العرب لا يؤلهون بشراً:
وقال ذلك الباحث عن ابن سبأ: «..وإن كان من العرب، فهل سمع من العرب منذ الجاهلية البعيدة في القدم، حتى عصر الإمام [أن] عربياً يؤله بشراً معاصراً له؟! بل إن عادة تأليه البشر المعاصر تنتشر في الأمم العريقة في التمدن، كالروم والفرس، والصين واليابان، أما العربي الذي لم يألف الخضوع والخنوع في شبه الجزيرة العربية، فإنه كان يسجد للصنم، ويؤله الجن والملائكة، لكنه يتمرد على الركوع والسجود أمام بشر مثله.
ثم إن هذا المؤله للبشر، إما أنه يريد من وراء قوله غاية دنيوية، فكيف يثبت على قوله حين يرى زوال نفسه من الدنيا لهذا القول»؟!
وقال: «وإذا كان قوله عقيدة بشخص معبوده البشري، فكيف يبقى متمسكاً بعقيدته بعد قوله لإلهه: أنت ربي، وأنت خلقتني، وأنت ترزقني؟! ومجابهة الإله له بالتكذيب والبراءة من قوله؟!
كيف يصدق عاقل بهذا؟!
ومرده: أن هذا المؤله يقول لإلهه: إنك يا إلهي مخطئ في إنكارك الألوهية لنفسك!! فأنت إله ولست تدري! إنك إله رغم أنفك»!!
إلى أن قال: «بلى، قد يؤله الناس إنساناً لا يرضى بنسبة الألوهية لنفسه، غير أن ذلك يكون بعد عصره كما هو الشأن في عيسى بن مريم، وعلي بن أبي طالب.
أما أن يؤله إنسان، ويعبد في عصره وبمحضر منه مع عدم رضاه، فلم يكن ذلك ولن يكون».
ثم إنه «رحمه الله» تعجب من خفاء تلك الحوادث الخطيرة على المؤرخين؟! أمثال: ابن الخياط، واليعقوبي، والطبري، والمسعودي، وابن الأثير، وابن كثير، وابن خلدون. حيث لم يوردوا شيئاً منها في تواريخهم، مع ذكرهم إحراق أبي بكر الفجاءة السلمي، بكل تفاصيله، بلا خلاف من أحد منهم فيه!!([1]).
ونقول:
إن لنا على ما ذكره ملاحظات عديدة نذكر منها ما يلي:
أولاً: إن ما كان عليه العرب من الشرك وعبادة الأصنام أشر وأضر من تأليههم أحداً من البشر.. فهل يمكن تنزيه الذين يعبدون الحجر عن عبادة بعض البشر، الذين يرون لهم امتيازاً عليهم، في تدبيرهم، أو في علومهم، أو في بعض الألاعيب السحرية التي يخدعونهم بها، ومسليمة الكذاب، وكذلك سجاح قد خدعا الألوف من الناس ببعض الألاعيب، حتى اعتقدوا بنبوتهما، وقاتلوا وقتلوا تحت رايتهما.. بل لعلهم اعتبروا مسيلمة إلهاً، كما ربما يوحي به تسميتهم له بـ «رحمان اليمامة».
ثانياً: إن تأليه من يرفض التأليه حين يكون ذلك في حال حياته قد حصل في العرب أيضاً، فإن المؤلفين في الفرق يذكرون: أن الخطابية كانوا يؤلهون الإمام الصادق «
» ويعبدونه، وسموه رباً([2]).
كما أن في العرب نصارى من بني تغلب وغيرهم، والنصارى يؤلهون عيسى، وهو بشر، فكيف عبدوا البشر؟!
ثالثاً: إن عدم سماعنا بتأليه العرب بشراً حياً لا يدل على عدم حصول ذلك، إذ لم ينقل لنا التاريخ كل ما فعله العرب عبر الأزمان، والأحقاب.
رابعاً: لنفترض: أن ذلك لم يحصل في السابق، فمن الذي قال: إنه سوف لا يحصل في اللاحق؟! ولا سيما بعد أن رأوا تلك المعجزات الباهرة، والدلائل القاهرة، لأمير المؤمنين «
»، فهل مرَّ عليهم مثله؟! أو رأوا له شبيهاً في شيء من صفاته وحالاته، ثم لم يؤلهوه، ولم يعبدوه؟! أم أنهم لم يمر عليهم في تاريخهم إلا الجهلة المدعون لما ليس لهم، أو فيهم.
خامساً: إن عدم إلف العربي للخضوع والخنوع لا يمنعه من تأليه من يرى منه المعجزات، وأعظم الكرامات. فإن التأليه يتصل بقلبه وبضميره ووجدانه، ولا ربط بالخضوع والخنوع، ولا سيما إذا كان يرى أمامه رجلاً مثل علي «
» في عدله، وسماحته، وسائر صفاته، ويجترح أمام عينيه المعجزات، وتظهر له الكرامات.
سادساً: إن اللجاج والعناد، والعنجهية، والإستكبار قد يقود طالب الدنيا إلى أسوأ العواقب.. وقد تحدثنا في كتابنا: علي والخوارج عن أن الخوارج كانوا طلاب دنيا، ولكن لجاجهم قد قادهم إلى مصارع السوء..
وهل يرى هذا الباحث: أن عمرو بن عبد ود العامري، ومرحباً، وسواهما كانا يطلبان الآخرة في حربهم لرسول الله «
»؟! ألم يكن الذي دعا عمرواً إلى منازلة علي «
» هو أن لا تتحدث نساء العرب عنه بذلك؟!
هذا فضلاً عن قادة الألوية في أحد، وسواهم من قادة الضلال على مر الأجيال.
وبماذا يجيب هذا الباحث على السؤال عن إصرار ذلك الذي نزل فيه قوله تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ﴾؟!([3]). على معاندة القرار الإلهي، حتى دعا الله بنزول العذاب عليه، إن كان نَصْبُ رسول الله «
» علياً «
» إماماً هو الحق من عنده تعالى([4]).
والأمثلة على ذلك كثيرة..
سابعاً: بالنسبة لسؤال هذا الباحث عن سبب إصرار هذا الغالي على نسبة الألوهية لمن ينكرها، ويكذبه، ويبرأ من قوله نقول:
إن الشيطان قد يوسوس له: أن هذا المعبود يريد بتكذيبه له أن يختبر صبره، وصدقه في اعتقاده، أو يزين له الشيطان أن عقوبته بالإحراق دليل ألوهيته، فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار.
أو يزين له العناد واللجاج ضروري له لكي لا يقال: إنه خاف من الموت. أو لا يقال: إنه أخطأ، او ليخلد اسمه في التاريخ إلى غير ذلك من أباطيل وترهات، وتزيينات، وخدع شيطانية.
ثامناً: إن هذا الباحث قال: إن تأليه إنسان لإنسان يمكن أن يحصل بعد عصر ذلك الإنسان الذي يغلو الناس فيه. كما هو الشأن في عيسى وعلي «عليهما السلام». أما في حياته فلا..
وهذا تحكم باطل، فإن الناس إذا ألهوا شخصاً فإنما يؤلهونه لميزات يرونها فيه، فإذا رأوها فيه في حال حياته، فذلك أدعى للإنبهار بها، وأوقع في النفوس، إذ ليس الخبر كالعيان.
وأما عدم رضا ذلك الشخص بمقالات الناس فيه، فقد يؤوله الغلاة: بأنه تواضع منه، أو امتحان واختبار منه لهم، أو أن ثمة مصالح أخرى لا يدركونها، ويريد أن يتوصل إليها..
تاسعاً: بالنسبة لعدم ذكر بعض المؤرخين لأمثال هذه الأحداث، نقول:
إن هذا لا يصلح شاهداً على عدم وقوعها، لأن إهمالها قد يكون لأغراض مختلفة قد نعرفها أو نحتملها. وقد لا نعرفها، أو لا تخطر على بال.
يضاف إلى ذلك: أن هناك الكثير من الأحداث الكبيرة والهامة لم يذكرها المؤرخون، أو حاولوا التخفيف من وهجها. ولا سيما ما يكون منها مرتبطاً بأمير المؤمنين «
»، فإن الدواعي كانت متوفرة لطمس كثير من الحقائق التي ترتبط به، إذا توهموا أنها قد تفيد في إظهار مزاياه «
»..
-----------
([1]) راجع: عبد الله بن سبأ (ط سنة 1427هـ) ج2 ص202 ـ 204.
([2]) راجع: الفَرق بين الفِرق للبغدادي ص247 ـ 249.
([3]) الآيات 1 ـ 3 من سورة المعارج.
([4]) شواهد التنزيل للحسكاني ج2 ص381 والأربعون حديثاً لمنتجب الدين بن بابويه ص83 وتفسير فرات ص504 ومجمع البيان ج10 ص119 وتفسير نور الثقلين ج2 ص151 وج5 ص411 والغدير ج1 ص241 وخلاصة عبقات الأنوار ج8 ص368 و 382 وشجرة طوبى ج2 ص223 وبحار الأنوار ج37 ص167 و 173 ومستدرك سفينة البحار ج4 ص409 والتفسير المنسوب للإمام العسكري ص634 والتفسير الصافي ج2 ص299 وعيون المعجزات لحسين بن عبد الوهاب ص13 ومدينة المعاجز ج1 ص407 وغاية المرام ج4 ص192.