحوادث،وذلك يكون بالبدْء مِن شيء غير حادث). وحينئذٍ يحتاج مَبْدَأ الحوادث وأوّلها إلى علة وسبب أزلي واجب الوجود، كما سبق.
دَعْوى قِدَم المادَّة في هذا العالَم
الثانية: أنّ العالَم قديمٌ أزلي واجب الوجود بمَادَّته، وأنه لم يَزَلْ في حرَكَة دائبة، وتَبَدُّلٍ في الصُّورَة.
وببيان آخر: ما نراه مِن الحوادث المتجدّدة إنما هو في حَقِيقَتِه تبدُّلٌ في صورة المادة وهَيْئَتِها، مع كَوْن المادة بذاتها أزليَّةً واجبة الوجود غيْرَ حادثة.
ولنضرب لذلك مثلاً: الماء الذي في البحار، حيث يتحول إلى بخار و
-[ 67 ]-
سحاب، ثم يتفاعل في الجو، فينزل ماءً بصورة المطر، وقد يتجمّد في أعلى الجبال ثم يذوب وينساب ماءً في الأنهار، ليمدّ حياة الإنسان والحيوان والنبات، ثم ينزل في بطن الأرض، ليرجع إلى البحر، أو يتحلل كيماويّاً إلى عناصره، ويتفاعل بعد ذلك ليعود ماء كما كان، ثم يعود في دورته ثانيًا وثالثًا...وهكذا إلى ما لا نهاية.
والجواب عن هذه الدعوى مِن وجهين:
بطلان دعوى أزلية المادة
الأول: أنه لو تمَّ تفسير الكَوْن بحركة المادة وتحوّلها، مِن دون أنْ يَفْنَى بعضها، ويتجدّد غيره خَلَفاً عنه، إلا أنه لا مَجَالَ للبِنَاء على أزلية المادة واستغنائها عن العلّة والمؤثّر، لأنّ المادة التي يُفْتَرَض كَوْنَها أزليةً واجبة الوجود إنْ كانَتْ ذاتَ هَيْئَةٍ وصُورةٍ اسْتَحَالَ انْفِكَاكُها عن هيئتها وصورتها، وتَعَاقُب الهيْئات والصور عليها، لأنّ هيئتها وصورتها الأُولَى أزليةٌ واجبةٌ مِثْلها، وقد سبق أنّ الأزلي الواجب خالِدٌ لا يَرْتَفِع.
وإنْ كانت تلك المادة مُجَرَّدةً عن الهيئة والصورة لَزِم المحَال..
أولاً: لأنّ المادة لا تَنْفكّ عن الهيئة والصورة، ويَمْتَنِع تَجَرُّدُها عنها، كما هو ظاهِر.
وثانياً: لأنه لو أَمْكَن تجرُّدها عن الهيئة والصورة لكان تَجَرُّدُها واجِباً مِثْلَها، وحِينَئِذٍ يَسْتَحِيل تَخَلُّفُه(التجردُ) عنها و(لا يُمْكِن) تَصَوُّرُها بَعْد ذلك بالصور المختلفة(بل تَبْقى متجرِّدةً دائمًا)، لِمَا سبق مِن أنّ الأزليَّ الواجبَ الوجودِ خالِدٌ.
-[ 68 ]-
عُرُوض الصورة على المادة يَفْتَقِر إلى علّة
الثاني: أنه لو أمْكَن تَجَرُّدُ المادة في الأزل عن الهيئات والصور، ثم عُرُوضُها عليها بعد ذلك، فـَ(إِنّ)تَصَورّها بالصور المختلفة المتعاقبة يحتاج إلى علةٍ وسببٍ مُؤثِّرٍ فيها، يَقْهَرُها ويُخْضِعها لِتَقْبَل الهيئات والصور، وتَبَادُلَها عليها، وحينئذٍ فما هو هذا السبب المؤثر هل هو أزلي واجب الوجود أو حادث ممكن؟
فإنْ كان أزليّاً واجباً فهو الخالق المدبر، وتَمَّ المُدَّعَى.
وإنْ كان ممكناً حادثاً عاد الحديث إليه، لأنه يحتاج إلى علة حينئذٍ، ويمتنع تسلسلُ عِلَلِه إلى ما لا نهاية، بل لابد أنْ ينتهي بالآخرة إلى علةٍ واجبةِ الوجود، كما سبق.
وأمّا دَعْوى: أنّ المادة إذا أمْكَن أنْ تكون مجردةً عن الصورة أَزَلاً، ثم تَعْرُضها الصورة، فهي التي صوَّرَت نفْسَها، مِن دُون حاجةٍ إلى مؤثرٍ فيها خارِجٍ عنها.
فلا أظنّ عاقلاً يرْضى بها، لأنّ المادة بالوجْدَان صَمّاء بَكْمَاء لا تَعْقِل، فكيف يَصْدُر منها ذلك؟!
وهل يرضى العاقل لنفسه إذا رأى كتْلَةً مِن الطين قد صارت تمثالاً شاخِصًا، أو قِطَعاً مِن اللَّبُن متناسقةً، أنْ يقول:
إنها حَوَّلَت نَفْسَها إلى ذلك مِن دُون أنْ تَخْضَع لصنْعة صانِع؟!
وإلى هذا كله يرجع ما اختصره أهل المعقول مِن الاستدلال على حدوث العالَم بقولهم المشهور:
العالَم مُتَغَيِّر، وكلُّ متغيرٍ حادِثٌ، فالعالَم حادِثٌ.
والحاصل: إنّ قضية حُدُوث العالَم، واحتياجه إلى العلة المؤثرة
-[ 69 ]-
الواجبة الوجود، والمُسْتغنية عن العلة، مِن القضايا العقلية الارتكازية التي يدركها الناس بفطرتهم، ولا يستطيعون التجرد عنها مهما كابر فيها المكابر، وتعصب ضدها المعاند. وإذا خفي على العامة وجه الاستدلال عليها استغنوا بالارتكاز المذكور في البناء عليها.
فَرْض تصوير سَيْر الكون بفِلْم سينمائي
وقد سبق لنا الإطلاع على حديث لبعض الماركسيين يوم كان للإلحاد صوتٌ يُسمَع - لأنه مدعوم من إحدى القوتين العظميين - اعْتَرَف فيه المتحدثُ بأنّ في النظرية الماركسية فَراغاً في تفسير وجود الكون.
وأَوْضَح ذلك بمثال تقريبي، وهو أنه لو فُرِض أنّ سَيْر الكون قد صُوِّر بفلم سينمائي، ثم عكسنا عَرْضَ الفلم ورجعنا به من الحاضر إلى الماضي في طلب البداية فإلى أين نَصِل؟ (والمعنى أنّ المتحدث الماركسي لا يَعْلم ما هي بداية الكون،وأنه هل هناك خالِق أو لا).
وفي ذلك كله بلاغ وعبرة تزيد ذوي الألباب بصيرةً في الأمر.
شُمُولية نظام الكون ودقّته وروعته
و(مَا)يزيد في تجلِّي هذه الحقيقة العظيمة ووضوحها هو دقّةُ الصُّنْع وإتقانه، وتناسقه وإحكامه، وروعة الكون وشمولية نظامه، وما فيه من طُرَف وعجائب، بنحو يبهر العقول ويحيّر الألباب، ويضطر العاقل للبخوع والإذعان، لا بوجود الخالق المدبر فحسب، بل بعظمته وحكمته، وقدرته المطلقة وإحاطته.
-[ 70 ]-
وابدأ في الملاحظة والتدبّر بالإنسان في تطوره من مبدأ خلقه إلى منتهى حياته، ودقائق جسده، وإدراكه ومنطقه، وعواطفه وانفعالياته، وغرائزه وعقله، ومرضه وشفائه... إلى غير ذلك.
ثم توجه في مثل ذلك إلى الحيوان.. إلى النبات.. إلى الماء والهواء.. إلى الأنهار والبحار.. إلى السهول والجبال.. إلى الغلاف الجوي.. إلى الكواكب السابحة في الفضاء... إلى ما لا يحصى من آيات مذهلة، وبدائع خلقة مروعة، تخرس ألسنة المعاندين، ولا تدع لقائل مقالاً.
وَفِي كُلّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ *** تَدُلُّ عَلى أنهُ واحِدُ
نماذج من العرض القرآني لآيات الله تعالى
قال عزّ من قائل: ((ذَلِكَ عَالِمُ الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ العَزِيزُ الرَّحِيمُ* الَّذِي أحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأ خَلقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِن مَاءٍ مَهِينٍ* ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأبصَارَ وَالأفئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشكُرُونَ)) (1).
وقال جلّ شأنه: ((وَلَقَد خَلَقنَا الإنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلنَاهُ نُطفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقنَا النُّطفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقنَا العَلَقَةَ مُضغَةً فَخَلَقنَا المُضغَةَ عِظَاماً فَكَسَونَا العِظَامَ لَحماً ثُمَّ أنشَأنَاهُ خَلقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أحسَنُ الخَالِقِينَ)) (2).
وقال عزّ وجلّ: ((إنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرضِ وَاختِلاَفِ اللَّيلِ
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة السجدة آية: 6ـ9.
(2) سورة المؤمنون آية: 12ـ14.
-[ 71 ]-
وَالنَّهَارِ وَالفُلكِ الَّتِي تَجرِي فِي البَحرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أنزَلَ الله مِن السَّمَاءِ مِن مَاءٍ فَأحيَا بِهِ الأرضَ بَعدَ مَوتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَينَ السَّمَاءِ وَالأرضِ لآيَاتٍ لِقَومٍ يَعقِلُونَ)) (1).
وقال جلّ شأنه: ((ألَم تَرَ أنَّ اللهَ يُزجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَينَهُ ثُمَّ يَجعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الوَدقَ يَخرُجُ مِن خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِن السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصرِفُهُ عَن مَن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرقِهِ يَذهَبُ بِالأبصَارِ* يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبرَةً لِأُولِي الأبصَارِ)) (2).
وقال سبحانه: ((خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيرِ عَمَدٍ تَرَونَهَا وَألقَى فِي الأرضِ رَوَاسِيَ أن تَمِيدَ بِكُم وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأنزَلنَا مِن السَّمَاءِ مَاءً فَأنبَتنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوجٍ كَرِيمٍ)) (3).
وقال عزّ اسمه: ((وَإنَّ لَكُم فِي الأنعَامِ لَعِبرَةً نُسقِيكُم مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَينِ فَرثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ* وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنهُ سَكَراً وَرِزقاً حَسَناً إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَومٍ يَعقِلُونَ* وَأوحَى رَبُّكَ إلَى النَّحلِ أن اتَّخِذِي مِن الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِن الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُختَلِفٌ ألوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ)) (4)... إلى غير ذلك من
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة آية: 164.
(2) سورة النور آية: 43ـ44.
(3) سورة لقمان آية: 10.
(4) سورة النحل آية: 66ـ69.
-[ 72 ]-
آيات الله تعالى الباهرة، ونعمه الباطنة والظاهرة، التي تعرضت لها الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، ويدركها عامة الناس وخاصتهم.
كلما تأخر الزمن تجلت عظمة الخالق:
وكلما تأخر الزمن وتطورت العلوم والمعارف، واكتشف الكثير من أنظمة الكون الرحيب وأسراره - كنظام الجاذبية، والقوة الكهربائية، والأمواج الصوتية وغيرها، والأشعة بأنواعها، ونظام الذرة، وخصائص الكائن الحي بأنواعه، وغير ذلك - تضاءل أهل العلم والمعرفة، وبخعوا خاضعين لعظمة الخالق وحكمته، وأقروا بذلك صاغرين، كما قال عزّ من قائل: ((سَنُرِيهِم آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أنفُسِهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أنَّهُ الحَقُّ أوَلَم يَكفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ)) (1).
وبعد كل ما سبق لا نرى منصفاً يتوقف في وجود الخالق عزّ وجلّ، وعموم قدرته، وإحاطة علمه، وعظيم حكمته. ومَن أراد بعد ذلك أن يصرّ على ريبه أو جحوده فشأنه وما اختار ((بَل الإنسَانُ عَلَى نَفسِهِ بَصِيرَةٌ)) (2). وحسابه بعد ذلك على الله تعالى، وكفى به حسيبًا.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة فصلت آية: 53.
(2) سورة القيامة آية: 14.
-[ 73 ]-
|
|
|
|
|