الدليل الثالث على التحريم:
إن ضرب الرؤوس، واللطم المؤلم، وضرب السلاسل، فيه إيذاء للنفس، وإضرار بها، وهو محرم عقلاً وشرعاً.
مناقشة هذا الدليل:
ونقول: إن هذا الدليل لا يمكن قبوله، وذلك للأمور التالية:
أولاً: إن من الواضح: أن جرح ولطم الإنسان نفسه وإيلامها، ليس من قبيل الظلم القبيح ذاتاً، والحرام شرعاً.. إذ لو كان كذلك لم يجز الحكم باستحباب الجرح في بعض الموارد، كالحجامة، والختان، وثقب أذن المولود.
ولم يجز نتف شعر الحاجبين للمرأة، وغير ذلك مما ورد في الروايات.
فإن الحرام والقبيح لا يصير مستحباً.
وتجويز ارتكابه في مورد التزاحم لا يغيره عن صفة القبح والحرمة الواقعية..
كما أنه لو كان ضرراً حراماً، أو كان قبيحاً عقلاً، كالظلم، لم يجز الإقدام عليه، في موارد المعالجة، خصوصاً في الأمور التي هي غير ذات
أهمية، كعمليات التجميل، وإزالة البثور عن الجلد.. ونحو ذلك.
بل إن بعض أنواع هذا الجرح، ومستوياته، ليس فيه اقتضاء القبح، فليس هو من قبيل الكذب الذي إن لم يطرأ عليه عنوان حسن، فإنه يبقى على صفة القبح الذي تقتضيه طبيعته.
بل هو خاضع في حسنه وقبحه للعناوين الطارئة عليه، فقد يحسن، وقد يقبح، وقد يرجح، وقد يكون مرجوحاً.. كما سيتضح.
وستأتي شواهد ذلك إن شاء الله تعالى.
ثانياً:إن جعل اللطم، والجرح من مصاديق الضرر غير ظاهر الوجه، فإن للألم مراتب، ولا شك في أن بعض مراتب الألم ليست ضرراً.
بل إن بعض مراتب وموارد الجرح أيضاً، ليست ضرراً فالتعميم على سبيل ضرب القاعدة، والقول بأن الضرر حرام بقول مطلق، في غير محله..
ثالثاً:ما هو الدليل على حرمة الضرر والإيذاء، فإن كان الدليل على حرمة الضرر، هو حكم العقل بوجوب دفع ما يقطع بأن فيه مضرة على الإنسان.. بل حكمه بوجوب دفع الضرر المظنون، بل والمحتمل أيضاً.. فهو أيضاً لا يمكن القبول به، ولا الالتفات إليه. كما سيتضح في الفصل التالي: