منتديات موقع الميزان - عرض مشاركة واحدة - كتاب المكاسب المحرمة .....لسماحة السيد علي مكي العاملي دامت بركاته
عرض مشاركة واحدة

جارية العترة
الصورة الرمزية جارية العترة
المدير العام
رقم العضوية : 12
الإنتساب : Mar 2007
الدولة : لبنان الجنوب الابي المقاوم
المشاركات : 6,464
بمعدل : 0.98 يوميا
النقاط : 10
المستوى : جارية العترة will become famous soon enough

جارية العترة غير متواجد حالياً عرض البوم صور جارية العترة



  مشاركة رقم : 1  
المنتدى : الميزان الفقهي
افتراضي كتاب المكاسب المحرمة .....لسماحة السيد علي مكي العاملي دامت بركاته
قديم بتاريخ : 21-Jun-2009 الساعة : 05:07 PM

اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم


السلام عليكم اخوتي في الله لما كنا في حاجة دائمة لمراجعة ومتابعة ومجالسة علماؤنا حفظهم المولى ولكن اصبح الفرد منا يبتعد رغم ارادته لانشغاله بهموم الحياة رغم انه لاغنى لنا عنالاطلاع على امور ديننا في كل شيء لذا احببت ان انقل اليكم هذا الكتاب القيم لسماحة العلامة السيد مكي بارشاد منه لتعم الفائدة

المحتوى

المقدمـة

العمل وأهميته في الإسلام

ما هو العمل

العمل جهـاد

العمل عزّ وكرامة للإنسان

العمل يدعو للعقل

ليس شيء أذلّ مِن السؤال

طلب الحلال

ما هي المكاسب المحرمة

دعوات مضللة

المكاسب المحرمة

الحرمة التكليفية والحرمة الوضعية

نظرة الشارع مقدَّمة على نظرة العُرف

( 1 ) الخمــر

تحريم الخمر في القرآن

تحريم الخمر في السنّة

حكم المخدرات

مسائل في شرب الخمر ونجاسته

( 2 ) الميتـة

نجاسة الميتة

( 3 ) الأعيان النجسة والمتنجسة

حكم الأعيان النجسة

تسهيل لا تسييب

( 4 ) الكلب والخنزير

( 5 ) آلات الحرام

( 6 ) آلات القمـار

تحريم القمار في القرآن

حرمة القمار في السنّة

اللعب بالشطرنج حرام

( 7 ) الغنـاء

حرمة الغناء في القرآن

حرمة الغناء في السنّة

مسائل

الغناء رقيـّة الزنا


( 9 ) الخفـّة والشعبذة

( 8 ) السحر

روايات في حرمة السحر

مسائل حول استخدام الجن والملائكة وأرواح الأموات.

(10) الكهانة والعرافة

(11) التنجيم

(12) الغش

(13) المزاودة والنَّجَش

(14) الاحتـكار

(15) النوح بالباطل

قراءة التعازي

(16) هجاء المؤمن

(17) الفُحش والبِذاء

(18) الرَّشـوة

(19) شراء كتب الضلال وحفظها

(20) معونة الظالمين

(21) التـَّسوُّل

استرجاع الصدقة

أهميـة الصدقة

السؤال مع الحاجة

(22) بيع الدراهم المغشوشة

تزوير العملة

(23) تشبُّه الرجال بالنساء

(24) ترويج بضائع الكفار ومقاطعتها

(25) الـرِّبـا

الربا في المعاملة

الربا في القرض

(26) أعمال الضلال

(27) التطفيف وبخس الميزان



* * *


المقدمـة

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم



الحمد لله رب العالمين، حمداً دائماً متواصلاً، لا منتهى لحدّه ولا حساب لعدّه، ولا مبلغ لغايته ولا انقطاع لأمده ؛ حمداً يفضل سائر الحمد، كفضل ربنا على جميع خلقه.

والصلاة والسلام على نبيّه محمّد أشرف الخلق، وإمام الرحمة والحق، ومفتاح الهدى والإيمان، وقائد الخير والإحسان. وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وعترته الصفوة المنتجبين، ‍ جعلهم المولى تبارك وتعالى، مناراً للأمـّة، وأعلاماً للهدى، ووسيلة لكل صلاح وفلاح.

أما بعد فهذه أوراق أخرى مِن سلسلة التعريف بالأحكام الشرعية وتبسيطها، أضعها بين يدي إخواني المؤمنين، ليستفيدوا منها ويعرفوا أحكام دينهم، التي تتعلق بمكاسبهم وما هو وسيلة رزقهم، والأمور التي يصحّ التعامل بها فيكون الكسب منها حلالاً، والأمور المباحة وما عداها. فنحن نعلم علم اليقين أن هناك أشياء حرّمها الشارع المقدس وحرّم الاستفادة منها ؛ فليس كل تعامل حلال، ولا كل تعامل حرام، بل الحرام ما حرّمه الشارع ونهى عنه. ولذلك كان لابدّ لنا مِن معرفة هذه الأمور المحرمة، ومعرفة ما نهى عنه الشارع.

وقد وضعت هذه الأوراق في هذا الموضوع، وقد سميتها [ المكاسب المحرّمة ] وأقصد بها الأمور التي يحرم على الإنسان أن يجعلها وسيلة عيش وكسب يكسب منها رزقه، والمال الَّذي يصرفه في مأكله وملبسه، على نفسه وعلى عياله وكافة شؤونه المطلوب فيها الصرف والإنفاق، فلا بدّ للإنسان المؤمن أن يكون مكسبه ورزقه مِن حلال.

وقد ورد في الحديث الشريف مِن علامات المؤمن، عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: المؤمن مَن طاب مكسبه، وحسنت خليقته، وصحّت سريرته، وأنفق الفضل مِن ماله، وأمسك الفضل مِن كلامه، وكفى الناس مِن شرّه، وأنصف الناس مِن نفسه (1). والمقصود ( بطيب المكسب ) أن يكون ما يكسبه مِن المال مِن حلال.

وقد اتّبعت في بياني لهذه المكاسب الأسلوب العلمي المتعارف بين الفقهاء رضوان الله عليهم، ورحم اللّـهُ الماضين منهم وحفظ الباقين. ولم أتوسّع في الشرح والبيان، حتى لا أخرج عن الهدف والقصد.

وذكرت في بداية الكتاب مقدمة عن العمل وضرورة السعي في الحياة، تشجيعاً عليه ودعوة إليه، وليتفهم الكثير مِن الناس أن البطالة والكسل هو تجميد للطاقات الإنسانية، بل تحويل للإنسان إلى أداة لا قيمة لها في الحياة، في حين إن الإنسان ليس كذلك، وإنما هو بطاقاته وبما أَودع اللّـهُ فيه مِن قوى وإمكانات وبالسعي والعمل، هو المخلوق الَّذي تسمو به الحياة وتزدهر، ويضفي عليها البهاء والسناء والكمال، وهذا هو موقف الإسلام مِن العمل والسعي.

أتمنى على الجميع القراءة الهادفة والمعمّقة لهذا الكتاب للاستفادة الصحيحة منه، وأرجو أن أكون قد قمت بما هو الواجب والضروري علي، مِن خدمة الدين وخدمة المؤمنين، ومن الله أستمدّ العون والتوفيق، والرشاد والتسديد، وألتمس الدعاء.

علي السيد حسين يوسف مكي



--------------------------------------------------------------------------------

(1) بحار الأنوار للمجلسي، ج 67 ص 293

العمل وأهميته في الإسلام

مِن أبرز الأمور التي أفرد لها الإسلام مساحة واسعة في التشريع: العمل ؛ سواء على صعيد المعاملات، أو على صعيد الأخلاق.

وأعني: على صعيد المعاملات، ملاحظة أنواع العمل والمجالات التي يعمل فيها، والأمور التي يمارس فيها العمل كوسيلة وحركة تستهدف البناء والعمارة والإنتاج بما يستلزم مِن ذلِكَ تحقيق وتلبية احتياجات الإنسان ومعرفة أحكامها بشكل واضح.

وعلى صعيد الأخلاق، ضرورة التقيّد بالقانون وبذل الجهد في العمل والصدق والإخلاص، وعدم الكسل والتواني في ذلِكَ، والقناعة والرضى بما قسم اللّـهُ، والمواساة والتعاون في ذلِكَ وغيرها.

وشدّد الإسلام على الاهتمام بالعمل:

أولاً: لأنه بذاته أساس ودعامة مهمة في النظام الاقتصادي والبناء الاجتماعي، وركيزة مهمة في التطور الإنساني للأسمى والأفضل والأهم في عالم الفرد والمجتمع. والإسلام حين جعل وأعطى للعمل هذه الأهمية في الحياة الإنسانية وفي نظامها وحفظ شؤونها، جعله فلأنه يرى أن لا وسيلة سواه يتمكن الإنسان بها مِن تحقيق مبادئ الاستخلاف في الأرض وعمارتها والاستفادة مِن كل الموارد الطبيعية المخزونة فيها.

ثانياً: إن الإسلام يرتقي بالعمل إلى درجة العبادة، بل يراه عبادة لما فيه مِن الإيمان بالله المالك لكل الأمور والانقياد له والتوكل عليه في ذلِكَ، فلا بدّ للعبد مِن العمل ليصل إلى درجة العبادة المطلقة التي يتسامى بها عند الله.

وقد ورد في الحديث الشريف: العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال.

مِن هذا الواقع نجد أن العمل يستأثر بأهمية كبيرة في الأخبار الشريفة الواردة عن أهل البيت (ع) مضافاً إلى الآيات الكريمة الواردة في ذلِكَ.

ويخلص الفقهاء في فتاواهم التي تذكر في أبواب المعاملات، وفي العديد مِن أبواب الفقه ؛ مثل التجارة، والإجارة، والمضاربة، والسقاية، والزراعة، والسلف، والرهن.. ونحوها، إلى أهمية وقيمة دور العمل في الحياة ووجوبه على الإنسان، وإلى ضرورة الإبداع في ذلِكَ وإظهار القدرة وبذل الجهد والطاقة فيه لاستغلال كل ما يحقق له النظام والاستقرار والتوازن في الحياة. وإن هذه الفتاوى والأحكام تأخذ جانب التأكيد والإلزام على الإنسان، بضرورة العمل والسعي، وذلك لِما أسلفنا ذكره مِن أنه لا يمكن أن يرتقي الإنسان في الحياة ويحقق أهدافه، ويحقق عمارة الأرض ومقولة الاستخلاف في الأرض بشكل صحيح، إلا بهما.


ما هو العمل:

العمل في مفهومه ومعناه واضح جداً، إنه الجهد والحركة التي يبذلها الإنسان مِن أجل تحقيق وتأمين احتياجاته ومتطلباته على اختلافها ؛ ماديةً كانت أو معنوية.

ونتيجة العمل والجهد يسمى " الإنتاج "، أي عندما يتفاعل الجهد البشري مع العناصر الأولية المتوفرة في كل المجالات يتحقق الإنتاج المناسب. فالعامل في البناء أو التجارة، أو النجارة أو الحدادة أو الزراعة ، يحقّق إنتاجاً مادياً.

والطبيب والمهندس يحقق خدمات معينة تسمى إنتاجاً. وقد يشترك العنصر المادي والمعنوي فيها، ويسمى انتاجاً أيضاً، كما في تصنيع وتطوير الأمور المادية أو المواد الأولية إلى مواد يستعملها الإنسان في احتياجاته.

فالكاتب والعالم وغيرهما يحقق عطاء معنوياً، ويسمى انتاجاً أيضاً.. وهكذا. إن المهم في الحياة الانسانية أن تتوفر لدى الإنسان المشاعر الحية بضرورة السعي والعمل، إذ هما اللذان يجسّدان شخصيته وإنسانيته، كما تتجسد بالعقل والعلم والقدرة وبمفاهيم أخرى، وأن لا يكون بعيداً عن هذه المفاهيم وكسولاً وخاملاً.

وقد أوجبت الشريعة المقدسة السعي والعمل على الإنسان في طلب الرزق وتأمين احتياجاته، وجعلته مظهراً مِن مظاهر العلاقة الإيمانية والارتباط والصلة بالله سبحانه كما أسلفنا، حيث يجسّد بذلك التوكل والاعتماد عليه في كل شؤونه وأموره، لأن الله سبحانه وتعالى هو المالك الحقيقي لكل ما في هذا الوجود، وبيده خزائن السَّموات والأرض، والإنسان عاجز عن كل شيء إلا ما يسَّره اللّـهُ له وأوجده أو أوجد أسبابه، ولذلك حين يسعى ويعمل ويتحرك لطلب المعاش يتحرك ويسعى مِن خلال أمر الله سبحانه والتوكل عليه.

وبهذا العامل الروحي والأخلاقي استطاع الإسلام أن يحقق للإنسان السعادة والخير والأمن والاستقرار، في حين فشلت الحضارة الحديثة والتطور الصناعي المذهل والتكنولوجيا الفائقة أن تحقق شَيْئاً مِن ذلِكَ، كما هو مشاهد في كثير مِن الأمور التي تعاني منها البشرية ؛ كالأخلاق، حيث ترى الفساد والتحلل المطلق منتشراً وسائداً فيها ؛ وعدم الاستقرار حيث ترى الاضطراب والفوضى والاعتداءات تفوق الوصف والعدّ ؛ وكثيراً مِن نوازع الشرّ والفساد التي تتزايد في كل يوم وفي كل مكان، ولم تستطع الحضارة الحديثة أن توقف مدّه ولا أن تحصر سوءه.

إن الإسلام يتحرك مِن خلال الواقع الإنساني والتكوين الذاتي للإنسان، ولذلك أوجد له وشرّع له ما يتلاءم وطبيعته وظروفه واحتياجاته بشكل كامل، بل هو يتعامل معه مِن خلال هذا الواقع ومن خلال واقع آخر، وهو ارتباطه بهذا الكون، وأنه جزء منه كما سنشير إليه. ولذلك جاءت التشريعات التي قررها واعتبرها أساساً في نظام الإنسان، متكاملة وشاملة فضلاً عن كونها متناسقة في جميع الأمور والاعتبارات.

وإذا كان هناك مَن لا يؤمن بهذه المقولة لأن تجربته ونظرته لم توصله إلى هذا الواقع الَّذي ذكرناه " مِن تكامل وشمول التشريعات الإسلامية لجميع جوانب الحياة " ولذلك تبنُّوا أنظمة ومقررات جديدة وحديثة في عالم الإنسان، كالأنظمة الرأسمالية والأنظمة الإشتراكية وغيرها ؛ فإنما ذاك لأنهم لم يعرفوا ولا تعرّفوا على الإسلام وقوانينه وتشريعاته بشكل صحيح، وحتى لو عرفوه فهو لا يوافق ما يريدون، فحكموا عليه بما يقولون. ولذلك يبقى الإسلام في هذا التشريع وفي كل تشريعاته هو الرائد الَّذي يهتمّ بشؤون الإنسان، لأنها تتلاءم مع أوضاعه واحتياجاته، ولأنها نابعة مِن واقعه الإنساني كما أسلفنا.

وحين نستعرض ما ورد في القرآن الكريم والسنّة الشريفة، نقرأ جميع هذه المفاهيم والمعاني التي ذكرناها، وأن العمل والسعي مِن الأسس المهمّة للإنسان في حياته وجميع شؤونه الروحية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية.

ولنستعرض ما ورد في القرآن الكريم في ذلِكَ. قال تَعالَى: { وامشوا في مَناكبها، وكُلوا مِن رزقِهِ، وإليهِ النُّشورُ } (1).

وقال تَعالَى: { وابتَغِ فيما آتاكَ اللّـهُ الدّارَ الآخرةَ، ولا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنيا، وأحسِنْ كما أحسنَ اللّـهُ إليك } (2).

وقال تَعالَى: { فإذا قُضِيَتِ الصّلاةُ، فانْتَشِروا في الأرضِ وابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ } (3).

وقال تَعالَى: { والأرضَ مَدَدْناها، وألقَيْنا فيها رَواسِيَ، وأنْبَتْنا فيها مِن كُلِّ شيءٍ مَوزُون * وجعلنا لَكُم فيها مَعايِشَ ومَن لَسْتُم بِرازِقينَ * وإنْ مِن شيءٍ إلاّ عِندَنا خَزائِنُهُ، وما نُنَزِّلُهُ إلاّ بِقَدَرٍ مَعلومٍ } (4).

هذه الطائفة مِن النصوص والآيات القرآنية تؤكد لنا المفاهيم التي أشرنا إليها وذكرناها بالنسبة لضرورة العمل والسعي، وأن الأرض هي مصدر العطاء والمنبع الأساس لاحتياجات الإنسان، وما عليه إلا أن يتحرك فيها. وإن تحقُّق وتوفُّر هذه الاحتياجات لا يكون إلا بالتفاعل مع العناصر الطبيعية في الأرض، وهو ما يسمّى بالسعي والعمل.

وأما ما ورد في السنة الشريفة فكثير جداً وبتأكيدات معبّرة، تلقي على العمل أضواء واعتبارات مهمّـة جداً.

ورد في الحديث الشريف: ليس منا مَن ترك آخرته لدنياه، ودنياه لآخرته.

وورد في الحديث عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: قال رسول الله (ص): يصبح المؤمن أو يمسي على ثُكل، خير له مِن أن يصبح أو يمسي على حَرَب(5).

وفي الحديث الشريف عن شهاب بن عبد ربه قال: قال أبو عبد الله (ع): إن ظننتَ أو بلغك أن هذا الأمر كائن في غد، فلا تدَعَنَّ طلبَه ؛ وإن استطعت أن لا تكون كَلاًّ، فافعل (6).

وفي حديث آخر قال أبو عبد الله(ع): أقرئوا مَن لقيتم مِن أصحابكم السلامَ، وقولوا لهم: إن فلاناً بن فلان يُقْرِئُكم السلام، وقولوا لهم: عليكم بتقوى الله عزّ وجل وما يُنال به ما عند الله. إني واللهِ ما آمركم إلا بما نأمر به أنفسنا، فعليكم بالجدّ والاجتهاد، وإذا صلّيتم الصبح وانصرفتم، فبَكِّروا في طلب الرزق، واطلبوا الحلال فإن الله عزّ وجل سيرزقكم ويعينكم عليه (7).

وقال رسول الله (ص): العبادة سبعون جزءاً، أفضلها طلب الحلال (8).

إن هذه المجموعة مِن الأخبار الشريفة ليست هي ناظرة فقط إلى وجوب العمل وضرورته، وإنما هي في نفس الوقت تلقي ظلالاً واسعة على أن العمل في الإسلام والسعي مِن أجل تحصيل الرزق والانتاج وعمارة الأرض، يوازي التقوى والورع، التي هي صفات واعتبارات ضرورية في تكوين ورسم المعالم الأساسية لشخصية الإنسان الإيمانية وعلاقته بربه، وأن الدين كما هو عبادة وصلة بالله وتقرُّب إليه وورع وتقوى وفقه في الأحكام، فهو كذلك عمل وسعي، وهو كذلك حركة وإنتاج، وهو كذلك استفادة واستخلاص لما في الأرض مِن خيرات وموارد وثروات وإمكانات وقوى. وقوله: " ليس منا مَن ترك آخرته لدنياه، ودنياه لآخرته " تأكيد لهذه المقولة، وتوسيع لهذه المفاهيم التي تُنتزع مِن الدين ؛ فالدنيا تريد والآخرة تريد، والدين يهتم بالدنيا كما يهتمّ بالآخرة، ولذلك جعل لكل واحدة منطلقات وأحكام وضرورات ومقوّمات، وبهما معاً يتكامل الاعتبار الإيماني والديني والوجود الإنساني.

وقوله (ع): " واللهِ ما آمركم إلا بما نأمر به أنفسنا، فعليكم بالجدّ والاجتهاد، وإذا صلّيتم الصبح وانصرفتم، فبَكِّروا في طلب الرزق " إنه تأكيد لهذه المقولة والاعتبار أيضاً، فالذي ينظر إليه الأئمة ، أن الدين حركة دائمة متأصلة في اتجاه الدنيا والآخرة، ومنهج يتقوّم بالعمل للدنيا والآخرة، والتزام بالمسؤولية في الدنيا والآخرة، ولذلك كان العمل عبادة، كما ورد في الحديث الشريف عن الرسول الأعظم (ص)، وعباديته باعتبار التقرّب فيه إلى الله سبحانه والطاعة المطلقة بامتثال أمره والانقياد له.





--------------------------------------------------------------------------------

(1) سورة الملك 15

(2) سورة القصص 77

(3) سورة الجمعة 10

(4) سورة الحِجر 19 - 21

(5) الكافي للعلامة الكليني، ج5 ص 72. والثُّكل: فقدان الأهل والولد والأحبة. والحرَب: نهب مال الشخص وتركه فقيراً لا مال له.

(6) الكافي للعلامة الكليني، ج5 ص 79

(7) الكافي، ج5 ص 78

(8) وسائل الشيعة للحر العاملي، ج12 ص 11

العمل جهاد:

وكما أن العمل عبادة، كذلك هو جهاد في سبيل الله سبحانه، فقد ورد في الحديث قال أبو الحسن الكاظم (ع): مَن طلب هذا الرزق مِن حِلّه ليعود به على نفسه وعياله، كان كالمجاهد في سبيل الله (1).

إن العمل الشريف جهاد، لأن طلب الرزق مِن حلال والسعي مِن أجله تأكيد لهدف الإسلام وإرساء لأسسه مِن جميع الأمور التي تنطلق مِن الإيمان بالله سبحانه، وتأكيد سلطانه في الوجود وعلى كل شيء، لأن كل شيء في هذا الوجود هو ملك لله سبحانه وبتدبير الله، وحينما ينطلق الإنسان في تحصيل قوته ومعاشه وتدبير شؤونه المعاشية والحياتية منطلقه مِن أمر الله وطاعته، وهدفه أن يكون ذلِكَ عوناً له على عبادة الله تَعالَى، والالتزام بدينه والامتثال لأوامره.

وقد ورد في الحديث الشريف: نِعم العون على تقوى الله الغنى (2). نِعم العون، الدنيا على الآخرة (3).

وقوله تَعالَى: { فلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذا البَيْتِ، الَّذي أطعمَهُم مِن جُوعٍ وآمَنَهُم مِن خَوف } (4). إن الترابط بين عبادة الله سبحانه وبين توفير احتياجات الإنسان وضروراته المعاشية، وإطعامهم مِن جوع، وكذلك أمنهم مِن خوف، تأكيد على أن تحصيل القوت والمعاش والسعي مِن أجلهما مِن دواعي العبادة والشكر لله سبحانه، وهذا هو الجهاد.





--------------------------------------------------------------------------------

(1) الوسائل، ج12 ص 11

(2) الكافي، ج5 ص 71

(3) المصدر السابق

(4) سورة قريش 3 و 4


العمل عزّ وكرامة للإنسان:

وتحضّ السنّة الشريفة في الحث والتأكيد على العمل والسعي مِن الإنسان، فتجعلهما مِن أسباب ووسائل العزة والكرامة له. فالإنسانّ يسعى مِن أجل تحصيل قوته ومعاشه وتأمين احتياجاته، ويعمل جاهداً للاستغناء بعمله وسعيه عن الطلب والسؤال مِن الناس، ولا يكون كَلاًّ عليهم، وبذلك يكون عزيزاً وكريماً على الناس وفي نظرهم، بل تكون نظرتهم إليه نظرة إكبار وتقدير واحترام.

ورد في الحديث: أن أبا عبد الله(ع) قال لمولى له: يا عبد الله احفظ عزَّك. قال: وما عزّي جُعلت فداك؟. قال: غدُوُّك إلى سوقك، وإكرامك نفسك (1).

إن الحاجة إلى الناس ذلّ وهوان كبير، وخاصة في أمور الرزق والمعاش. واللّه سبحانه ارتقى بالمؤمن وبعباده، أن يكون كريماً عزيزاً. قال تَعالَى: { ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِلمـُؤمِنينَ }. ولذلك كانت جميع أسباب العزة والكرامة مهيّأة له وبين يديه، فليس له أن يذلّ نفسه في شأن مِن الشؤون وأمرٍ مِن الأمور، وخاصة في أمور الرزق، وسيأتي مزيدُ بيانٍ لهذا الأمر.





--------------------------------------------------------------------------------

(1) الوسائل، ج12 ص 5



العمل يدعو للعقل:

إننا حين نستعرض الأخبار المؤكدة للعمل والسعي وضرورتهما في الحياة، نجد أن التشريع الإسلامي لا يريد فقط أن يُظهر أهمية العمل والسعي والجدّ وبذل الجهد في تحصيل الرزق وغيره فقط، وإنما يريد أيضاً أن يجسّد الاعتبارات والطاقات والامكانات التي تتوفر عند الإنسان والمخزونة في كيانه ويبرزها في أجواء العمل والسعي لتحقيق آماله وتطلعاته في الحياة، وأهدافه التي يرجوها ويصبو إليها.

ورد في الحديث عن أبي عبد الله(ع) قال: التجارة تزيد في العقل. وقال (ع): ترك التجارة ينقص العقل.

وفي حديث عن معاذ بن كثير بياع الأكيسة قال: قلت لأبي عبد الله(ع): إني هممت أن أدَعَ السوق وفي يدي شيء، فقال: إذن يسقط رأيك ولا يستعان بك على شيء (1).

وفي حديث معتبر عن داود بن سرحان، قال: رأيت أبا عبد الله(ع) يكيل تمراً بيده، فقلت: جُعلت فداك، لو أمرت بعض ولدك أو بعض مواليك، فيكفيك. فقال: يا داود إنه لا يُصلح المرء المسلم إلا ثلاثة: التفقّه في الدين، والصبر على النائبة، وحُسن التقدير في المعيشة (2).

إن الإنسان في هذا الوجود جزء مِن المجموعة الكونية التي أوجدها الله سبحانه، ونظام الكون قائم على الحركة المنتظمة المستمرة، ولا يمكن للإنسان أن يكون على خلاف هذه المجموعة. فالعمل والسعي والحركة مِن قوامها وأهم اعتباراتها. وما القوى الكامنة فيه والطاقات المودعة فيه، والامكانات المزدحمة في داخله، إلا ليتمكن مِن التعامل والتفاعل مع القوى الطبيعية الموجودة في هذه الأرض، والتي هي لصالح الإنسان ويستفيد منها.

قال تَعالَى: { هوَ الَّذي جعَلَ لَكُم مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ ناراً، فإذا أنتم منه تُوقِدون } (3).

وقال تَعالَى:{ هو الَّذي جعلَ لكم ما في الأرض جميعاً } (4).

وقال تَعالَى: { أوَلَم يَرَوا أنّا خَلقنا لَهُم مِمّا عَمِلَتْ أيْدينا أنْعاماً فَهُم لَها مالِكونَ * وذَلَّلْناها لهم، فمِنها رَكُوبُهُم ومِنها يَأْكُلُون * ولَهُم فيها مَنافِعُ ومَشارِبُ، أَفَلا يَشكُرون } (5).

وقال تَعالَى: { اللّـهُ الَّذي خلقَ السمواتِ والأرضَ، وأنزلَ مِنَ السَّماء ماءً، فأخرجَ به مِنَ الثَّمَراتِ رِزقاً لكُم، وسخَّرَ لكُمُ الفُلـْكَ لتجريَ في البحر بأمره، وسخَّرَ لكُمُ الأنهار * وسخّر لكمُ الشمس والقمرَ دائِبَينِ، وسخّر لكمُ اللّيل والنَّهارَ * وآتاكُم مِن كلِّ ما سألتُموهُ. وإنْ تَعُدُّوا نعمةَ اللهِ لا تُحصوها} (6).

وقال تَعالَى: { والأرضَ مَدَدْناها، وألقَيْنا فيها رَواسِيَ، وأنْبَتْنا فيها مِن كُلِّ شيءٍ مَوزُون * وجعلنا لَكُم فيها مَعايِشَ ومَن لَسْتُم بِرازِقينَ * وإنْ مِن شيءٍ إلاّ عِندَنا خَزائِنُهُ، وما نُنَزِّلُهُ إلاّ بِقَدَرٍ مَعلومٍ } (7).

الإنسان في هذه الآيات الكريمة جزء مِن هذا الوجود، والوجود بجملته مخلوق لصالحه وخيره وفي خدمته، لينتفع منه في حاجاته وشؤونه. وبما أنه لا يمكن تحقيق الاستفادة منه إلا مِن خلال استعمال القوى الكامنة فيه والطاقات المودعة عنده، كان لابدّ مِن تفاعل هذه القوى مع ما هو موجود في هذا الوجود، واستغلالها بالجهد المباشر لتصبح شَيْئاً محسوساً وملموساً يشعر بضرورته.

فالمطر الَّذي ينزل مِن السماء ويكوّن أنهاراً وينابيع، على الإنسان أن يستفيد منه ويأخذه لحاجته، مِن شرب وسقي وغير ذلِكَ. والأشجار الموجودة في الأرض والمنتشرة في بقاعها وتشكل غابات وبساتين بما فيها مِن مختلف الألوان والأنواع، يمكن أن يستفيد منها في مجالات عديدة جداً. فعليه أن يستثمرها بشكل صحيح لتكون الفائدة متواصلة ويكون الخير مستمراً، لا أن يُصَحِّر هذه الغابات وينهي هذه الأشجار، أمام رغبات هزيلة وقليلة النفع محدودة العطاء، فيضرّ نفسه وغيره مِن الموجودات، كما يفعل الآن. فهو بإمكانه أن يكيّف هذه الموجودات إلى خزائن تستمرّ في العطاء، ويستفيد منها أكثر وأكثر مما يستفيده الآن.

كل هذا في سبيل أن يتحرك الإنسان ويعمل بكل جهد ويسعى بكل نشاط، لأنه لا يمكن أن يكون كسولاً وخاملاً متقاعساً عن ضرورياته وحاجاته، وإلا يفسد أمره وتصبح الحياة عديمة الجدوى والنفع.

يقول أمير المؤمنين (ع): إن الأشياء لما ازدوجت، ازدوج الكسل والعجز، فنتجا بينهما الفقر (8).

وعن أبي عبد الله(ع): عدوّ العمل الكسل (9).

وفي الحديث عن أبي الحسن الكاظم (ع) قال: إياك والكسل والضجر، فإنك إن كسلتَ لم تعمل، وإن ضجرت لم تُعطِ الحقّ (10).

بل الكسول مبغوض. ورد في الحديث عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: إني لأبغض الرجل أن يكون كسلاناً عن أمر دنياه، ومَن كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل (11).

وفي حديث آخر عن أبي جعفر (ع): إني أجدني أمقت الرجل متعذّر الكسب، فيستلقي على قفاه ويقول: اللهمّ ارزقني، ويدع أن ينتشر في الأرض، ويلتمس مِن فضل الله، فالذرّة ( أي النملة ) تخرج مِن جُحرها تلتمس رزقها(12).

إن الأهمية في هذه الأحاديث التي وردت بتعابير مختلفة، وتنهى عن الكسل وترك العمل، أنها تشير إلى أن الكسول لا يمكن أن يقيَّم بالقيم والاعتبارات الانسانية، مثل العقل والإيمان والهدى والعلم. وإن هذه الأمور من دون جهد وعمل لا تعطي ثمارها ولا تؤكد نفسها. فالعقل يدعو العاقل للجدّ والاجتهاد والحركة في سبيل إصلاح أمره وشؤونه وما يتعلق بحياته. وكذلك الإيمان قيمته بالعمل والانصياع لأوامر الله والاتكال عليه. وكذلك الهدى والعلم لايمكن أن يكون لهما الأثر والعطاء الَّذي يتجلى في آفاق الحياة والوجود الإنساني، إذا لم يقترنا بالعمل.

وعلى هذا الأساس نجد الأحاديث الشريفة أبعدت الكسول والمتواني في العمل والمتهاون فيه، عن قبول الدعاء واستجابته.

ورد عن النبيّ (ص): إن أصنافاً مِن أمتي لا يستجاب لهم دعاؤهم ؛ رجل يدعو على والديه، ورجل يدعو على غريم قد ذهب له بماله فلم يكتب عليه ولم يُشهد عليه، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل اللّـهُ عزّ وجل تخلية سبيلها بيده، ورجل يقعد في بيته ويقول: يا رب ارزقني ولا يخرج ولا يطلب الرزق، فيقول اللّـهُ عزّ وجل له: يا عبدي، ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب والتصرف في الأرض بجوارح صحيحة، فتكون قد أعذرتَ فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمري، ولكيلا تكون كَلاًّ على أهلك (13).

وورد في الحديث: إن قوماً مِن أصحاب رسول الله (ص) لما نزلت هذه الآية: { ومَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، ويَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحْتَسِبُ } أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة، وقالوا: قد كُفينا !. فبلغ ذلِكَ النبيّ (ص) فأرسل إليهم فقال: ما حملكم على ما صنعتم؟!. فقالوا: يا رسول الله تكفَّل اللّـهُ لنا بأرزاقنا، فأقبلنا على العبادة. فقال: إن مَن فعل ذلِكَ لم يستجب له، عليكم بالطلب(14).

إن الرزق بما هو رزق مضمون للعباد، كما قال تَعالَى:

{ نحن قَسَمْنا بينَهُم مَعيشَتَهُم في الحـَياةِ الدُّنيا } لأن فيه صلاحهم ونظامهم. ومع هذا فقد أمر اللّـهُ سبحانه بالسعي والطلب للرزق، وليس للإنسان أن يقعد عنه ويتكاسل. واللهُ سبحانه حين قسم الرزق لعباده وأمرهم بطلبه، لا يمكن أن يُخلف ما وعدهم به ولا يمنعهم ما قسمه لهم، فعلى العبد أن لا يعتمد على الدعاء فقط، لأن نظام الحياة قائم على السعي والعمل، فلا بدّ له مِن الطلب والسعي، والرزق مضمون يصله مِن خلال الطلب ومن خلال غيره حسب المصلحة للعباد.

إذن فالعمل مِن ضروريات الحياة الإنسانية، وبدونه لا قيمة للحياة، وهو شأن الإنسان في صلاح أمره وانتظام دنياه، ولا مفرّ منه لأنه الشيء الوحيد الَّذي يجسّد المبادئ والمفاهيم الإنسانية والإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، إنه كل شيء في الحياة. وعلى هذا الأساس ولقيمته وأهميته وشرفه ومكانته لم يُفسح المجال أمام الإنسان بالتهاون به إطلاقاً.





--------------------------------------------------------------------------------

(1) الوسائل، ج12 ص 7

(2) الوسائل، ج5 ص 87

(3) سورة يس 80

(4) سورة البقرة 29

(5) سورة يس 71 - 73

(6) سورة إبراهيم 32 - 34

(7) سورة الحجر 19 - 21

(8) الكافي، ج5 ص 86

(9) الكافي، ج5 ص 85

(10) الكافي، ج5 ص 85

(11) المصدر السابق

(12) الوسائل، ج12 ص 17

(13) الوسائل، ج12 ص 15

(14) الوسائل، ج12 ص 15



ليس شيء أذلَّ مِن السؤال:

ومن هذا المنطلق أودّ أن أشير إلى ناحية مهمّة في حياة بعض المؤمنين الَّذينَ لا يهتمون بالعمل والسعي، ويعتمدون على المساعدات التي تُعطى لهم مِن الحقوق الشرعية وغيرها.

هؤلاء لو كانوا يدركون ما وراء هذه المساعدات مِن نظرة هزيلة، وما تحمل مِن استهانة في شأنهم ومن ضياع لكيانهم وشخصيتهم، ومن عيشهم في ظل السلبيات، كما يفعله بعض الأشخاص الَّذينَ يَعطون المساعدات والحقوق الشرعية، أو مَن تصبّ في أيديهم الحقوق الشرعية، وكيف يضغطون على ذوي الحاجة والفاقة ليصبحوا مِن أتباعهم كما يريدون، وأقلّ شيء أن يُسَبِّحوا بحمدِ مَن يعطيهم ليرة أو درهماً أو ديناراً أو دولاراً، ويذكروه بالجميل دائماً وأبداً، كما سمعت ورأيت بنفسي !.

هؤلاء لو كانوا يلتفتون إلى هذا الواقع ويلتفتون إلى أن العمل والسعي وبذل الجهد في سبيل لقمة العيش، هو أزكى وأفضل وأشرف وأعزّ مِن كل هذه المساعدات، لَما مدّوا أيديهم إلى أحد، ولما تركوا العمل لحظة.

وكم أتمنى أن ينهج طلاب العلم الديني في هذا الزمان منهج السابقين مِن العلماء الأبرار والأتقياء الأخيار، مِن الاحتياط الكامل في شأن الحقوق الشرعية التي يجب أن تبذل بوجه صحيح، وذلك بالانكباب الكامل على الدرس والتدريس والتبليغ والتعليم والتوجيه الكامل المثمر، بنحو يُشعر برضى الإمام الحجة ومباركته، ويكون في صرفه للحق الشرعي غير متجاوز حدود الاحتياط والحاجة، ويكون مورداً لها يأخذ منها ما يكفيه وعياله وفي حالات الضيق والعسر، شريطة أن لا يكون الفقر والحاجة سلعة، ولا يكون مأسوراً لمن بيده الحق، ولا رهناً لعطائه وعونه.

ولكي أؤكد ما ذكرته مِن ضرورة العمل والسعي وعدم الاعتماد كلية على الحقوق الشرعية، أذكر هذا الحديث.

ورد عن أمير المؤمنين (ع) قال: أوحى اللّـهُ إلى داود (ع) إنك نِعم العبد، لولا أنك تأكل مِن بيت المال، ولا تعمل بيدك شَيْئاً. قال: فبكى داود أربعين صباحاً. فأوحى اللّـهُ إلى الحديد أن لِنْ لعبدي داود، فألانَ اللّـهُ عزّ وجل له الحديد، فكان يعمل في كل يوم درعاً، فباعها بثلائمئة وستين ألفاً، واستغنى عن بيت المال (1).

فما عاتب اللّـهُ عبده داود بالأكل مِن بيت المال ( وما كان عتاباً ينافي العصمة ) فعتابه لأنه قادر على الكسب والعمل. وقد انصرف داود إلى صنع الدروع وقد ألان اللّـهُ له الحديد وصنع منها العديد، وعاش مِن كدّ يده. وهكذا كان منهج الأنبياء والأوصياء، العمل بأيديهم وكسب معاشهم بجهدهم وعملهم.

فالنبي (ص) كان يعمل بيده. ورد في رواية عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه، قال: رأيت أبا الحسن (ع) يعمل في أرض له، وقد استنقعت قدماه بالعرق، فقلت: جُعلت فداك، أين الرجال؟. فقال: يا علي قد عمل باليد مَن هو خير مني ومن أبي في أرضه. فقلت: ومَن هو؟ فقال: رسول الله (ص) وأمير المؤمنين وآبائي كلهم، قد عملوا بأيديهم، وهو مِن عمل الأنبياء والمرسلين والأوصياء والصالحين (2).

وفي حديث آخر معتبر عن زرارة قال: إن رجلاً أتى أبا عبد الله(ع) فقال: إني لا أحسن أن أعمل بيدي، ولا أحسن أن أتّجر، وأنا مُحارف ( أي محروم ) محتاج. فقال (ع): اِعملْ، فاحمل على رأسك واستغن عن الناس، فإن رسول الله (ص) قد حمل حجراً على عاتقه، فوضعه في حائط له مِن حيطانه، وإن الحجر لفي مكان لا يُدرى عمقه (3).

والأخبار كثيرة جداً في هذا المضمون، ولعلها مِن أبرز ما يتفرّد بها الإسلام مِن بين الأديان كلها، حتى الشرائع الوضعية، على ضرورة العمل والسعي.

وإذا كان سيد الرسل والأنبياء وسيد البشرية أجمع محمّد (ص) قد عمل في أعمال عديدة، التي منها التجارة، والعمل باليد وغير ذلِكَ، فعلينا أن نقتدي بنبيّنا نبي الرحمة (ص)، ونتعلم منه هذا الدرس بشكل جدي ونهتمّ به اهتماماً بالغاً.

هذا مع العلم أن الشريعة عندما حثّت على العمل فلكونه أيضاً يتّسم بالوجوب الشرعي والتكليف الإلزامي، وأعتقد أن هذه الناحية قلّما يلتفت إليها أحد مِن الناس، ودون أن يوجّه إليها أحد مِن المبلّغين، بحيث يشعر المكلف بضرورة الالتزام بالعمل كما يشعر بضرورة باقي التكاليف الملزمة له. وعلى هذا الأساس ذكر الفقهاء أن التجارة واجبة، إما لذاتها، وإما مقدمةً لغيرها، وهي تنقسم إلى أقسام:

1- منها ما هو ضروري وواجب لحفظ النوع الإنساني وبه قوامه، مثل الصناعات والمهن، كالهندسة والطب وأمثالهما، وهذا واجب بالوجوب الكِفائي (4).

2- ومنها ما هو واجب لضرورة المعاش وكفاية النفس والعيال بالانفاق عليهم، وهذا وجوبه عيني وتعييني، بمعنى أنه واجب على ذات المكلف دون سواه. وهذه الناحية هي الأساس في حديثنا كله.





--------------------------------------------------------------------------------

(1) الوسائل، ج12 ص 22

(2) الوسائل، ج12 ص 23

(3) الوسائل، ج12 ص 23

(4) الواجب الكِفائي، على ما ذُكر في أشهر التعاريف: أنه ما وجب على الجميع، وإذا قام به البعض سقط عن الآخرين. كما لو دخل شخص إلى مجلس وسلَّم على الحاضرين، فالواجب على الجميع ردّ السلام، فإذا أجاب أحدهم سقط عن الآخرين


طلب الحلال:

ويلزم أيضاً أن يكون العمل وطلب الرزق في إطار الحلال دون سواه، فليس للإنسان أن يعمل ويسعى لشيء حرام أبداً مهما كان الحرام، لأن الحرام لا يمكن أن يكون حاجة ووسيلة يبذل الإنسان جهده مِن أجلها، لتغطية احتياجاته وكافة شؤونه. وذلك لأن الحرام لما كان بذاته فساداً أو فيه إفساد وفساد، وفيه هدم المصالح والحياة كلها، فلا يمكن أن يكون مطلوباً للمولى.

وقد ورد في الحديث عن أبي عبد الله (ع) عن آبائه ، عن رسول الله (ص) قال: اطلبوا أرزاقكم مِن حلال، فإنكم إن طلبتموها مِن وجوهها أكلتموها حلالاً، وإن طلبتموها مِن غير وجوهها أكلتموها حراماً، وهي أرزاقكم لا بدّ مِن أكلها (1).

ولكي يعرف الإنسان الحلال والحرام ويميّز بينهما، لابدّ له مِن الاطلاع الكامل والتعرف بشكل صحيح على ما ورد في أبواب الفقه والمعاملات، وأن يتابع التعلم والسؤال في مسائل التجارة والبيع بأنواعه، حتى لا يقع في الخطأ ويخبط خبط عشواء فيما هو محرّم، ولكي لا يرتطم بالربا ارتطاماً.

وهذه الرسالة معقودة لبيان “ المكاسب المحرّمة ".





--------------------------------------------------------------------------------

(1) الوسائل، ج5 ص 29


ما هي المكاسب المحرمة:

المكاسب المحرمة هي الأمور التي يحرم التعامل بها، وتكون مكسباً ووسيلة للتعيُّش منها، وذلك لِما فيها مِن سوء وما تسبّبه مِن فساد. فقد منع الشارع المقدّس مِن التعامل بها بكل أنواع المعاملات، كل ذلِكَ ليُجَنِّب الشارع المقدس الإنسانَ الآثار السيئة التي تترتّب على الحرام ؛ في القلب والنفس والأخلاق، وفي الولد أيضاً، بل حتى العبادات والطاعات تتأثر بالحرام وبمأكله، فلا يكون لدى الإنسان حضور قلب، بل لا تُقبل تلك العبادات لفقدانها شرائط القبول، مِن حيث المكان واللباس وغير ذلِكَ.

وبما أن الأمور المحرمة محصورة في أقسام معدودة، باعتبار أن الأمور كلها على الإباحة إلا ما حرّمه الشارع المقدس، فلا بدّ مِن ذكر هذه المحرمات واحدة واحدة ويعرفها المكلف، حتى يتمكن مِن تجنّبها وتجنّب التعامل بها، ويكون رزقه حلالاً مباركاً.

وأحببت أن أشير في سياق الكلام عن هذه الأمور المحرّمة، إلى بعض ما يدل عليها مِن الآيات الكريمة، وكذلك أذكر بعض الأخبار مِن السنّة الشريفة، وذلك للتوثيق والتأكيد على أن التشريع الإلهي نابع في واقعه مِن ذات التشريع، بمعنى أن الشريعة الإسلامية التي قررها اللّـهُ لعباده نظاماً يعالج شؤون العباد، ناظرة ومتعلقة بشؤون الحياة على أنها احتياجات وقضايا لابدّ مِن ممارستها ولا بدّ مِن التعامل معها، مِن دون النظر إلى الظروف أوالعوامل والقيود المحيطة بها، فكل شيء وكل حركة وسكنة لها حكم واقعي عند الله، لابدّ أن يتعامل مع هذا الحكم بكل موضوعية، ومجرداً عن كل قيد واعتبار. والقاعدة التي تقول:

" بأن للهِ في كل واقعة حُكم، يصيبه مَن يصيبه، ويخطئه مَن يخطئه " ناظرة إلى هذا المعنى وتتأكد فيه.

ومن هنا نقول: إن اختلاف الفقهاء في الفتاوى لا يلغي الحكم الواقعي المقرر في علم الله، والذي خاطب به الناس وأراده منهم على لسان النبيّ الكريم (ص)، ولا يمسّه إطلاقاً. فالحكم الواقعي باقٍ ولا يتغيّر إطلاقاً مهما كانت الظروف، وإنما الاختلاف ناظر إلى شروط الحكم وإلى موضوعه، وأنهما موجودان أم لا؟. فمَن قال بوجود الموضوع وتوفّر الشروط المعتبرة في الحكم، يقول الحكم موجود، فالحكم فعلي ومنجز، أي يجب الأخذ به وامتثاله ؛ ومَن قال بعدمهما لا يكون الحكم بالغاً مرحلة الفعلية والتنجُّز، أي أن المكلف غير مأمور به فعلاً، ولكن الحكم في مرحلة الواقع والتشريع على ما هو عليه باقٍ وثابت، وإنما هو موقوف فعلاً وغير ملغى. ومعنى ما ورد عن النبيّ (ص): (حلالي حلال إلى يوم القيامة، وحرامي حرام إلى يوم القيامة) يؤكد هذه المقولة التي ذكرناها، وهي بقاء الحكم في مرحلة الواقع والتشريع، لأن الحكم متعلق أو منطلق مِن ذات التشريع. ونظيره نظام الرق في الإسلام، فأحكام الرِّق والعبودية في الإسلام واسعة، وفي زماننا نجد أن الرق قد انتهى أو تضاءل إلى درجة أصبح في حكم المنتهي، وحيث عمل الإسلام على إنهائه بالتشريعات التي قررها في العتق وفي أحكام شرعية أخرى. ولكن هذا لا يعني إلغاء حكم الرق كليةً مِن صفحة التشريع الإسلامي، بل توقف هذا الحكم لعدم وجود موضوعه، وحكمه باقٍ في الشريعة وإن لم يكن فعلياً، لأنه مِن المحتمل جداً أن يتجدد بأسبابه ويعود.


دعوات مضللة:

والدعوات إلى التجديد والتسهيل في الأحكام وملاحظة العصرنة، وأن الإسلام جاء لكل العصور ولكل الأجيال، ومع التطور الحاصل في المجتمعات الإنسانية لابدّ مِن أن تتطور الأحكام، بمعنى أن نجد الحلول لبعض القضايا، ونرفع الحصار والحرمة المضروبة على بعض الأمور، لملاحظة التطور والتجديد، ولأنا أصبحنا جزءاً مِن هذه المجتمعات الإنسانية التي تستبيح هذه المحرمات.. هذه الدعوات ليست خرقاء فحسب، وإنما هي دعوات مشبوهة وخطيرة، تخفي وراءها الكثير مِن السموم والعبث بالشريعة والدين.

فالإسلام هو هو في أحكامه ومختلف شؤونه عقيدةً وأحكاماً وأخلاقياً واجتماعياً واقتصادياً، وهو هو في كل زمان ومكان، يتعايش مع كل الظروف والمجتمعات، حتى ولو بلغت أرقى ما يتصوّر مِن التطور والحضارة. لأن الإسلام منذ بدايته وفي كل تشريعاته يلحظ كل الاعتبارات وكل المجتمعات، كما هو مفاد قوله (ص): (حلالي حلال إلى يوم القيامة، وحرامي حرام إلى يوم القيامة).

فعندما يقول الشارع: الربا حرام، فحرمته باقية وسارية إلى يوم القيامة، حتى ولو أصبح الربا ركيزة أساسية في حياة الناس، ووسيلة اقتصادية مهمّة يقوم عليها التعامل، فلن يغيّر ذلِكَ مِن حكمه، بل يبقى حراماً.

وكذلك عندما يقول: الخمر حرام، أو القمار حرام، أو الغناء حرام، فالحرمة باقية وسارية لهذه الأمور مهما تقدمت وتطورت الحياة والمجتمعات الإنسانية، لأن هذا التحريم لهذه الأمور منظور به فيما ينطوي عليه مِن مفاسد وغيرها مِن الأمور التي تتسبّب سوءاً وأذى للإنسان. وحتى لو طرأ عنوان آخر بما يسمى بالضرورة أو العنوان الثانوي، فالجواز فيه حالة استثنائية تابعة للعنوان الَّذي طرأ، وللضرورة التي عرضت، ولكنها لا تغيّر الواقع بعنوانه، فبمجرد زوال الضرورة يعود الأمر إلى الحرمة، ولا يجوز استخدامه. نظير ما إذا اضطر المكلف إلى التيمم، حيث أن الماء يضرّه ويسبب له أذى، فالواجب عليه التيمم، وبعد ذلِكَ وعند زوال الضرر يرتفع حكم التيمم، وعليه استعمال الماء والوضوء به والغُسل.

وإنما أشرت إلى هذه المعاني في هذا الباب مِن أبواب الفقه، فللتأكيد على ضرورة المعرفة الواسعة الشاملة للفقه وأصوله عند العالم المجتهد، وعلى القوة والقدرة الكاملة عنده على التطبيق، مع الصدق والأمانة والعدالة العالية، التي يجب أن يكون عليها العالم، لأن هذه أحكام الله، والفتيا تَدَخُّلٌ بين الله وبين عباده، وهي مِن أخطر الأمور والمناصب التي يتولاها العالم. وكذلك نقل الفتوى إلى الناس، يجب أن يكون الإنسان فيها متأكداً، ولا يعرّض نفسه إلى مثل هذه الأمور، فإن مسؤوليتها كبيرة ومخاطرها أكبر.

وقد ورد في الحديث قال (ص): أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة، رجل قتل نبياً، أو قتله نبيّ، أو رجل يُضلّ الناس بغير علم.

وقال (ص): أجرؤكم على الفُتيا، أجرؤكم على النار (1).

وأيضاً للتأكيد على ضرورة الاحتياط في المحرمات والقيود المفروضة فيها، والتي يحاول البعض أن يخفف منها، فإن الاحتياط سبيل النجاة، وهو الطريق الوحيد لبراءة الذمة، خاصة في مثل هذا الزمان، الَّذي كثر فيه ادّعاء العلم والمعرفة والاجتهاد والمرجعية، والذي أصبحت فيه أحكام الله تخضع للتصورات والاعتبارات المصلحية، وعلى رأسها السياسة، ووفق الأهواء والشهوات والاتجاهات وغير ذلِكَ.

إن واجبنا أن نعيش ديننا بشكل صحيح، كما أوضح لنا مِن قبل سادتُنا وقادتنا أهل البيت (ع)، ولا نتسامح به ولا نتساهل في شأن مِن شؤونه ولا في حكم مِن أحكامه. وإن علينا أن نقدّم هذا الدين بعقائده وأحكامه وأخلاقياته وكافة شؤونه إلى الجميع، بالأسلوب الَّذي أُمرنا به مِن دون أي تساهل وتنازل، فهو دين التكامل والإنسانية، متكامل في جميع شؤونه وصريح وواضح في كل شؤونه وأحكامه وقضاياه، رضي عنه خصومه وأعداؤه أم لم يرضوا. والهداية إلى هذا الدين لا تتبع التسهيل بالأحكام والتنازل عن بعض أموره، وإنما الهداية قناعة تتولد في قلب وضمير الإنسان نتيجة الوضوح والصراحة والواقعية التي تتجسّد في الشخص، والواقعية والوضوح والصراحة في الدين أيضاً. وهذا هو السبب في بقاء واستمرار الدين وتفاعله في النفوس وفي جميع شؤون الحياة، رغم الحرب الشعواء والهوجاء والحاقدة التي يواجهها مِن خصومه بأشكالها وأساليبها المتنوعة.

هدانا اللّـهُ وإياكم سواء السبيل، وثبّتنا على دينه القويم وصراطه المستقيم، إنه سميع مجيب.



--------------------------------------------------------------------------------

(1) بحار الأنوار للمجلسي، ج 2 ص 123





اخوتي الاعزاء ساتابع الكتاب انشاء الله

آخر تعديل بواسطة جارية العترة ، 21-Jun-2009 الساعة 05:17 PM.

رد مع اقتباس