هداه الله صمم العزم على صحبتي له إلى مصر، وكان عنده جماعة من الغرباء مثلي، يقرؤون عليه فصحبه أكثرهم.
فسرنا في صحبته إلى أن وصلنا مدينة بلاد مصر المعروفة بالفاخرة
(1)، وهي أكبر من مدائن مصر كلها، فأقام بالمسجد الأزهر مدة يدرس. فتسامع فضلاء مصر بقدومه فوردوا كلهم لزيارته وللانتفاع بعلومه، فأقام في قاهرة مصر مدة تسعة أشهر، ونحن معه على أحسن حال إذا بقافلة قد وردت من الأندلس، ومع رجل منها كتاب من والد شيخنا الفاضل المذكور يعرفه فيه بمرض شديد قد عرض له، وأنه يتمنى الاجتماع به قبل الممات، ويحثه فيه على عدم التأخير.
فرقّ الشيخ من كتاب أبيه وبكى، وصمم العزم على المسير إلى جزيرة الأندلس، فعزم بعض التلامذة على صحبته، ومن الجملة أنا، لأنه هداه الله قد كان أحبني محبة شديدة، وحسن لي المسير معه فسافرت إلى الأندلس في صحبته، فحيث وصلنا إلى أول قرية من الجزيرة المذكورة، عرضت لي حمى منعتني عن الحركة.
فحيث رآني الشيخ على تلك الحالة رق لي وبكى، وقال: يعز علي مفارقتك، فأعطى خطيب تلك القرية التي وصلنا إليها عشرة دراهم، وأمره أن يتعاهدني حتى يكون مني أحد الأمرين، وإن منّ الله بالعافية أتبعه إلى بلده، هكذا عهد إليّ بذلك وفقه الله بنور الهداية إلى طريق الحق المستقيم، ثم مضى إلى بلد الأندلس، ومسافة الطريق من ساحل البحر إلى بلده خمسة أيام.
فبقيت في تلك القرية ثلاثة أيام لا أستطيع الحركة لشدة ما أصابني من الحمى ففي آخر اليوم الثالث فارقتني الحمى، وخرجت أدور في سكك تلك القرية فرأيت قفلاً قد وصل من جبال قريبة من شاطئ البحر الغربي، يجلبون الصوف والسمن والأمتعة فسألت عن حالهم فقيل:
إن هؤلاء يجيئون من جهة قريبة من أرض البربر، وهي قريبة من جزائر الرافضة.
فحيث سمعت ذلك منهم ارتحت إليهم، وجذبني باعث الشوق إلى أرضهم فقيل لي:
إن المسافة خمسة وعشرون يوماً، منها يومان بغير عمارة ولا ماء.
وبعد ذلك فالقرى متصلة، فاكتريت معهم من رجل حماراً بمبلغ ثلاثة دراهم، لقطع تلك المسافة التي لا عمارة فيها، فلما قطعنا معهم تلك المسافة، ووصلنا أرضهم العامرة، تمشيت راجلاً، وتنقلت على اختياري من قرية إلى أخرى «إلى» أن وصلت إلى أول تلك الأماكن، فقيل لي:
إن جزيرة الروافض قد بقي بينك وبينها ثلاثة أيام، فمضيت، ولم أتأخر.
فوصلت إلى جزيرة ذات أسوار عالية، أولها أبراج محكمات شاهقات، وتلك الجزيرة بحصونها راكبة على شاطئ البحر، فدخلت من باب كبيرة يقال لها: باب البربر، فدرت في سككها أسأل عن مسجد البلد فهديت عليه، ودخلت إليه فرأيته جامعاً كبيراً، معظماً، واقعاً على البحر من الجانب الغربي من البلدة، فجلست في جانب المسجد لأستريح وإذا بالمؤذن يؤذن للظهر ونادى بحي على خير العمل. ولما فرغ دعا بتعجيل الفرج للإمام صاحب الزمان (

).
فأخذتني العبرة بالبكاء، فدخلت جماعة بعد جماعة إلى المسجد، وشرعوا في الوضوء، على عين ماء تحت شجرة في الجانب الشرقي من المسجد، وأنا أنظر إليهم فرحاً مسروراً لما رأيته من وضوئهم المنقول عن أئمة الهدى (

).
فلما فرغوا من وضوئهم، وإذا برجل قد برز من بينهم بهيّ الصورة، عليه السكينة والوقار، فتقدم إلى المحراب، وأقام الصلاة، فاعتدلت الصفوف وراءه وصلى بهم إماماً، وهم به مأمومون صلاة كاملة بأركانها المنقولة، والتسبيح. ومن شدة ما لقيته من وعثاء السفر، وتعبي في الطريق لم يمكنني أن أصلي معهم الظهر.
فلما فرغوا ورأوني أنكروا علي عدم اقتدائي بهم فتوجهوا نحوي بأجمعهم وسألوني عن حالي ومن أين أصلي، وما مذهبي؟ فشرحت لهم أحوالي وأني عراقي الأصل، وأما مذهبي فإنني رجل مسلم أقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله «بالهدى» ودين الحق، ليظهره على الأديان كلها ولو كره المشركون.
فقالوا لي: لم تنفعك هاتان الشهادتان إلا لحقن دمك في دار الدنيا.
لم لا تقول الشهادة الأخرى لتدخل الجنة بغير حساب؟
فقلت لهم: وما تلك الشهادة الأخرى؟
اهدوني إليها يرحمكم الله.
-----
(1) الظاهر أن الصحيح هو: القاهرة.
يتبع >>>