منتديات موقع الميزان - عرض مشاركة واحدة - أصول العقيدة(3)في النبوة والرسالة
عرض مشاركة واحدة

زائر الأربعين
عضو مجتهد

رقم العضوية : 8240
الإنتساب : Feb 2010
المشاركات : 94
بمعدل : 0.02 يوميا
النقاط : 189
المستوى : زائر الأربعين is on a distinguished road

زائر الأربعين غير متواجد حالياً عرض البوم صور زائر الأربعين



  مشاركة رقم : 6  
كاتب الموضوع : زائر الأربعين المنتدى : ميزان الثقلين القرآن الكريم والعترة الطاهرة عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 15-Feb-2013 الساعة : 11:32 AM

اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم


-[ 124 ]-

الأمر الثالث
الإخبارات الغيبية

فمن المعلوم أن القرآن الكريم قد اشتمل على جملة من الإخبارات الغيبية:
منها: قوله تعالى: ((غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أدنَى الأرضِ وَهُم مِن بَعدِ غَلَبِهِم سَيَغلِبُونَ* فِي بِضعِ سِنِينَ)) (1). فكان الأمر كما قال عزّ وجلّ أعاد الروم الكَرَّة على فارس، وغلبوهم قبل مضي عشر سنين، كما ذكره المؤرخون.
ومنها: قوله سبحانه عن أبي لهب وامرأته: ((سَيَصلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ* وَامرَأتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ)) (2). حيث يرجع ذلك إلى أنهما يموتان على الشرك، مع أن إسلامهما - خصوصاً أبا لهب - غير مستبعد في العادة..
أولاً: لقرابة أبي لهب من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، التي قد تجرّه وأهله للإسلام، حتى أنه روي أنه قد أثيرت حميته، ومال، إلا أنه لم يفلح.
وثانياً: لإمكان أن يمتد به العمر حتى يظهر الإسلام فيدخل فيه طوعاً أو كرهاً كما دخل غيره من أمثاله، ثم يحسن إسلامه.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الروم آية: 2ـ4.
(2) سورة المسد آية: 3ـ4.
-[ 125 ]-
ومنها: قوله تعالى في أوائل ظهور الدعوة في مكة والمشركون في أوج عنادهم والمسلمون في منتهى ضعفهم: ((فَاصدَع بِمَا تُؤمَرُ وَأعرِض عَن المُشرِكِينَ* إنَّا كَفَينَاكَ المُستَهزِئِينَ)) (1). فكانت عاقبة الأمر كما قال، كفاه أمر المستهزئين، وكانت العاقبة والغلبة له.
ومنها: قوله سبحانه في سورة القمر المكية متحدياً قريشاً: ((أم يَقُولُونَ نَحنُ جَمِيعٌ مُنتَصِرٌ* سَيُهزَمُ الجَمعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)) (2).
وكذلك قوله عزّ أسمه - مخاطباً للمشركين في أعقاب واقعة بدر -: ((وَإن تَعُودُوا نَعُد وَلَن تُغنِيَ عَنكُم فِئَتُكُم شَيئاً وَلَو كَثُرَت وَأنَّ اللهَ مَعَ المُؤمِنِينَ)) (3). وكلاهما وعد قاطع منه تعالى لهم بالفشل، وكان الأمر كما قال.
ومنها: قوله تعالى: ((قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغلَبُونَ وَتُحشَرُونَ إلَى جَهَنَّمَ وَبِئسَ المِهَادُ* قَد كَانَ لَكُم آيَةٌ فِي فِئَتَينِ التَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخرَى كَافِرَةٌ يَرَونَهُم مِثلَيهِم رَأيَ العَينِ)) (4). فإنه أيضاً وعد قاطع للمخاطبين من اليهود أو المشركين - على اختلاف المفسرين - بالفشل، وأنهم يغلبون، كما حصل فعلاً.
ومنها: قوله عزّ وجلّ عن أهل الكتاب: ((فَإن آمَنُوا بِمِثلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَد اهتَدَوا وَإن تَوَلَّوا فَإنَّمَا هُم فِي شِقَاقٍ فَسَيَكفِيكَهُم اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحجر آية: 94ـ95.
(2) سورة القمر آية: 44ـ45.
(3) سورة الأنفال آية: 19.
(4) سورة آل عمران آية: 12ـ13.
-[ 126 ]-
العَلِيمُ)) (1)، وأخيراً كفى الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرهم، ولم يضره كيدهم.
ومنها: قوله عزّ من قائل: ((يُرِيدُونَ أن يُطفِئُوا نُورَ اللهِ بِأفوَاهِهِم وَيَأبَى اللهُ إلاَّ أن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ* هُوَ الَّذِي أرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ)) (2).
وقوله تعالى: ((يُرِيدُونَ لِيُطفِئُوا نُورَ اللهِ بِأفوَاهِهِم وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ* هُوَ الَّذِي أرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ)) (3).
وقوله عزّ وجلّ: ((هُوَ الَّذِي أرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدا)) (4).
وقد تحقق ذلك فعلاً، حيث علا دين الله وعلا نوره وظهرت حجته، وكان له في عهوده الأولى الغلبة والظهور على جميع الأديان، فكان أكثرها انتشاراً وأقواها عدّة.
وأما ما حصل في العهود القريبة فهو تراجع بعد الظهور لا ينافي الوعود المذكورة. على أنه لا يرجع في الحقيقة إلى غلبة غير الإسلام من الأديان للإسلام وظهورها عليه، بل إلى غلبة المنتسبين لتلك الأديان على المسلمين بعد أن ترك الكل دينهم، أما الإسلام كَدِينٍ فقد بقي هو الأظهر
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة آية: 137.
(2) سورة التوبة آية: 32ـ33.
(3) سورة الصف آية: 8ـ9.
(4) سورة الفتح آية: 28.
-[ 127 ]-
شأنًا، والأعلى حجة، والأولى بالإعجاب والإكبار.
ومع أننا ننتظر تأويل الآيات الشريفة على الوجه الأكمل بظهور الإسلام الساحق وغلبته الماحقة لكل دعوة أخرى، وذلك بقيام قائم آل محمد عجّل الله تعالى فرجه، وصلى عليه وعلى آبائه الطاهرين وسلم تسليماً كثيرًا.
ومنها: قوله عزّ وجلّ: ((مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤمِنِينَ عَلَى مَا أنتُم عَلَيهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِن الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطلِعَكُم عَلَى الغَيبِ)) (1). وقد ميزهم فعلاً بالفتن حتى ظهر خبث كثير منهم بما لعله لم يكن محتسبًا.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران آية: 179.
-[ 128 ]-

الأمر الرابع
الحقائق العلمية

أن القرآن الكريم قد اشتمل على بعض الحقائق العلمية بنحو لا يتناسب مع ما كانت عليه الجزيرة العربية من الجهل، والبعد عن مراكز الثقافة، بل قد لا يناسب الثقافة العلمية في عصر البعثة.
منها: قوله تعالى: ((وَتَرَى الجِبَالَ تَحسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنعَ اللهِ الَّذِي أتقَنَ كُلَّ شَيءٍ إنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفعَلُونَ)) (1). فإنّ حركة الجبال تبتني على دوران الأرض، أو سير المجموعة الشمسية باتجاه خاص. وكلاهما غير معروف في ذلك العصر.
ومنها: قوله سبحانه: ((اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيرِ عَمَدٍ تَرَونَهَا)) (2). وقوله عزّ وجلّ: ((خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيرِ عَمَدٍ تَرَونَهَا)) (3)، حيث يشير ذلك إلى تماسك السماء والأرض بروابط غير مرئية. كما صرح بذلك في حديث الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) : "قلت له: أخبرني عن قول الله: ((وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ)) فقال: هي محبوكة إلى الأرض، وشبك بين
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النمل آية: 88.
(2) سورة الرعد آية: 2.
(3) سورة لقمان آية: 10.
-[ 129 ]-
أصابعه. فقلت: كيف تكون محبوكة إلى الأرض والله يقول: ((بِغَيرِ عَمَدٍ تَرَونَهَا)) ؟!
فقال: سبحان الله! أليس [الله] يقول: ((بِغَيرِ عَمَدٍ تَرَونَهَا)) فقلت بلى.
فقال: فثَمَّ عَمَدٌ، ولكن لا تُرى..." (1). وذلك يناسب قانون الجاذبية المكتشف حديثًا.
ومنها: قوله تعالى: ((وَالجِبَالَ أوتَادا)) (2).
وقوله سبحانه: ((وَألقَى فِي الأرضِ رَوَاسِيَ أن تَمِيدَ بِكُم وَأنهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُم تَهتَدُونَ)) (3).
وقوله جلّ شأنه: ((وَجَعَلنَا فِي الأرضِ رَوَاسِيَ أن تَمِيدَ بِهِم)) (4).
وقوله عزّ وجلّ: ((خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيرِ عَمَدٍ تَرَونَهَا وَألقَى فِي الأرضِ رَوَاسِيَ أن تَمِيدَ بِكُم)) (5). حيث تضمنت الآية الأولى أن الجبال كالأوتاد، وهذا التشبيه يحمل خاصتين:
الأولى: أنها كالأوتاد في هيئاتها الظاهرة، فهي كما تبرز على وجه الأرض، تغوص فيها. وقد ثبت أخيراً أن الجبال تغوص في الأرض أضعاف ارتفاعها، وأن حجم الصخر تحت الجبال ينزل أسفل من الطبقة الصخرية المنبسطة التي تقوم عليها القارات بعمق هائل.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير العياشي 2: 203، تفسير سورة الرعد. واللفظ له / وتفسير القمي 2: 328.
(2) سورة النبأ آية: 7.
(3) سورة النحل آية: 15.
(4) سورة الأنبياء آية: 31.
(5) سورة لقمان آية: 10.
-[ 130 ]-
الثانية: أنها كالأوتاد في وظيفتها. فإنّ الأوتاد تمسك الخيمة عن أن تتحرك وتزول عن موقعها. وكذلك الجبال، فهي بسبب غوصها في الأرض تشد القشرة الأرضية المحيطة بالطبقة السائلة، وتحفظ توازنها، ولولا الجبال لاضطربت القشرة الأرضية، وماجت فوق الطبقة السائلة، ومادت بمَن عليها. وهو ما أكدت عليه الآيات الأخيرة والأحاديث الشريفة التي هي كالشرح لها.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له في الثناء على الله تعالى: "ونشر الرياح برحمته ووَتَّدَ بالصخور ميدانَ أرضه" (1).
وقد أشار (صلوات الله عليه) لكلا الأمرين في خطبة له أخرى تسمى بخطبة الأشباح، حيث قال في بيان خلق الأرض: "وعدل حركتها بالراسيات من جلاميدها (2)، وذوات الشناخيب الشم (3)، من صياخيدها (4)، فسكنت من الميدان لرسوب الجبال في قطع أديمها، وتغلغلها متسربة في جوبات خياشيمها وركوبها أعناق سهول الأرضين وجراثيمها" (5).
وقال في خطبة ثالثة: "وجبل جلاميدها ونشوز متونها وأطوادها، فأرساها في مراسيها، وألزمها قرارتها، فمضت رؤوسها في الهواء، ورست أصولها في الماء، فأنهد جبالها عن سهولها، وأساخ قواعدها في متون أقطارها
ـــــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة 1: 14.
(2) الجلاميد: الصخور الصلبة.
(3) الشناخيب: جمع شنخوب، وهو رأس الجبل. والشم: الرفيعة العالية.
(4) الصياخيد: جمع صيخود، وهو الصخرة الشديدة.
(5) نهج البلاغة 1: 174، 175.
-[ 131 ]-
ومواضع أنصابها، فأشهق قلالها وأحال أنشازها، وجعلها للأرض عمادًا، وأرّزها (1) فيها أوتادًا، فسكنت - على حركتها (2) (*) - مِن أن تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن مواضعها" (3). وذلك كله غريب عن ثقافة عصر نزول القرآن الشريف.
ومنها: قوله سبحانه: ((فَمَن يُرِد اللهُ أن يَهدِيَهُ يَشرَح صَدرَهُ لِلإسلاَمِ وَمَن يُرِد أن يُضِلَّهُ يَجعَل صَدرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)) (4). وقد تضمنت هذه الآية الشريفة أن الارتفاع في طبقات الجو يسبب ضيق الصدر، وهو أمر مجهول سابقًا، لعدم الإحاطة بخصائص الجوّ، ولعدم تيسير اكتشافه من طريق تجربة الصعود، وإنما اكتشف ذلك في العصور القريبة، حيث ظهر أن ضغط الجوّ يخفّ كلما ارتفعنا إلى فوق، وذلك يسبب ارتفاع ضغط الإنسان وضيق صدره واختناقه.
وهناك آيات كثيرة أطالوا الكلام في تقريب دلالتها على جملة من المستكشفات العلمية الحديثة المغفول عنها حين نزول القرآن الشريف حيث يكون ذلك شاهداً على إعجازه، ولا يسعنا استطرادها، وفي ما ذكرنا كفاية.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) أرّزها: أي أثبتها.
(2) (*) نبّه أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) بذلك على حركة الأرض إما بدورانها على نفسها أو في ضمن أبراج المجموعة الشمسية، أو في ضمن سير المجموعة الشمسية باتجاه خاص. وذلك كله مغفول عنه في تلك العصور خصوصاً في محيطه (عليه السلام). وذلك وإن لم يكن معجزة للقرآن الكريم، إلا أنه معجزة له وللنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو (عليه السلام) باب مدينة علمه، فيكون شاهداً لصدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ادعاء النبوة.
(3) نهج البلاغة 2: 192، 193.
(4) سورة الأنعام آية: 125.
-[ 132 ]-
هذه بعض وجوه إعجاز القرآن المجيد.
وهناك بعض الشواهد المؤكدة لصدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نسبته لله عزّوجلّ وعدم افترائه فيه، تظهر للمتأمل، ولا تخفى على المستبصر، وإن كان الأمر أظهر من أن يستشهد عليه..
منها: ما هو معلوم من أن اليهود - الذين هم بقية بني إسرائيل الباقية على الانتساب لدين اليهودية - يعتزون بقوميتهم وانتسابهم لإسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (على نبينا وآله وعليهم الصلاة والسلام)، ويتجاهلون العرب من بني إسماعيل بن إبراهيم (عليهم السلام) ويبغضونهم.
وهم قد ناصبوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العداء، وكذبوه، وأنكروا حقّه، وألّبوا عليه، وظاهروا عدوه، وجَدّوا في إطفاء نوره، قولاً وعملاً، وأتعبوه كثيرًا، وقد وقف القرآن الكريم والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم - كرَدّ فعلٍ على ذلك - أشدّ المواقف وأقساها، تذكيراً وتأنيبًا، وذمّاً وتقريعًا، وقتلاً وتشريدًا.
والمنتظر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لو لم يكن مرسلاً من الله تعالى، وكان مفترياً في نسبة القرآن له، أنْ يتمم موقفه ذلك بتجاهل بني إسرائيل في القرآن المجيد، وعدم الاعتراف لهم إلا بما لا بد من الاعتراف به لظهوره، كردّ فعل منه لموقفهم الظالم منه ومن قومه،لكن القرآن الشريف قد أفاض في ذكرهم، وفي ذكر نِعَم الله تعالى عليهم، وتفضيلهم على العالمين، كما أفاض في ذكر آبائهم الأولين وأنبيائهم وقصصهم، فكان ذكر إسحاق ويعقوب (عليهم السلام) أكثر من ذكر إسماعيل (عليه السلام)،
-[ 133 ]-
مع أن إسماعيل - الذي إليه يرجع نسب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونسب قومه - هو الأكبر والأسبق في الوصية.
كما أنه أفاض في ذكر ذرية إسحاق ويعقوب، وتبجيل من يستحق التبجيل منهم. وذكر نعمة الله تعالى عليهم عمومًا، من دون أن يشير لشيء من ذلك في ذرية إسماعيل (عليه السلام)، وهم قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين يحاول (صلى الله عليه وآله وسلم) إقناعهم برسالته، والاستظهار بهم على الأمم، حيث يناسب ذلك تمجيدهم وإشعارهم بالرفعة على اليهود، ليكون ذلك محفزاً لهم على دعمه والإقرار بدعوته.
ولاسيما مع ما عليه قريش خصوصًا، والعرب عمومًا، من الاعتزاز بالآباء وأمجادهم، والتفاخر بذلك، حتى أنَّبَهم الله تعالى بقوله: ((ألهَاكُم التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرتُم المَقَابِرَ)) (1).
ولا مجال لتفسير ذلك وتوجيهه بأنه محاولة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) لإرضاء اليهود والتقرب منهم أملاً في استجابتهم له واستظهاره بهم، لأن ذلك لا يناسب ما بينه وبينهم من مواقف عدائية متشنجة من اليوم الأول.
وإنما التفسير المنطقي لذلك أن القرآن المجيد كتاب الله تعالى الذي يعطي كل ذي حق حقه، وإسماعيل (عليه السلام) قد حمل رسالة السماء مدّة قليلة، ثم اضطلع بحملها إسحاق وذريته قرونًا طويلة، فشكر الله تعالى لهم ذلك، فنوَّه بهم، وأثنى عليهم بما هم أهله، وبما يناسب دورهم في حمل رسالته،
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة التكاثر آية: 1ـ2.
-[ 134 ]-
والدعوة لها، وتحمل الأذى والمحن في سبيلها.
ومنها: أن القرآن الكريم قد ركز على تنزيه أنبياء الديانتين اليهودية والنصرانية، وتكريمهم، ورفع شأنهم، بما لم يهتم به معتنقو الديانتين المذكورتين في حقهم، بل نسبوا لهم الأعاجيب من الرذائل والمعاصي وغير ذلك. وما الذي يدعو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك لو كان مفتريًا - والعياذ بالله - على الله تعالى في نسبة القرآن إليه؟!
وهل لذلك وجه إلا كون القرآن منزلاً من الله سبحانه الذي أخذ على نفسه نصرة رسله، وشكر سعيهم، وتثبيت حكمته، بأنه لا يختار لرسالته إلا المخلصين من عباده، المؤهلين لأن يكونوا قدوة لهم، يدعونهم بأفعالهم وسلوكهم إلى ما يرتضيه من مكارم الأخلاق ومحمود الخصال والأفعال، والى ما يوثق علاقتهم به من القربات والطاعات.
ومنها: التكامل العجيب في أمر عيسى (عليه السلام)، فالقرآن المجيد في الوقت الذي أنكر فيه أشدّ الإنكار على النصارى دعواهم ألوهيته وبنوَّته لله تعالى شأنه، وأنزله عن ذلك إلى مرتبة العبودية، والنقص والحاجة، قد أكد على رفع شأنه وتعظيمه، والثناء عليه، وتنزيهه عما لا يليق به.
بل أفاض - كما سبق - في رفعة شأن أمه الصديقة مريم (عليه السلام)، وقدسيتها، وتهيئتها من مبدأ تكوينها ونشوئها لكرامة الله تعالى بحملها بعيسى (عليه السلام)، وخطاب الملائكة لها بذلك، وإحاطتها حين الولادة بالكرامات المناسبة، ثم دعمها بعد ذلك بأقوى البراهين على براءتها، وهو شهادة عيسى (عليه السلام) لها
-[ 135 ]-
وهي تحمله بوجه إعجازي قاهر، بحيث يجعل المتهم لها معانداً لله تعالى، رادّاً لآياته.
ولولا ذلك لكانت تلك الكرامة العظيمة مثاراً للشبهة والريبة، بنحو لا يتناسب معه، ولا مع شرف الرسالة التي ترتبت عليه، والتي أُريد بها إقامة الحجة على العتاة الظالمين.
بينما لا نجد في المسيحية ذلك، فهي في الوقت الذي تجعله ابناً لله تعالى وترفعه إلى مقام الألوهية والعبادة لا تنزهه كتنزيه القرآن الشريف له، ولا ترفع مقام أمه بنحو يهيئها لتلك الكرامة العظيمة. بل لا ترفع عنها الشبهة في مثل هذا الحمل المريب إلا رؤيا يوسف خطيبها من دون شاهد على صدق دعوى الرؤيا، ولا على صدق نفس الرؤيا، ليكون حجة على مَن يتهمها، ويقطع الطريق عليه.
وذلك كله يتناسب مع كون القرآن منزلاً من الله تعالى، لنصرة رسله وأوليائه وتصحيح التعاليم الشايعة قبله نتيجة تحريف التعاليم الحقة وتشويهها، ولا يتناسب مع كونه من جملة المفتريات على الله تعالى، كما لعله ظاهر.
ومنها: ما تميز به من بعض الأمور غير المألوفة في كلام العرب، مثل بدء بعض سوره بالحروف المقطعة. فإنّ ذلك أمر لا يلتفت له في العادة مَن ينشئ الكلام منهم.
وكذا بعض الأمور التي يصعب على محيطه التصديق بها، أو الوقوف على المراد منها، مثل قوله سبحانه وتعالى: ((سُبحَانَ الَّذِي أسرَى بِعَبدِهِ لَيلاً
-[ 136 ]-
مِن المَسجِدِ الحَرَامِ إلَى المَسجِدِ الأقصَى الَّذِي بَارَكنَا حَولَهُ لِنُرِيَهُ مِن آيَاتِنَا إنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) (1).
وقوله سبحانه: ((وَاسأل مَن أرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رُسُلِنَا أجَعَلنَا مِن دُونِ الرَّحمَنِ آلِهَةً يُعبَدُونَ)) (2).
فإنّ مَن ينشئ الكلام من أجل إفهام محيطه وإقناعه لا يتعمد ذلك ونحوه مما يحرجه أمام الناس.
ولا تفسير لذلك إلا فرضه عليه من قبل الله تعالى، لمصالح هو أعلم بها، وهو المتعهد بتسديده فيها، كما حصل فعلاً، حيث لم يكن ذلك سبباً لإحراجه والتشهير به والتهريج عليه... إلى غير ذلك مما قد يدركه المنصف المتبصر في القرآن المجيد من شواهد الحق والصدق. وإن كان الأمر أظهر من ذلك، كما سبق.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الإسراء آية: 1.
(2) سورة الزخرف آية: 45.
-[ 137 ]-


رد مع اقتباس