السر في التناقضات:
ونحن في مقام الإجابة على هذا السؤال نقول:
إن ناسج خيوط هذه الرواية يمكن أن يكون قد كتبها أولاً، ونسبها إلى خط الشيخ الطيبي، ثم بدا له أن يعيد كتابتها مع إدخال بعض التحسينات عليها، مع الإصرار على نسبتها إلى خط ذلك الرجل المعروف فكان أن ظهرت فيها هذه الاختلافات، ووضحت فيها تلكم التناقضات.
أكذوبة تحريف القرآن:
وقد صرحت الرواية: بأن السبب في عدم الترابط فيما بين آيات القرآن هو أن الخليفة أبا بكر قد رفض القرآن الذي جمعه علي أمير المؤمنين (

)، ثم نادى بالمسلمين، وقال لهم:
«كل من عنده قرآن من آية أو سورة فليأت بها.
فجاءه أبو عبيدة بن الجراح، وعثمان، وسعد بن أبي وقاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وأبو سعيد الخدري، وحسان بن ثابت، وجماعات من المسلمين، وجمعوا القرآن، وأسقطوا ما فيه من المثالب التي صدرت منهم، بعد وفاة سيد المرسلين

فلهذا ترى الآيات غير مرتبطة.. الخ».
ونحن أمام هذه الدعوى نسجل الحقائق التالية:
أولاً: لقد أثبتنا في كتابنا «حقائق هامة حول القرآن الكريم» بالأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة أن القرآن سليم عن أي تحريف أو نقص أو زيادة وهو مقتضى النص والوعد الإلهي القاطع الذي يقول:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
(1).
حيث قد أجمعت الأمة بأسرها على عدم وقوع التحريف في هذه الآية، وقد دلت هذه الآية على أن القرآن محفوظ عن أن يتطرق إليه أي تغيير أو تبديل، أو زيادة أو نقصان.
ودعوى: أنه يكفي ـ في صدق الآية ـ حفظه لدى بعض الأفراد من الأمة وإن كان الموجود عند سائر الناس قد نالته يد التحريف.
دعوى باطلة فإن الهدف من إنزال القرآن هو هداية الأمة، {لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}
(2) والتدبر في آياته: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}
(3) و {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}
(4).
وواضح: أن هذا الأمر لا يختص بفرد دون فرد، ولا بجماعة دون أخرى.
وحفظ القرآن، إنما هو لأجل حصول هذه الغاية بالذات، فإذا كان محرفاً، لم يكن هدى لأحد، ولا هو مما لا ريب فيه، كما لا معنى للوم والتقريع على عدم تدبر آياته.
ودعوى: أن التحريف يمكن أن يكون قد نال الجوانب التي لا تؤثر على هداية الناس.
لا يمكن قبولها، فإن هدف الأعداء والمنافقين من القيام بعملية كهذه هو الإضرار بهذا الجانب بالذات، وإيجاد الريب فيه.
وثانياً: أضف إلى ما تقدم: أن شدة العناية بالقرآن، وبكتابته، وبحفظه، وتعدد المصاحف وشيوعها منذ عهد الرسول الأكرم

، وبإشراف مباشر منه

، قد بلغ حداً جعل حصول أي تحريف أو تبديل يلحق بالمحالات والممتنعات..
ويكفي أن نذكر: أنه لم تمض على وفاة الرسول الأكرم سوى سنوات قليلة، لا تصل إلى ثلاثة عقود من الزمن حتى أصبح قراء القرآن يعدون بعشرات الألوف
(5) وكيف يجرؤ أحد على ارتكاب جريمة كهذه، مع وجود الخيرة من الصحابة ومن غيرهم فإنهم ـ ولا شك ـ لسوف يقيمون الدنيا، ثم لا يقعدونها، ولسوف يصبح من تسول له نفسه ذلك لعنة التاريخ، في كل جيل.
وبعد ما تقدم فإننا نحيل القارىء إلى كتابنا «حقائق هامة حول القرآن الكريم» فإن فيه ما يكفي لإثبات بطلان دعوى تحريف القرآن، وأنها قد جاءت من قِبَل أعداء الدين بهدف المساس بقدسية القرآن، والطعن فيه.
وثالثاً: إن الشخصيات المذكورة أسماؤهم في قضية جمع أبي بكر للقرآن في هذه الرواية وان كان يمكن أن يكونوا قد حضروا وشاركوا في هذا الأمر. إلا أن الرواية لم تذكر زيد بن ثابت الذي تدعي الروايات: أنه هو الذي كان مكلفاً رسمياً من قبل الخلفاء بجمع القرآن وأعني زيد بن ثابت.
كما أنها لم تذكر ابن مسعود، ولا أبي بن كعب، ولا معاذ بن جبل، الذين عرفوا بالقرآن وقراءته وحفظه، وذكرت بعض الأحاديث التي تؤكد على أن لهم مقاماً مرموقاً في هذا المجال
(6).
ـــــــــــــــ
(1) سورة الحجر، آية 9.
(2) سورة البقرة، آية 2.
(3) سورة ص، آية 29.
(4) سورة محمد، آية 24.
(5) صفين للمنقري ص 188.
(6) راجع: حقائق هامة حول القرآن الكريم ص 112 / 114.
يتبع>>>