-[ 315 ]-
المبحث الثاني
في إثبات النص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)
انحصار دعوى النص في الأئمة (عليهم السلام)
الأول: الانحصار، حيث لا قائل بحصول النص الإلهي على أحد غيرهم. ولاسيما بعد ما سبق في النصوص المتواترة بانحصارهم بالعدد الخاص - وهو الإثنا عشر - وبالمواصفات المتقدمة.
وحينئذٍ لو لم يكن النص فيهم وكان في غيرهم لزم..
أولاً: اجتماع الأمة على الضلال، لعدم اعتقادها بالنص المذكور، وقد سبق عند الكلام في المرحلة الأولى امتناع ذلك.
وثانياً: خفاء النص، وقد سبق أنه لابد من وضوحه، ليكون الخروج عنه والخلاف والتفرق في الأمة بعد البيِّنة.
مع أنّ هذا النص إنْ لم يعلم به صاحبه فما الفائدة مِن نَصْبه والنص عليه؟!
وإنْ علم به فلِمَ لم يدّعِه، ويحاول إثباته؟!
بمنصبه لا يُعْذر عليه، ويخرجه عن أدنى شروط الإمامة الإلهية، وهي العدالة، حيث لا يظن بأحد أن يجوّز اختيار الله تعالى للإمامة غير العادل، فضلاً عمّن يُفرِّط بهذا المنصب العظيم وما يستتبعه من وظائف مهمة في حق الأمة.
دعوى أهل البيت ورودَ النص المذكور
الثاني: دعوى أهل البيت (صلوات الله عليهم) استحقاقهم الإمامة بالنص من الله تعالى، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بلغ به، كما يظهر مما سبق ويأتي.
وحيث سبق في المقام الأول إمامتهم في الدين ومرجعيتهم فيه للمسلمين فاللازم القبول منهم وتصديقهم في ذلك.
الثالث: إجماع شيعة أهل البيت القائلين بإمامتهم في الدين ومرجعيتهم فيه، فإنه بعد ثبوت ضلال مَن خالفهم في ذلك يتعيّن كون الحق مع إجماعهم على إمامة أهل البيت في أمور الدنيا، لئلا يلزم خلوّ الأمة من فرقة تدين بالحق وتدعو له، الذي هو ممتنع كما اشرنا إليه غير مرة، وأوضحناه عند الكلام في شروط شرعية نظام الشورى. فراجع.
هل تنهض هذه الوجوه الثلاثة بإثبات النص؟
هذا وقد يدعى أن هذه الوجوه وحدها لا تنهض بالاستدلال ما لم تكن مدعومة بالنصّ الشايع الواضح الدلالة، ومن ثم لا يتجه سَوْقها أدلة في مقابل
أحدهما: أن مثل هذا الأمر المهمّ في الدين وفي نظم أمر الأمة، والذي لا يعجب كثيراً من الناس، يستدعي عادة البيان بوجه مكثف ملفت للنظر، فعدم وجود البيان بالوجه المذكور دليل على عدم تشريعه، وأن هذه الوجوه الثلاثة من سنخ الشُّبَه المعلوم بطلانها إجمالاً، وإن لم يتيسر معرفة وجه الجواب عنها بعينه تفصيلاً.
لكنه يندفع: بأن الأمر وإن كان كما ذكر، إلا أنه لا يجب بقاء النص هذه المدة الطويلة ووصوله إلينا بهذا النحو مِن الوضوح بعد تَكَثُّر الدواعي لطمسه والتعتيم عليه وتحريفه، بسبب كونه على خلاف هوى السلطة ومضرّاً بمصالحها.
ولاسيما بعد الإطلاع على ما قامت به السلطات المتعاقبة والجمهور السائر في ركابها من التحجير على السنّة النبوية الشريفة، والمنع من روايتها ونشرها إلا في حدود خاصة تعجب السلطة، وإتلاف كثير من كتب الحديث، وحَمْل الناس على اختلاق الأحاديث النبوية وتحريفها لصالح السلطة، وغير ذلك مما تضمنه تراث المسلمين، ويشهد به تعارض الأخبار، واختلاف المسلمين الشديد.
وقد تعرضنا لكثير من ذلك في مواضع من كتابنا (في رحاب العقيدة) خصوصاً في جواب السؤال الثامن من الجزء الثاني.
ويظهر الحال بالقياس على الأديان الحقة السابقة، حيث لا ريب في
أنها قد تضمنت كثيراً من الأمور المهمة التي تحتاج إلى البيان بوجه مكثف، إلا أنها ضاعت وخفيت معالمها نتيجة ذلك ونحوه.
ثانيهما: ما تقدم منا في مقدمة المقصد الثالث من أن مقتضى الأدلة المتقدمة كوْن الحق مِن الوضوح بحيث يكون الخلاف فيه خلافاً بعد البيِّنة، حيث قد يدعى أن ذلك في المقام إنما يكون مع وضوح النص على إمامة كل إمام في كل عصر بالوجه الكافي في قيام الحجة على إمامته، ولا يكفي وضوح النص على ذلك في خصوص عصر الإمام المنصوص عليه بعد فرض لزوم اعتقاد المسلمين به في العصور المتأخرة أيضًا.
وفيه: أن قيام البينة والحجة الكافية الواضحة على الإمامة لا يتوقف على وضوح النص بلفظه تفصيلاً في كل عصر، بل يمكن أن يستند في بعض العصور لوجوه أخر - كالوجوه السابقة - بحيث تكشف بوضوح عن ورود النص الواضح إجمالاً من دون أن يعرف بلفظه تفصيلاً،
فمثلاً في عصر الصحابة حيث لم تظهر بعْدُ سلبيات عدم العمل بالنص في الإمامة، ولم تتضح وجوه اختلاف الأمة، ولم تُجْمِع الأمة على قدسية أشخاص معينين، قد لا تكون هذه الوجوه صالحة للاستدلال، ولا كافية في وضوح الحجة على ثبوت الإمامة لأشخاص أهل البيت (عليهم السلام) بتعيين من الله تعالى، بل ينحصر ذلك بوضوح النص وشيوعه عندهم، وهو الذي حصل بالفعل.
أما بعد تطور الأوضاع، ومرور التجربة المرة، وظهور سلبياتها بنحو
يستلزم القطع بانحصار شرعية الإمامة بالنص الإلهي، ثم ظهور فرقة تنفرد من بين المسلمين من اليوم الأول بالقول بأن الإمامة تابعة للنص، وقد تبنّت هذه الفرقة إمامة أهل البيت (صلوات الله عليهم) واختصت بهم، وكانوا هم من القدسية والجلالة بالنحو المفروض على عموم المسلمين، وقد انسجموا مع هذه الفرقة وأفضوا بسرّهم إليها، واتفق الكل أو الأكثر تبعاً للموازين الشرعية والعقلائية على عدم اجتماع الأمة على الضلال والخطأ، فبعد ذلك كله لا مانع من نهوض هذه الوجوه أو غيرها بتعيين أشخاص الأئمة المنصوص عليهم حتى لو فرض تعتيم السلطات السابقة على النص المعين لأشخاصهم بلفظه، بحيث لم يبق بالوضوح والشيوع الكافيين، كي ينهض وحده بأن يكون حجة على عموم المسلمين وصالحاً لإقناعهم على اختلاف فرقهم.
النصوص الواردة في الإمامة
الرابع: النصوص الكثيرة التي وصلت إلينا من طريق الشيعة والجمهور معًا. وهذه النصوص لو تمت تنهض بالاستدلال حتى لو فرض عدم تمامية ما سبق بإثبات انحصار شرعية الإمامة بالنص، أو عدم اقتناع بعض الناس بها، لظهور أنه يجب القبول بالنص والتسليم له على كل حال.
والكلام.. تارة: في النصوص الدالة على أن الإمامة لأهل البيت (صلوات الله عليهم) عمومًا، أو لأمير المؤمنين (عليه السلام) باعتباره سيدهم بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي يمثل خطهم، بحيث يبتني ثبوت النص في حقه على
أن الخلافة لا تكون ببيعة الناس، ولا بالاستيلاء على السلطة بالقوة، بل هي لأهل البيت (صلوات الله عليهم) بالنص الإلهي.
وأخرى: في النصوص الواردة في حق بقية الأئمة الاثني عشر من أهل البيت (صلوات الله عليهم) بأشخاصهم، وهم الذين تقول بهم الإمامية.
والفرْق بين الطائفتين: أن الطائفة الأولى لابد أن تكون من الوضوح بحيث تكون حجة على عموم المسلمين وفق الضوابط المُلْزمة لهم.
أما الطائفة الثانية فيكفي أن تكون من الوضوح بحيث تكون حجة وفق الضوابط المُلْزِمة للقائلين بالنص على أمير المؤمنين (عليه السلام) وآل البيت عموماً وإمامتهم في الدين والدنيا، ولا يضرّ به عدم اقتناع القائلين بعدم النص من بقية المسلمين به لمخالفته لمبانيهم، بعد أن أعرضوا عن الحجة الواضحة على أصل النص في المقام الأول، لعدم نظرهم فيها أو لرفضهم لها عناداً أو تعصبًا.
فالمقام نظير النبوة والإمامة، حيث يجب في دليل النبوة أن يكون حجة على جميع المعترفين بوجود الله تعالى وفق الضوابط الملزمة لهم.
أما دليل الإمامة فيكفي فيه أن يكون حجة وفق الضوابط الملزمة للمسلمين المعترفين بالنبوة، وإن لم يقتنع به بقية أهل الأديان من غير المسلمين الذين لا يعترفون بالنبوة.
إذا عرفت هذا فالكلام في مقامين: