منتديات موقع الميزان - عرض مشاركة واحدة - عقيدتنا في الأصول
عرض مشاركة واحدة

منتظرة المهدي
عضو
رقم العضوية : 421
الإنتساب : Sep 2007
الدولة : طيبة الطيبة
المشاركات : 5,448
بمعدل : 0.85 يوميا
النقاط : 0
المستوى : منتظرة المهدي is on a distinguished road

منتظرة المهدي غير متواجد حالياً عرض البوم صور منتظرة المهدي



  مشاركة رقم : 8  
كاتب الموضوع : خادمة العباس (ع) المنتدى : ميزان الثقلين القرآن الكريم والعترة الطاهرة عليهم السلام
Post
قديم بتاريخ : 12-Dec-2007 الساعة : 12:59 AM

اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم


يا دائم الفضل على البرية
يا باسط اليدين بالعطية
يا صاحب المواهب السنية
صلى على محمد وآل محمد
خير الورى سجية
وغفر لنا ياذا العلى في هذه العشية ....





سادساً: كيف ومن أوجد الكون؟

هنالك عدة توجهات للإجابة على هذه المسألة أهمها:

1 - مناقشة أزلية المادة.

أ - الأزلي بسيط والحادث مركب.

ب - الأزلي سرمدي والحادث ينتهي.

ج - الأزلي لا يحتاج إلى علة والحادث يحتاج إلى علة.

2 - نظرية الصدفة في خلق العالم.

3 - قراءة في الاحتمالات لعلة الوجود.

4 - الله هو الخالق للكون وحديث الأدلة على ذلك.

5 - وقفة مع الشبهات والردّ عليها.

سندرس هذه التوجهات لنصل إلى الأمر الذي تقنع به عقولنا بروحٍ موضوعية تماماً وهنا وقبل البدء أسجل ملاحظة هامة لهذه الدراسة وهي أن هذه الدراسة الموضوعية تحتاج إلى نوع من التجرد عن العواطف والمعتقدات - على الأقل وقتياً - كي نستوعب الآراء وأدلتها بموضوعية ونردّ عليها بموضوعية كذلك والمفروض أن نزرع في أنفسنا الثقة التامة لخوض هذا المضمار العسير الذي يحدّد مصيرنا ومصير أمتنا الإسلامية كذلك.

فلنبدأ بالتوجه الأول:

1 - أزلية المادة:

ما معنى الأزلي؟ وماذا يقابله من المعاني؟ وما معنى الأبدي؟ وما يقابله أيضاً؟ لنتعرف على ذلك في البداية.

الأزلي هو الذي لا بداية له ويقابله الحادث الذي لوجوده بداية مرتبطة بالزمن والأبدي هو الذي لا نهاية له أي أنه يبقى خالداً دون فناء ويقابله الحادث الذي يفنى ويزول وينتهي في وقت معين. أما أهم صفات الأزلي الأبدي الذي يقابله الحادث فهي ما يلي:

أ - الأزلي بسيط والحادث مركب

أي إن الأزلي لا يحتاج إلى شيءٍ كي يختلط معه أو يشترك معه ليبرزه بشكل معين بينما الحادث ذاته بحاجة إلى عنصر أو عناصر أخرى كي يبرز بوجهه المألوف إلى الوجود فقد يكون هذا الحادث مركباً من جزءين أو أجزاء عديدة فالإنسان مثلاً مركب من دم ولحم وعظم وشعر وجلد بعد أن كان نطفة صغيرة فتركبت مع بويضة الأنثى في الرحم ثم تطورت الأعضاء بمرور الزمن إلى هذا الكائن الحي فهو مركب من أجزاء عديدة وكل جزء ينمو ويظهر لتفاعلات معينة مرتبطة بالزمن كالأسنان اللبنية في الطفولة مثلاً تظهر في ظروف معينة مرتبطة بزمنٍ ما يقول الإمام علي (): (أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام، وشُغُف الأستار، نطفة دهاقاً، وعلقةً محاقاً، وجنيناً، وراضعاً، ووليداً ويافعاً. ثم منحه قلباً حافظاً ولساناً لافظاً وبصراً لاحظاً..) رقم الخطبة 81/3.

فمن كل ذلك نستخلص بأن المركب له أجزاء وهذه الأجزاء قد تنشأ منذ بداية وجوده وقد تلتحق وتتفرع عنه فيما بعد أيْ تظهر فيه كأجزاء ضمن نموه والأجزاء هذه هي حادثة مركبة أيضاً ويمكن فصل عناصر المركّب بعضها عن بعض كالمواد الكيمياوية المركبة ضمن تركيبة معينة من مواد متعددة تظهر بشكلٍ معين ولو غيّرنا التركيبة بتغيير مقادير العناصر المشتركة لتغيّر الناتج، فذرتان من الهيدروجين مع ذرة أوكسجين تنتج لنا مركب الماء وبالعكس يمكن فصل الهيدروجين عن الأوكسجين بإمرار المركب بالتيار الكهربائي فتعود التركيبة إلى طبيعتها في الهواء. ومن هنا نقول إن الأزلي يستحيل أن يكون مركباً لأن المركب حادث. وكذلك نقول إن الأزلي لا يتغير مهما تغيرت الظروف والأحوال على العكس من المركب فالحادث مركب يتغيّر بتغيّر الظروف والأحوال فيزداد وينقص وتنفصل منه بعض العناصر أو تزداد فيه على ضوء ما تستجده الظروف بينما الأزلي يبقى كما هو لا يتغير ولا يتبدل مهما تقدم الزمن وتبدل الظرف.

يقول الإمام علي () في خطبته رقم 184: (وإن الله سبحانه، يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه، كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان عُدمت عند ذلك الآجال والأوقات، وزالت السنون والساعات. فلا شيء إلا الله الواحد القهار. الذي إليه مصير جميع الأمور. بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، وبغير امتناع منها كان فناؤها. ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها..).

ب - الأزلي سرمدي والحادث ينتهي

الأزلي سرمدي في وجوده أي أبدي خالد لا ينعدم والحادث يفنى وينتهي فالشجرة مثلاً كانت بذرة أو فسيلة فتغيرت وتبدلت إلى أن صارت شجرة مثمرة ثم تبدأ بعد فترة من الزمن بالعد العكسي حتى تنتهي وتموت وتحرق أخشابها أو تستخدم لاغراضٍ أخرى.. فإذن الحادث عكس الأزلي حيث أن الحادث ينتهي ويفنى ويعدم من الوجود بينما الأزلي يبقى كما هو لا ينعدم.

فقد قال الله في محكم كتابه الكريم: (كل من عليها فان. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). [سورة الرحمن: الآية 26 - 27].

ج - الأزلي لا يحتاج إلى علة والحادث يحتاج إلى علة

الأزلي لا يحتاج إلى غيره مهما كانت الظروف والأحوال عكس الحادث فإنه يحتاج في وجوده إلى علة وسبب وفي استمراريته كذلك يحتاج إلى علة فالإنسان يحتاج إلى خالق وموجد وأسباب موضوعية ويحتاج إلى أسباب المعيشة كي يستمر في وجوده من أكل وشرب وعناية فإذا مرض فهو بحاجة إلى طبيب يعالجه وفي أيام البرد يحتاج إلى التدفئة والملابس المناسبة وفي حالة التعب يحتاج إلى الراحة والنوم وفي الجوع يحتاج إلى طعام بينما الأزلي لا يحتاج إلى سبب في الإيجاد ولا في استمرار وجوده فهو غني عن العالمين لا يحتاج الراحة والنوم وأسباب العيش كما قال عز وجل في محكم كتابه:

(الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سِنَة ولا نوم...). [سورة البقرة: الآية 255].

فهو غني عن عباده وعن كل شيء آخر بينما الحادث فقير في وجوده واستمراره إلى غيره كالإنسان فهو محتاج إلى خالق يوجده وإلى عوامل استمرار وجوده من الماء والهواء والطعام وأسباب النمو والعيش فقد قال القرآن العظيم:

(لله ما في السموات والأرض إن الله هو الغني الحميد). [سورة لقمان: الآية 26].

والآن لنأتي إلى أصحاب نظرية: (أزلية المادة) ونسألهم أولاً ماذا تقصدون بالمادة؟ هل تقصدون بها التراب والجبال والأشجار والماء والبحار والسماء والأرض أي أن مقصودكم من المادة هذه الطبيعة المحيطة بنا، فإن كان كذلك فسوف نصطدم حينما نمرر هذا المعنى على الصفات - آنفة الذكر - ففي الحقيقة إن هذه الموجودات تتصف بصفات الحادث لا بصفات الأزلي على الإطلاق.

فحينما نعرّف المادة بأنها (كل شيء يشغل حيّزاً في الفراغ وله وزن) من هذا التعريف نفهم أن المادة تتصف بصفات الحادث ولا يمكن أن تتصف بصفات الأزلي بأي شكل من الأشكال فالتعريف يشير إلى أن المادة بحاجة إلى مكان فهي ليست غنيّة عنه ولها وزن فلو أخذنا أية مادة - في الوجود - أو أي قدر مشترك بين المواد كلها كالذرات مثلاً فالذرة ذاتها مركبة من الإلكترونات والنيوترونات وتصنف المواد عبر عدد ذراتها وعناصر الذرات أيضاً إلى تصانيف متعددة وتقرّ لنا الفيزياء بأن هذه العناصر قد تتغير طبيعياً ويمكن تغييرها بالعوامل الخارجية فمثلاً أشعة (كاما) تتحول إلى عنصر آخر حينما تفقد بعض بروتوناتها إثر الإشعاع وعنصر اليورانيوم يتحول إلى الراديوم وإلى الرصاص على التوالي بواسطة الإشعاع وحتى أن الأشعة (أشعة كاما) يمكن أن تتحول إلى ذرات مادية بعناصرها - إلكترونات وبروتونات - وإذا اصطدم العنصران فيها تتحول إلى طاقة.

وكما مضى في مركب الماء H2O يتحلل الماء إلى عنصريه الأوكسجين والهيدروجين بتمرير التيار الكهربائي وهكذا نرى أن الطاقة تتحول إلى ذرات مادية والذرات المادية تتحول إلى طاقات فالقنبلة النووية أو الذرية القائمة على قاعدة الانشطار الذري والتفاعل المتوالي والقنبلة الهيدروجينية التي تنفلق بدمج القنبلة الذرية بنوى ذرة الهيدروجين من هذا الدمج تتولد طاقة هائلة وحتى الطاقة هذه تتحول من حالةٍ إلى أخرى فالطاقة الكهربائية تتحول إلى طاقة ميكانيكية كما في تشغيل المكائن الميكانيكية بواسطة طاقة الكهرباء والطاقة الكهربائية يمكن تحويلها إلى طاقة كيمياوية - كما مر - في تحليل الماء إلى عنصريه بواسطة التيار الكهربائي وهكذا.. فأصحاب هذه النظرية ذهبوا إلى أن العالم ينتهي إلى ذرات متناهية في الصغر هذه الذرات تستمد قوتها وحركتها من الأثير أو من الخلاء الموجود في الكون حيث القاسم المشترك لكل الذرات.

هذه الذرات هي أصل الكون وتمتاز بالصلابة القصوى التي لا تتجزأ وهي كذلك تتحرك وتسبح في الأثير بحركة ميكانيكية منتظمة وبسبب هذه الحركة ظهرت في الكون أشكال متعددة للمادة. فإذن تكون المادة أزلية وهي أصل الوجود.

والرّد الواضح على أصحاب هذه النظرية حيث أنهم قالوا بأنها ذرات صلبة لا يمكن أن تتجزأ أرادوا بذلك تصعيد الذرات إلى الصفات الأزلية وأنها لا تقبل التركيب ولكن لا يخفى على أحد وخاصة في تطور العلم الحديث - كما مر معنا - يقسم الذرات إلى عناصر وجزئيات متعددة ويحوّل الذرة المادية إلى طاقة والطاقة إلى ذرة ثم حينما فرضوا وجود الخلاء أو الأثير وبنوا عليه آراءهم وطموحاتهم الفلسفية في الوجود ما سألوا أنفسهم من أوجد الأثير وهل أن هذه الذرات المادية الأزلية كما يزعمون هي في غنىً عن هذا الأثير؟ ثم إن هذه الذرات تتغير في الواقع المادي من شكلٍ لآخر وتفنى كذلك والذي يتغير ويفنى هو حادث متغير محتاج وليس أزلياً.

وأما نظرية المادية الديالكتيكية (الجدلية) فتتلخص بأن (كارل ماركس) الذي يعتبر تلميذ (هيجل) الفيلسوف الألماني (1770 - 1831) قد أخذ نظريته الجدلية من أستاذه (هيجل) لكنه أبدلها من الحالة التصويرية المثالية الناكرة للمذهب المادي إلى الحالة المادية وهنا أتذكر أحد الأساتذة نقل لنا كلمة من (ماركس) وهي: لقد وجدت (هيجل) منكوساً على رأسه فأحببت أن أعدله - أي يعدل أستاذه من التوجّه المثالي إلى التوجه المادي فكان يرى (هيجل) أن الوجود سراب لا حقيقة له في الخارج والحقيقة موجودة في عالم الفكر بشكل متناقض (وجود وعدم وجود) إثبات ونفي فكل فكرة تثبت في الذهن تحمل نقيضها في داخلها فلا شيء موجود في الخارج. أما (ماركس) فقد سحب هذا التفسير إلى المادة فذهب إلى أن الحركة ليست سوى انعكاس حركة الواقع وقد انتقلت إلى الإنسان.

ويذهب (ماركس) إلى أزلية المادة وأنها أبدية خالدة لا تفنى ويؤكد الماديون بأن المادة تحمل في داخلها حركة ذاتية مضادة لما هو الواقع ومتناقضة معه وهذا يفسر لنا تغير المادة من شكلٍ إلى آخر وهم لا يقصدون بالتناقض هو الوجود والعدم وإنما هو الصراع الذي يؤدي إلى انتقال الشيء بسبب ذاتي من القوة إلى الفعل كما يقول المناطقة كما الرجل الشاب هو بالقوة نعتبره أباً ولكنه بالفعل ليس بأب إلا أن يتزوج ويخلف أبناءً فيكون أباً بالفعل فهذه النقلة من حالة إلى أخرى تسميه الفلسفة الماركسية بالتناقض!

فمما تقدم تؤمن الفلسفة المادية بأزلية وأبدية المادة لأنها لا تفنى وإنما وجودها نبعي ذاتي لا وتحتاج إلى علة موجودة فهي أزلية أبدية - كما يتصورون - وهي لا تفنى ولا تستحدث من العدم - كما يقولون -.

والأمر المطروح على الماديين هو ان المادة المتطورة من حالة لأخرى بفعل التناقض الداخلي هل أنها بحاجة إلى من يعطيها هذه القوة لأجل التحول والتغيير أم لا؟ ثم إن المادة التي تتغير كما يقولون من حالة لأخرى قد فقدت شرطاً رئيسياً من شروط الأزلي وهو الثبات وعدم التغير ثم إنها حينما تحمل في داخلها النقيض يعني أنها مركبة في وجودها من ذاتها ومن نقيضها والمركب ليس أزلياً وتجيب المادية الجدلية بأن المادة لا تفنى وإنما تتحول إلى طاقة وإشعاع ومن الإشعاع تتحول إلى حالة مادية فتختفي حالة لتظهر حالة أخرى وهكذا فالأمر يعود إلى الطاقة التي تتحول من شكل لآخر دون فناء فبما أنها لا تفنى فلا تحتاج إلى علة الإيجاد فعليه تكون المادة أزلية خالدة.

ونحن على ضوء الكشوفات الحديثة نرد على هذه النظرية حيث ثبت علمياً ان الطاقة كما الذرة تفنى.. يقول عالم الطبيعة البيولوجية (فرانك ألن) كما جاء في كتابه (الله يتجلى في عصر العلم). قوانين الديناميكية الحرارية تدل على أن مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجياً وإنها سائرة حتماً إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض هي الصفر المطلق ويومئذٍ تنعدم الطاقة وتستحيل الحياة ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام (فناء) عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق بمضي الوقت).

أما (كبسيل) عالم الحشرات في نفس الكتاب يقول: (فإننا نستطيع أن نستنتج أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزلياً... وإن لهذا الكون بداية).

ويقول العالم الكيمياوي (كوثران) (تدلنا الكيمياء على أن بعض المواد في سبيل الزوال والفناء ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة والآخر بسرعة ضئيلة وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية)(1).

على ما تقدم نلمس أن فكرة أزلية المادة التي نادى بها (ماركس) عبر التناقض الذاتي الموجود داخل الذرات غير صحيحة علمياً وبذلك ينتهي مفعول النظرية لأنها ما استطاعت أن تثبت أزلية المادة بشتى طرقها.




2 - نظرية الصدفة في خلق العالم:

هنالك نظرية تقول بأن الموجودات والكائنات في العالم خلقت صدفة من دون خالق والذي نفهمه من الصدفة - هنا - أحد المعنين فالمعنى الأول هو المعنى الشائع اجتماعياً كما لو تلتقي عزيزاً فارقته منذ فترة طويلة من دون سابق تخطيط ففي أثناء مرورك بالسوق تلتقي به - مثلاً - فتقول: صدفة التقيت به من دون سابق إنذار أو خطور في الذهن بل كان اللقاء عفوياً ومثال آخر أنك تبحث عن حاجة مفقودة وعزيزة عليك وأنت ماض في أعمالك فجأةً تشاهدها أمامك تقول صادفتها صدفةً فهذا المعنى وبهذا التوجه لا يمكن أن ننكر العوامل المسببة لهذا اللقاء المفاجئ مع الشخص الصديق أو الحاجة المفقودة فهنالك أسباب طبيعية متعددة رتبت هذا اللقاء منها الخروج في هذا الوقت ولهذا المكان وخروج صديقي متزامناً معي ولكل دوافعه الذاتية والشيء الذي يمكن تسجيله هو أن هذا اللقاء تم، ولكن دون قصد أونيّة أو تخطيط في الذهن، وبهذا المعنى لا مناقشة لنا فيه لأنه خارج عن بحثنا بل سنناقش المعنى الثاني الذي يدخل في صميم بحثنا.

والمعنى الثاني هو ما يذهب إليه البعض من الفلاسفة والمفكرين ويقصدون بالصدفة أن الأشياء والوجودات في العالم وجدت دون سبب أو علة للإيجاد وإنما من طبيعتها الوجدان والظهور أو الفقدان والضمور فليست مرتبطة بأي جهاز تخطيطي أو عقل مدبر ومخطط وبالطبع يقدّم هؤلاء الصدفيون أدلتهم على دعواهم تلك، وتتلخص أدلتهم بأنهم ما شاهدوا بداية التكوين والخلق فلذلك لم يحصل لهم الجزء بوجود علل للخلق والوجود وأنهم حالياً يشاهدون الموجودات باختلاف أنواعها مخلوقة ولها قوانينها المعينة.

(كلّ في فلك يسبحون). [سورة الأنبياء: الآية 33].

وهذه القوانين الخاصة بكل عنصر في هذا الكون الرحب إنها مستمرة في نظامها بشكلٍ طبيعي ومنضبط ولا تتوقف عن عملها إلا بعوامل خارجية كالجاذبية والضغط الجوي كما يذهب إلى ذلك نيوتن فالتفاحة تسقط من الشجرة إلى الأرض بعوامل الجاذبية الأرضية فينتهي عملها ضمن قانون الشجرة لقانون خارجي آخر وهذه الاستمرارية التي نراها في نظم الكون دون علة ودون سبب بل من طبيعتها ذلك فهي وجدت دون علة وسبب وبقيت دون ذلك أيضاً فإذن وجدت صدفة واستمرت كذلك صدفة وينسحب هذا التصور إلى كل الوجود والخلق فإن هذا العالم وجد صدفة من كبير أجزائه إلى صغيرها كما أجاب أحدهم حينما سئل عن القميص الذي يرتديه بقوله أن هنالك حقول القطن وجدت صدفة في أرضٍ معينة وبمرور الزمن نضجت المحاصيل القطنية وأينعت فما المانع أن تجئ الرياح الشديدة على هذه المحاصيل وتقطف القطن من الحقول وبالفعل أخذت القطن صدفة ثم ساقته إلى آفاق السماء وهنالك في الآفاق العليا وبعد مرور ملايين السنين وعلى أثر تقلبات الجو في طبقات السماء العليا وفي وسط الأمطار والرياح العاتية تمتّ تصفية القطن من كل شائبة وبمرور الزمن تلونت هذه القطع القطنية المنتظمة بألوان عديدة ثم فصّلت بأشكال وأحجام مختلفة وبتنسيق دقيق وبألوان زاهية وبمرور الزمن أخذت الرياح تعيد الأمانة إلى أهل الأرض - صدفةً - وما المانع في أن يوماً من الأيام يكون الإنسان على سطح داره رافعاً يديه إلى السماء وصدفة يأتي القميص الذي فصّل ورتّب مناسباً للجسم ضمن مقاييسه المعينة وصدفةً يدخل في يديّ - أنا مثلاً - وتدفعه الرياح ليستقر في جسمي كما ترى ثم نلاحظ وإذا به قميص قطني جميل ملوّن بالشكل المناسب.

يقول (هلسكي): لو جلست ستة من القرود على آلات كاتبة وظلت تضرب على حروفها ملايين السنين فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير فكذلك كان الكون الموجود الآن نتيجة لعمليات ظلت تدور المادة لبلايين السنين)(2).

أما الرد على أصحاب هذه النظريات فيأتي في عدة نقاط أهمها:
1 - إن قانون الاستمرارية الذي يستدلون به على أنه بلا سبب فيسحبونه إلى نكران السبب الأول للإيجاد، كيف يمكن أن نصدق ذلك وننكر علة الاستمرار في النظام؟ بل العكس فإن سبب الاستمرار يمكن أن نسحبه إلى وجوب إيجاد علة أولية لهذا النظام المستمر ثم إن قانون الاستمرارية لا ينكر وجود العلة في الإيجاد، وفي الاستمرار أو في التوقف عن الاستمرارية فلا أحد ينكر علة وجود النظام في الكون والمسألة فطرية سواء كانت المادة ساكنة أو متحركة فإنها ساكنة لسبب وتتحرك لسبب وتقف عن الحركة لسبب آخر فمن غير المنطق أن نضع قانون الاستمرارية سبباً لنكران علة الوجود فلا ربط بينهما بهذه الصورة.

2 - ثم في مثال (هلسكي) نفسه حيث جلوس القردة وطبعها بالآلة على الأوراق آلاف أو ملايين السنين كي تنتج قصيدة لشكسبير وفي الحقيقة أن هذا المثل يناقض فكرة اللاسبب فهو من جانبنا نحن المنكرين للصدفة في خلق العالم وليس من جانب الصدفيين حيث إن القصيدة هذه جاءت عبر تفاعلات عدة أسباب وعلل لإنتاجها فالقرود والضرب على الآلة الكاتبة والآلة نفسها والحبر والورق والزمن كلها أسباب تتفاعل لإنتاج هذه القصيدة - إن وقع ذلك - فلا نستطيع أن نقول إن القصيدة طبعت من وحدها صدفة دون سبب.

3 - ثم إننا حينما نقف أمام الأنظمة الكونية الدقيقة التي يحدثنا العلم الحديث عن عظمتها وإبداعها لحريٌّ بنا أن نقف منها موقف المتأمل الواعي فلو نظرت إلى نفسك بإمعان وبدقة لأعدت النظر في هذه النظرية من جديد واعتبرتها من المسليات الذهنية للإنسان الجليس كحكايات ألف ليلة وليلة، ويكفي أن نعرف أن في كل عين للإنسان توجد أربعة عشر مليون خلية عصبية لو تغير موقع عصب من هذه الأعصاب - لا سمح الله - أصيبت العين بمرضٍ معين يشخصه المتخصصون.

هل تقول إن هذه العين وجدت صدفة وتعمل وتستمر في نشاطها صدفة دون أية أسباب وعلل، فهل يعقل؟ أن أضرب رجلاً على وجهه بقوة وأدعي في المحكمة أن يدي صدفة ارتفعت وصفعت وجه هذا الرجل بقوة من دون أي سبب بل الصدفة والصدفة وحدها لعبت دورها وهي علة الضرب!!

ماذا ننتظر من هذا الإدّعاء إلاَّ أن يأمروا بي للسجن أو إلى مستشفى المجانين ويقولون لي - بعد ذلك - إننا جئنا بك إلى هذا المكان صدفة دون سبب وستستمر فيه دون سبب أو علة هل يصدّق عاقل ذلك؟

وفي كتاب (العلم يدعو للإيمان) مثال جيد يقول فيه (كريس موريسون) المؤلف والعالم الأمريكي (لو تناولت عشر قطع وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة ثم رميتها في جيبك وخلطتها خلطاً جيداً ثم حاولت أن تخرج منها من الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي بحيث تلقي كل قطعة في جيبك بعد تناولها مرةً أخرى فإمكان تناول القطعة رقم 1 في المحاولة الأولى 1/10.

وإمكان تناول القطعة رقم1، متتابعين هو1/ 100.

وفرصة سحب البنسات التي عليها أرقام 1، 2، 3 متتالية هي نسبة 1/1000.

وفرصة سحب 1، 2، 3، 4 متتالية هي 1/ 10.000.

وهكذا حتى تصبح فرصة سحب البنسات بترتيبها الأول 1 - 10 بنسبة واحد إلى عشرة بلايين محاولة).

وعلى هذا نجزم بأنه من المستحيل أن يكون وجود العالم وما فيه من الصدفة كما لا يقبل بهذا التفسير أبسط إنسان على وجه الأرض حينما تعتدي عليه أو تسرق منه شيئاً بحجة الصدفة العمياء فلا يقبل عاقل بذلك ولا أية محكمة في العالم ترضى أن تكون الصدفة دليل البيّنة للمدّعي فمثلاً: يسرق إنسان ما بعض المجوهرات والذهب ويدّعي أنها صدفة دخلت جيبه دون سببٍ آخر، فبالتأكيد إنه أمر مردود من الأساس لأن قانون العلية مسألة بديهية فطرية لا يستطيع أحد نكرانه وفي حالة النكران ستهدم كل أسس العلم والبداهة.

فكيف لو نظر الإنسان إلى هذا الكون الرحب بدقته وعظمته وقوانينه المعقدة الداخلية وعلاقته بالعالم الخارجي ضمن ضوابط دقيقة فهل ينظر إلى نظرية الصدفة نظرة اعتبار. والكون كله يدل على الخالق المبدع. فلذا سنتحدث عن بعض الأدلة العلمية في الأحاديث القادمة بعونه تعالى.




3 - قراءة في الاحتمالات لعلة الوجود:

بعد أن توصلنا فيما سبق إلى أن نظرية أزلية المادة ونظرية الصدفة في خلق الوجود لا تقومان على أسس علمية وعقلية وتمّ تفنيدهما والآن نريد أن نتوصل إلى معرفة (علة الوجود) وما هي الاحتمالات في هذه العلة فلو أخذنا أنفسنا مثلاً وتساءلنا من الذي أوجدنا؟ وما هي الاحتمالات في علة خلقنا وسبب وجود أنفسنا؟

وقبل الإجابة على هذا السؤال يمكن أن نقرر أن أنفسنا ما كانت مخلوقة سابقاً ثم وجدت أي أننا قبل الولادة للدنيا ما كنا موجودين في هذا العالم حالياً نحن موجودون وكلٌ منّا يعرف عمره أي بداية وجوده وحتى اللحظة الراهنة. فنحن ما كنا في الوجود وحالياً موجودين وفي يومٍ ما ستنتهي حياتنا: (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) كما يقول القرآن الكريم في سورة الرحمن: الآيتان 26، 27.

وفي حديث للإمام الرضا () حينما سئل عن الدليل على وجود الله فأجاب: (أنت لم تكن ثم كنت وقد علمت أنك لم تكوّن نفسك ولا كوّنك من هو مثلك..). وهكذا يحصر الإمام احتمالات المبدع والخالق ومن ثمّ يحاور السائل ويطلب منه أن يحاور نفسه أيضاً لكي لا يقع تحت تأثير معين بل يضفي أجواء الحرّية ليتوصل السائل إلى الحقيقة بملء إرادته.

وبعد تلك الملاحظة وهذه الرواية وأمثالها الكثير، نعيد التساؤل الأول من الذي أوجدنا؟ وقد اتفقنا على أننا ما كنّا في الوجود فوُجدنا فما هي احتمالات الموجد لنا؟ والاحتمالات ثلاثة لا رابع لها وينطبق نفس الأمر على العالم بأسره وعلى الطبيعة المحيطة كلها ودعنا الآن ندرس الاحتمالات الثلاثة:

الاحتمال الأول: نحن أوجدنا أنفسنا ونحن دبرنا جسمنا وروحنا وكيّفنا ظروفنا في الولادة والدوام ضمن هذا النظام الحياتي.

الاحتمال الثاني: إن الذي أوجدنا هو مثلنا فأفاض علينا بالوجود.

الاحتمال الثالث: إن الذي أوجدنا ليس مثلنا.


أما الاحتمال الأول

فهذا لا يمكن أن نصدّقه لأننا أثبتنا سلفاً عدم وجودنا قبل أن نوجَد فكيف أوجدنا أنفسنا من العدم؟ أي حينما آمنا ببداية زمنية لوجودنا فقبلها ما كنا موجودين فوجُدنا بمعنى اننا في مرحلة زمنية كنا عدماً ثم صار لنا وجوداً فالذي يكون عدماً ثم وجوداً ثم عدماً لا يمكن أن يكون - هو - قد أوجد نفسه أو أفناها، هذا أولاً وثانياً لو - جدلاً - نحن أوجدنا أنفسنا لأوجدناها كاملة دون نقص غير ضعيفة ولا محتاجة إلى الموجودات والأشياء الأخرى في الحياة ومن ثم لاستطعنا أن نُبقي أنفسنا دون أن نموت لأن الإبقاء أسهل من الإيجاد والإبداع والخلق علماً بأن الموت والفناء أمر محزن للإنسان وبالفعل - وقهر عباده بالموت والفناء - والإنسان يحب البقاء في الحياة ولكنه من المستحيل التحكم في فترة البقاء ودرء الأجل أو أبعاده وتأجيله.

(يدرككم الموت ولو كنتم في بروجٍ مشيدة) [سورة النساء: الآية 78].

وهكذا نرى في الوجدان إننا لا نستطيع إعادة الحياة إلى أعزّ الخلق إلينا مهما أوتينا من قوة علمية وحتى أنفسنا لا نستطيع أن ندافع عنها حين الضرر الصحي فضلاً عن الموت فنرى البعض مُبتلى بالأمراض الجسمية أو النفسية وأما الموت فحتميته أمر لابد منه وقد قال سبحانه وتعالى:

(كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة..). [سورة آل عمران: الآية 185].

فإذا لم نستطع دفع الضرر والإبقاء على النفس من الفناء فقطعاً نحن لا نستطيع أن نوجد أنفسنا فالمسألة - فعلاً - خارجة عن إرادتنا وكيف لا نصدّق ذلك والحال نحن لا ندري ماذا في أجوافنا واحشائنا وداخلنا وحتى المتخصصين في تشريح جسم الإنسان يقفون موقف المتحير لعظيم الصنع والإبداع في الكيان الإنساني العجيب.

قال سبحانه: (أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون). [سورة الطور: الآية 35].

وبالفعل إن هذه الأمور التي لا يمكننا أن نتحكم فيها كما لا يمكن لأي أحد أن يختار جنسه ولون شعره ولون بشرته وطوله وحتى مسقط رأسه ومكان موته كذلك، قال عز وجل:

(إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرضٍ تموت..). [سورة لقمان: الآية 34].

فكيف يمكننا أن نوجد أنفسنا من العدم:

وهكذا ينتهي الاحتمال الثاني أيضاً بأن الذي أوجدنا هو مثلنا! بمعنى آخر لو كان الذي أوجدنا مثلنا ويتصف بأوصافنا لاستطعنا نحن كذلك أن نوجِدَ خلقاً مثلنا وهذا الأمر لا يدعيه عاقل فضلاً عن الجزم والاعتقاد به وإذا كنا غير قادرين وكلّ منا غير قادر أن يوجد مثله فيأتينا الكلام السابق وهو عدم استطاعتنا على أن نبقيهم كما هم عليه الآن والحال أن الكثير من أصدقائنا واعزائنا يموتون ونحن نتقطع أسىً وغصة عليهم دون أن نقدر على إبقائهم وإعادة الأرواح إلى أبدانهم ومؤكد أن هذا العمل أقل بكثير من الإيجاد التام للإنسان فلذا ينفجر الإنسان بكاءً على فقدان أحبائه وهذا عمل المقهورين وعمل العاجزين تنفيساً عن الألم - وقهر عباده بالموت والفناء -.

فإذن نحن لا نستطيع أن نوجد أمثالنا ولا أمثالنا يستطيعون أن يوجدونا هذا من الناحية العملية أما إذا رجعنا إلى حديثنا الماضي في أن أصل الوجود لابد أن يتصف بصفات الأزلي لا الحادث المصنوع والمحدود فنقول إن أنفسنا أو أمثالنا لا يمتلكون صفات الأزلي بل يتميزون بصفات الحادث حيث التغيير والحاجة إلى الغير والتركيب وكلها من صفات الحادث.

فإذن نحن لسنا قادرين على أن نوجد أنفسنا ولا أن نوجد أمثالنا قطعاً ويقيناً. وهكذا لابد أن يكون لهذا الكون الرحب العجيب بنظامه ودقته ولهذا الإنسان العجيب بأجهزته الدقيقة لابد أن يكون من أوجده ليس مثله وإنما يتمتع بصفات الأزلي الأبدي كاملة وسبحانه الذي يقول في محكم كتابه:

(فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). [سورة الشورى: الآية 11].

فالوجود كما نراه (الكون والإنسان) لابد أن يوجده الذي يستوعبه بالكامل أي بمستوى رفيع من الصفات الخاصة التي تنتج هذا الإبداع لا أن يكون الموجِد (بالكسر) بمستوى هذا الوجود إبداعاً أو أقل منه مستوىً! فالكمال المطلق صفة الموجِد الأكبر الذي يحتوي ويستوعب كل الوجود ويسيِّر قوانينه ويتحكم في خلقته ومصير العالم وحقاً إن الطريق لمعرفة الخالق للكون يبدأ من معرفة النفس فالذي يريد أن يعرف خالقه يجب أن يعرف نفسه والأسرار المودعة فيه ليرى عظمة الموجد لها والمدبر لقوانينها (فمن عرف نفسه فقد عرف ربه) كما ورد في الأثر، وبعد أن نتعرف على عظمة الموجد والمبدع لهذه النفس الإنسانية ولهذا التكوين الإنساني ولهذا الوجود الكوني ندرك تماماً إن الموجودات ناقصة رغم عظمتها ومحدودة رغم آفاقها قياساً بالخالق المبدع فهو ليس مثلنا وبالتالي نستنتج أن ما هو موجود في أنفسنا وفي الوجود العام ليس موجوداً في خالقنا العظيم لأنه (ليس كمثله شيء) كما مرّ معنا.

فأنا محدود والخالق ليس محدوداً، فأنا عاجز والخالق قادر وأنا محتاج والخالق غني عن كل شيء وأنا أنتهي وأفنى بنهاية زمنية والخالق لا ينتهي بزمن وأنا كانت لي بداية والخالق ليست له بداية فهو أزلي أبدي سرمدي خالد.

فهو واحد أحد (ليس مقابل الاثنين والثلاثة والأربعة) بل هو واحد أحد لا نظير له ولا ضدّ له ولا ندّ له ولا شبيه له ولا مثيل.

سئل الإمام الرضا () ما الدليل على وجود الله؟ فأجاب: (أنت لم تكن ثم كنت وقد علمت أنك لم تكوّن نفسك ولا كونك من هو مثلك.. ثم قال: إني لما نظرت إلى جسدي ولم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجر المنفعة إليه علمت أن لهذا البنيان بانياً فأقررتُ به..)(3).

فإذن لا أنا أوجدت نفسي يقيناً وبتجرد ولا أوجدني الذي هو مثلي يقيناً وبتجرد أيضاً ويبقى الاحتمال الثالث الذي لا خيار غيره وهو أن الذي أوجدنا ليس مثلنا - والآن قد تكون اللغة قاصرة عن التعبير الدقيق لهذا المعنى وحتى العقل الإنساني كذلك قاصر عن أن يصل لمعرفة كنه الخالق الكريم - وبين اللغة والعقل في قصورهما يمكن أن نخرج بنتيجة علمية واضحة وهي أن الذي أوجدنا ليس مثلنا أما كيف يكون؟ وما هي ماهيّته وكنهه؟ هذا ما أجاب عليه الإمام علي أمير المؤمنين () حيث قال: (اللهم... حمداً لا ينقطع عدده ولا يفنى مدده فلسنا نعلم كنه عظمتك إلاَّ أنا نعلم أنّك حي قيوم لا تأخذك سِنة ولا نوم... لم ينتهِ إليه نظر ولم يدرك بصر أدركت الأبصار وأحصيت الأعمال...).

هذا هو الدليل من داخل أنفسنا ولنا حديث عن الأدلة الخارجية عن النفس ونكتفي بالإشارة هنا إلى تكملة حديث الإمام الرضا () علّنا نفصّل في الأدلة الخارجية في الصفحات القادمة إن شاء الله قال (): (... فأقررتُ به مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المبينات... علمت أن لهذا مقدِّراً منشئاً..).

ويجيب الإمام علي () ببساطة عن إثبات الصانع فقال: (البعرة تدل على البعير والروثة تدل على الحمير وآثار القدم تدل على المسير فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة لا يدلان على اللطيف الخبير؟) هذا ونحوه محكي عن الأعرابي..(4).



4 - الله هو الخالق وحديث الأدلة:

بعد أن عرفنا شيئاً من نظرية أزلية المادة والصدفة وحديث الاحتمالات توصلنا إلى أن الإنسان المؤمن لابد أن يمتلك القناعة بمبدإه كي يتمسك به كلياً وإلاَّ تبقى المسألة عقدة مترسخة في باطن الإنسان هذه العقدة تنفجر سلباً في حالات العسرة والضيق لأنها تفتقد الأرضية المطلوبة لغرض توفير القناعة التامة ولذلك لابد أن نبحث بحريّةٍ واطمئنان هذه القضية المهمة لنوفر لأنفسنا الحل السليم لهذه العقدة ومن هنا يعرِّفُ بعض الأساتذة العقيدة بالعقدة الكامنة في شعور الإنسان متى ما توصل إليها مطمئناً صادقاً انجلت عقدته ومثله مثل الإنسان إذا ضيع شيئاً عزيزاً عليه فيبحث عنه بحثاً دقيقاً فمتى ما وجده تنتهي عقدته ويستريح ضميره ووجدانه فانحلال العقدة بوجود الهدف الذي كان ضائعاً، حينها تتحول العقدة إلى عقيدة يؤمن بها الإنسان فقد قال سبحانه:

(الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب). [سورة الرعد: الآية 28].

فحالة التمسك بالعقيدة والمبدأ منشأُها القناعة بهذه الأفكار والمعتقدات ونحن يمكننا أن نستدل على وجود الخالق المدبر المهيمن عن طريق وجودنا مرةً وعن دليل خارج عن وجودنا مرةً أخرى حيث نرى عظمة الإبداع والتدبر وسنن هذا الكون الفسيح.

وبداهة أن الأثر يدل على المؤثر والمصنوع يدل على الصانع والدقة في الأثر والنظام في المصنوع يدلان على قدرة الخالق وعظمته كما أنك حينما تشاهد بناءً متواضعاً من طابق أرضي واحد ليس فيه إلاَّ باب واحد وغرفتان ولواحق بسيطة للبيت تقول لابد من بانٍ ومصمم لهذا البناء المتواضع وكذلك حينما تشاهد ناطحات السحاب ذات المصاعد الكهربائية فترى الدقة في التشييد والتنسيق ما بين الطوابق والسلالم الكهربائية فلابد أن تقول أن هنالك عقولاً هندسية واعية أنتجت هذا العمران الضخم وعليه لا نمنح صفة العقل الهندسي المتطور للبيت المتواضع الأول كما نمنحه لمصممي ناطحات السحب وهكذا فمن خلال عظمة الخلقة والإبداع التي نراها في داخلنا ودقة الأنظمة الكونية خارجنا نتوصل إلى معرفة الذات الإلهية المقدسة والمدبرة لهذا الوجود والمتصفة بكل صفات الكمال والجمال والجلال.

وقبل أن نتطرق لحديث الأدلة نلفت انتباه القارئ الكريم إلى مسألة مهمة وهي هل إن الله سبحانه علة العلل في إيجاد الأشياء والوجودات؟ أم أنه ليس كذلك. والعلة إما أن تكون علة تامة أو علة ناقصة فإذا قلنا بأن الله سبحانه هو العلة الناقصة فالمفروض وجود غير الله لإيجاد بقية العلل ولإيجاد الكون وأما إذا قلنا علة تامة لازم هذا أن تكون الموجودات قديمة بقدم الله لأن المعلول لا يفارق علته أبداً، والحال نحن أثبتنا عملياً ووجدانياً وعلمياً بأننا لم نكن موجودين سابقاً فؤُجِدْنا في الكون فيما بعد وهكذا الوجودات المستقبلية حالياً هي عدم ولكنها ستوجد في المستقبل بمعنى نحن لسنا قدماء كما يريد ذلك الفرض على ما يذهب إليه بعض الفلاسفة.

فلو كان معنى أن الله علة تامة يقودنا - كما يذهب البعض - إلى قدم الوجودات بقدم الله على مستوى وجود الشركاء له سبحانه فنحن نرفض هذا المعنى ونرفض الانقياد مع هذا البعض وراء النتيجة الساذجة. وكذلك أن الله سبحانه ليس علة ناقصة للزوم اشتراك غير الله مع الله لتتكون العلة التامة المسببة للوجود والخلق والإبداع.

من كل ذلك نستنتج أن الله سبحانه ليس علة تامة - كما تذهب النتيجة السابقة التي تُوصِلنا إلى قدم الموجودات وإلى أن علية الله تعني سلب القدرة عنه فكلما تحققت العلة التامة يتحقق المعلول دون اختيار العلة التامة ودون السيطرة على هذا الإنتاج وبالتالي سلب القدرة منه (سبحانه). بل العكس فإنّ الله تعالى هو مختار يفعل ما يريد فقد قال عز وجل:

(إنَّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون). [سورة يس: الآية 82].

فكان الله ولم يكن معه شيء ثم خلق الأشياء ثم يميت الخلائق وهو على كل شيء قدير بعيداً عن كونه (عز وجل) علة تامة أو ناقصة على النتائج التي نخرج بها.

والآن نحاول أن نسلط الضوء على الأدلة:

أولاً: حديث وجودنا:

يقول القرآن المجيد: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفةَ علقةً فخلقنا العلقةَ مضغةً فخلقنا المضغةَ عظاماً فكسونا العظامَ لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين). [سورة المؤمنون: الآيات 12 - 14].

ويقول سبحانه في آيةٍ أخرى: (هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم). [سورة آل عمران: الآية 6].

ويقول أيضاً: (قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون). [سورة الملك: الآية 23].

الإنسان بأجهزته ومظهره وخلاياه وغدده يعد أكبر معمل منظَّم ومنتج في العالم حيث يؤدي واجباته على أحسن ما يرام وفيه أسرار ترى العلم راكعاً أمامها.

يقول سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم). [سورة التين: الآية 4].

فإضافة إلى أنه جهاز معقد في غاية التعقيد فإن أجهزته تتداخل وظيفياً فيما بينها فجهاز يخدم جهازاً آخراً بشكلٍ منسق ودقيق ومن المؤكد أن الأجهزة تقع تحت تأثيرات الحالة النفسية وبالعكس فالشعور واللاشعور النفسي يتبادلان مع أجهزة الإنسان وإفرازات غدده في كافة الأجهزة المختلفة ضمن تنظيم دقيق فكل عضو له وظيفته المعينه يؤديها لصالح الإنسان العام في النمو والبناء ولنستمع إلى أقوال بعض العلماء في هذا الصدد يقول (مورسون) العالم الطبيعي (خذوا جسم الإنسان فإنكم ستجدون فيه من الخلايا بعدد عشرة ملايين مليار خلية وهذا هو العدد المتوسط للخلايا في جسم شاب في مقتبل العمر)(5).

أما في كتاب (الطب محراب الإيمان) يذكر أن هناك ثلاثة عشر ألف مليون خلية عصبية أي 13 مليارد خلية عصبية في الجهاز العصبي وحده والخلية بحد ذاتها بناء محيّر مدهش وهذه كلها تعمل بشكل دقيق محكم متناسق متعاون لتأدية الأغراض الحيوية والفكرية وأن هناك 750 مليون سنخ رئوي يعمل لتصفية الدم وذلك بإمرار غاز الأوكسجين من الخارج إلى الدم الأسود الوارد من البطين الأيمن من القلب وهناك الكِلْية وهي الجهاز المنقّي للدم من الجهة الثانية وفيها واحات صغيرة جداً لا ترى إلاَّ بالمجهر حيث يتفرع الشريان الذي يغذّي الكلية إلى فروع دقيقة جداً حتى يصل إلى تفريع شعري لا يرى إلاّ بالمجهر يلتف حول نفسه ليشكل ما يعرف بالكبد وفيها يمر الدم ببطءٍ شديد ويتصفى بالرشح في الكلية قرابة 200 لتراً من الدم يومياً ويعود ليمتص مرة أخرى بواسطة الأنابيب الكلوية التي يمر منها قرابة 198 ليتراً وهذه الكبب يصل عددها إلى المليون في الكلية الواحدة تقوم بتصفية مئات الألتار من الدم يومياً وإن الروعة تكمن في الغدد وفي البناء وفي كيفية العمل وفي الروعة الهائلة لتخليص الإنسان من السموم التي تدخل جسمه)(6).

أما عن القلب فقد جاء في كتاب (الإعجاز الطبي في القرآن): القلب هو دعامة الجسم وقوام الحياة وعضلاته متصلة بعضها ببعض في مدمج خلوي لا تفصل بين خلاياه جدر خلوية كما هو معروف بين خلايا الحيوان والنبات ولعل هذا التكوين الخلقي للعضلة القلبية قد جعلها مؤهلة تماماً للعمل كوحدةٍ واحدةٍ يتواتر إيقاعها بقوة وانسجام لا إرادياً ولا دخل فيه، وهذه الحركة القلبية شديدة الإعجاز بطبيعتها. والعضلة القلبية شديدة النشاط موفورة القوة دائمة العمل دائبة الحركة لا تكلّ ولا تملّ لا تسأم ولا تهرم لا يتأثر انقباضها تأثراً بيّناً بائناً بالتخدير الكلي أو النصفي كما إنها لا تصاب بالسرطان والقلب يضخ في اليوم الواحد ما يقرب من ثمانية آلاف لتر من الدم يدفعها إلى مسافة تقدر بنحو عشرة آلاف ميل وتصل ضربات القلب السليم في اليوم الواحد إلى 115200 ضربة أو خفقة وتصل في الشهر الواحد إلى 3.456.000 من ثلاثة إلى أربعة ملايين ضربة أو خفقة.

أما عن حركة القلب فأثناء انقباض الأذين الأيمن ينبسط البُطين الأيمن وينغلق الصمام الرئوي وينفتح الصمام الثلاثي ليمر الدم من خلاله إلى البُطين الأيمن وعند انقباض البطين الأيمن ينغلق الصمام الثلاثي وينفتح الصمام الرئوي الذي يندفع الدم من خلاله للشريان الرئوي ومنه إلى الرئتين(7).

وأثناء انقباض البطين الأيسر ينغلق الصمام الرئوي وينغلق الصمام الميترالي وينفتح الصمام الأورطي حيث يندفع الدم خلاله بقوة انقباض البطين الأيسر إلى الشريان الأورطي ثم إلى جميع أجزاء الجسم.

أليس هذا بإعجاز طبي هندسي رائع بديع؟

وأما لو كشفنا عن بعض الأسرار التي كانت غامضة فيما مضى والعلم الحديث كشف عن أهميتها جديداً مثلاً غدة (تيموس) وهي غدة صغيرة في القفص الصدري وتقع فوق البلعوم وقد كانت غير معلومة الأهمية واعتبرها البعض عضواً لا فائدة فيه ولكن قد عُلم اليوم بأن للغدة دور كبير في توفير الحماية والمقاومة والدفاع لبدن ضد العناصر الأجنبية المهاجمة ويعتقد البعض ان لها تأثيراً على الفعاليات الجنسية ونمو البدن بعد البلوغ وباستئصالها تبدو الأعضاء الجنسية بحالة الخمول ويتأخر حصول البلوغ.

أما غدة (أبي فير) فهي أعقد من تيموس وتقع داخل الدماغ وكان البعض من العلماء لا يتصور لها فائدة ولكن اليوم تبين لها التأثير على النشاطات الجنسية والبلوغ وأما اللوزتان حيث كان الأطباء يرون لا فائدة لهما ويأمرون باستئصالها كثيراً، تبين اليوم أنهما تعملان على تزويد الجسم بالكريات البيضاء ومهمتها الدفاع عن الجسم والوقوف بوجه الميكروبات فهي تشكل مراكز حِجر صحي أو حصناً منيعاً يقف في مداخل الطرق التنفسية إذ تنقي الهواء من الميكروبات. وحتى الزائدة الدودية فقد توصل البعض إلى أن الزائدة الدودية يمكن أن تلعب دوراً مؤثراً في الدفاع ضد السرطان ويمكن أن يؤدي استئصالها عند غير الضرورة إلى ظهور السرطان ونقلاً عن مجلة (جاما) استئصال الزائدة الدودية في الأشخاص المؤهلين للابتلاء بالسرطان له تأثيرا ملحوظ في ذلك ويمكن أن يكون باعثاً على حدوثه في الجسم(8).

ولو جئنا إلى جهاز السمع عند الإنسان لوقفنا على إنجاز هائل وجبار حتى إنه وضعت نظريات تشرح لنا كيف تستقبل الأذن الصوت وكيف تحلله من خلال جهاز السمع واعضائه فنستطيع أن ندرك جهة الصوت ونميز الأصوات بعضها عن بعض وندرك البعد المكاني لهذا الصوت.

والمتتبع لهذه الحاسة يدرك عظمتها من خلال الدراسة الدقيقة لأجزائها فهي مقسمة إلى ثلاثة أقسام رئيسية: الأذن الخارجية وهي مؤلفة من صيوان الأذن (الجزء الغضروفي الخارجي) ووظيفته جمع الاهتزازات الصوتية ونقلها بأمانة إلى داخل الجهاز والجزء الثاني هو القناة الموصلة بين الصيوان والطبلة.

أما الأذن الوسطى فتنفصل عن الخارجية بغشاء رقيق (طبلة الأذن) وتتألف هذه الأذن من عظام السمع (المطرقة والسندان والركاب) وغشاء الطبلة هذا مادته من أفضل الأجسام إيصالاً للصوت فيمتاز بالرقة وهذه الميزة مفيدة للنقل لكنه معرض للتمزيق من زيادة الضغط الخارجي فاتقاءً من هذه الخطورة صار من ورائها انبوب يوصل بين الأذن الوسطى والجزء العلوي من الحلقوم ويسمى (قناة أو بوق أوستاكيوس) وهذه القناة تنظّم الضغط على الطبلة ومن خلالها يتم تفريغ الافرازات فلولاها لتراكمت الافرازات وأفسدت الأذن.

والعظيمات هذه (المطرقة والسندان والركاب) متصلة بعضها ببعض بشكلٍ هندسي متنظم تستلم الذبذبات الصوتية من الطبلة بشكلٍ فنيٍ وتسلّمها للعظم التالي ومن ثمّ يطرق نافذة القوقعة (الأذن الداخلية) مكبرة للصوت بما يعادل قوة الذبذبة الأصلية اثنين وعشرين مرة.

فلو تعطلت العظيمات عن العمل لسببٍ ما فهنالك البديل المؤقت لاستلام الصوت وهو (الكوة المستديرة) الواقعة بين الأذن الوسطى والداخلية ولم تتصل بالعظيمات تلك فهي أداة احتياطية يستفاد منها وقت الحاجة بشكلٍ أوتوماتيكي.

ثم يلاحظ أن العظام مصنوعة من أجسام صلبة جيدة لتوصيل الصوت، وأنها منفصلة عن عظام الرأس لتحتفظ بالاهتزازات من التسرب.

أما الأذن الداخلية فهي مؤلفة من عدة دهاليز وأقنية وسلالم وتسمى (التيه) وأوله دهليز بيضوي الشكل متصل بغشاء (الكوة البيضاء) وفي الدهليز أنبوب حلزوني يحتوي على محور مركزي على شكل عمودي وتلفه قناة محيطة بالمحور مرتين ونصف وفي القناة (هذه) صفيحة رقيقة بعضها عظمي وبعضها غشائي وهي تشطر القناة المحيطة بالمحور إلى شطرين وفي داخل القناة جهازان:

أحدهما: يتصل بغشاء الكوة البيضوية ليستلم الاهتزازات عن طريق العظام ويسمى بـ (السلم الدهليزي).

والثاني: يتصل بغشاء الكوة المستديرة ليستلم الاهتزازات عن غير طريق العظام ويسمى (بالسلم الطبلي) وهناك يقع عضو (كورتي) وهو التركيب المتخصص بالتحسس وذلك في غور القوقعة (القناة المحيطة) وعلى القسم الأعلى من عضو كورتي توجد أربعة صفوف من الخلايا الشعرية وهذه الصفوف تحتوي على تركيب جلاتيني يسمى بالغشاء الغطائي وتنقسم هذه الصفوف بتراكيب تشبه العصي إلى صف داخلي وثلاثة صفوف خارجية وتحت الخلايا الشعرية تتفرع نهايات الألياف العصبية السمعية التي يقدر عددها بثلاثين ألف نهاية ويقول ذوو الاختصاص (ولا يعلم على جهة اليقين كيف يتأتى لعضو (كورتي) أن يحوّل الذبذبات إلى دفعات عصبية)(9).

ولا يسعني هاهنا إلاَّ أن أردد وأطيل النظر في كلمات مولانا أمير المؤمنين الإمام علي () في هذا الصدد فيقول: (.. وما الذي نرى من خلقك ونعجب له من قدرتك نصفه من عظيم سلطانك وما تغيّب عنا منه وقصرت أبصارنا عنه وانتهت عقولنا دونه وحالت ستور الغيب بيننا وبينه أعظم..)(10) اكتفي بهذا القدر من النماذج في الاستدلال من وجودنا وداخلنا وأما في استدلالنا من خارج أنفسنا فيمكن القول فيه:

إن ما نراه من دقة ونظام وعظمة لهذا الكون المليء بالأسرار والأعاجيب يكفي أن يوصلنا إلى وجود المدبر المبدع الخالق وعظمته. ففي الأفلاك والبحار والحيوانات والنباتات بل في كل شيء يخطر ببالنا تتجسد عظمة الخالق فيه ودقة نظامه وتدبيره مما يبهر الإنسان على مستوى المعرفة والعلم والبداهة بحيث لا يستطيع أحد أن يجيب حينما يسئل عن المبدع والمدبر والخالق إلا أن يقول الله تبارك وتعالى وفي هذا المجال يقول القرآن المجيد:

(ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنّى يؤفكون). [سورة العنكبوت: الآية 61].

وفعلاً لو فكر الإنسان فيما يجري حوله من قوانين ونظم تيقّن بوجود الخالق والمدير والمدبر:

(أفلاك ينظرون إلى الإبل كيف خلقت. وإلى السماء كيف رفعت. وإلى الجبال كيف نصبت. وإلى الأرض كيف سطحت. فذكر إنما أنت مذكر). [سورة الغاشية: الآيات 17 - 21].

يقول سيدنا الإمام علي (): (... ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه وأتقن تركيبه وفلق له السمع والبصر وسوَّى له العظم والبشر انظروا إلى النملة في صغر جثتها ولطافة هيئتها لا تكاد تنال بلحظ البصر ولا بمستدرك الفكر كيف دبت على أرضها وصبت على رزقها تنقل الحبة إلى حجرها وتعدها في مستقرها تجمع من حرّها لبردها وفي ورودها لصدرها مكفولة برزقها مرزوقة بوفقها لا يغفلها المنان ولا يحرمها الديّان ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس ولو فكرت في مجاري أكلها في علوها وسفلها وما في الجوف من شراسيف بطنها وما في الرأس من عينها وأذنها لقضيت من خلقها عجباً ولقيت من وصفها تعباً. فتعالى الذي أقامها على قوائمها وبناها على دعائمها لم يشاركه في فطرتها فاطر، ولم يعنه على خلقها قادر ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الأدلة إلاَّ على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة لدقيق تفصيل كل شيء وغامض اختلاف كل حي وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلاَّ سواء وكذلك السماء والهواء والرياح والماء فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر واختلاف هذا الليل والنهار وتفجر هذه البحار وكثرة هذه الجبال وطول هذه القلال وتفرق هذه اللغات والألسن المختلفات... فالويل لمن جحد المقدر وانكر المدبر... وهل يكون بناء من غير بانٍ أو جناية من غير جان)(11).

أما الذي نراه في الكتب الحديثة حول عظمة الخالق وتدبيره فهو كثير فلنقف على بعضه فقد جاء في كتاب (الله والعلم الحديث): (هذا الأوكسجين الذي إذا زاد زيادة طفيفة لسبّب فــناء العـــالم بمـــا يسبـــّبه من اخــــتلال في كثافــــة الهواء... فتتهاوى الكواكب والأجرام)(12).

علماً بأن نسبة الأوكسجين في الهواء 21 % فلو صارت النسبة 30% مثلاً لاختلّ النظام في الحياة وتبدّلت موازين الاحتراق لأن الأوكسجين يساعد على الاشتعال ففي هذه النسبة المفترضة يساعد على الاشتعال بشكلٍ غير طبيعي مما يسبب الحرائق الفادحة في كل مكان وان الكون بنجومه المختلفة الأحجام التي لا حصر لها والتي تندفع في جميع الاتجاهات كأنها شظايا قنبلة متفجرة في صورة لا يكاد المرء أن يتخيلها حتى يدركه البهر)(13).

ويقول أنشتاين - العالم المعروف - (وكما أن الساعة اليدوية لابد لها من صانع صنعها أو مخترع اخترعها كذلك الطبيعة لابد لها من مبدعٍ قدير ابتدعها بقدرته وأنشأها بحكمته وهو الخالق العظيم).

ونرى الكون الرحب بما في فضائه الفسيح من كواكب وأفلاك تسير ضمن خطة دقيقة كلٌ قد عرف طريقه ومسلكه وقانونه وبعبارة أخرى كتلٌ من الأنظمة والدساتير والموازنات في الحركة والتأثير والجاذبية المتوازنة بصناعة دقيقة جداً في المسيرة والتحرك.

يقول عزّ من قائل في محكم كتابه العزيز: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلٌ في فلك يسبحون). [سورة يس: الآية 40].

وفي آية أخرى: (والسماء رفعها ووضع الميزان). [سورة الرحمن: الآية 7].

فمثلاً يذكر علماء الطبيعة والفلك إن قطر الشمس 864.000 ميل وهذه الشمس شرارة في مجرة درب التبانة (مجموعتنا الشمسية تعتبر جزءاً منها) وتتخلل نجوم هذه المجرة وكواكبها كميات كبيرة جداً من الغاز معظمه هيدروجين وغبار وربما كانت كتلة الغاز والغبار المنتشرة في المجرة تعادل كتل النجوم كلها(14).

ومجرتنا يحددون قطرها نحو 100.000 سنة ضوئية(15).

وفي بعض التقارير العلمية أكثر من ذلك وهذه مجرتنا ليست وحدها في الفضاء ويؤكد قسم من التقارير العلمية انه قد تم كشف على الأقل عشرة بلايين مجرة أخرى وهذا يعتمد على قوة الجهاز الكاشف ولدى بعض التقارير إن عدد المجرات مئة ألف مليون مجرة(16).

يقول الله سبحانه: (والسماء بنيناها بأييدٍ وإنّا لموسعون). [سورة الذاريات: الآية 47].

وفي دائرة المعارف قولٌ للعالِم نيوتن هو (كيف تكونت أجسام الحيوانات بهذه الصياغة البديعة ولأي المقاصد وضعت أجزاؤها المختلفة هل يعقل أن تصنع العين الباصرة بدون علم بأصول الإبصار ونواميسه والأذن بدون إلمام بقوانين الصوت... وهذه الكائنات كلها في قيامها على أبدع الأشكال وأكملها ألا تدل على وجود إله منزّه عن الجسمانية حي حكيم)(17).

وبهذا نكون قد وضحنا الأدلة من داخل الإنسان في بيان جزءٍ من أجهزته وأوضحنا أيضاً بعض الأدلة من خارج الإنسان وحديث الأدلة حديث شيق أدعو المؤمنين لمطالعته في مختلف الكتب المعنية.


5 - وقفة مع الشبهات والرد عليها:

الشبهة الأولى:

وخلاصتها:

إن الحواس الخمس هي النوافذ الطبيعية للمعرفة ولحصول العلم وعلى رأس الحواس حاسة البصر فهي الحجة القاطعة ونحن بصراحة لا نرى الله وعليه لا نستطيع أن نؤمن بشيءٍ إلا نراه.

والجواب: هؤلاء يعتقدون أن مصدر المعرفة لديهم هو الدليل الحسي البصري عبر التجارب ويضاف له السمع، الشم، اللمس، الذوق فكل معرفة لا تمر عبر هذه القنوات تعتبر من الأوهام واللاواقعيات - (وما دامت المسألة الإلهية مسألة غيبية وراء حدود الحس والتجربة فيجب أن نطرحها جانباً وننصرف إلى ما يمكن الظفر به في الميدان التجريبي من حقائق ومعارف)(18).

ونقول في الإجابة أيضاً: إننا لا ننكر دور الحس في المعرفة الإنسانية ولكن نقول ليست المسألة كلها متعلقة بالحس وإنما للإدراك العقلي الدور الأهم في المعرفة، (فنيوتن مثلاً حين وضع قانون الجاذبية العامة على ضوء التجربة لم يكن قد أحس بتلك القوة الجاذبية بشيء من حواسه الخمس وإنما استكشفها عن طريق ظاهرة أخرى محسوسة لم يجد لها تفسيراً إلا بافتراض وجود القوة الجاذبة)(19).

فصحيح أنه رأى بعينه التفاحة التي سقطت إلى الأرض وتساءل لماذا ما صعدت إلى السماء ولكنه افترض على هذا البناء الحسي أمراً غير ملموس أو محسوس ألا وهو أمر الجاذبية الأرضية التي لا تخضع للحواس الخمس بأية صورة من الصور وإنما أدركها من خلال آثارها بدليل عقلي واضح فلو أزلنا مبدأ العلية العقلي كما يرغب أصحاب المذهب التجريبي لوقعنا في فخ الصدفيين، ومع ذلك فإن الحواس هذه قد تخطئ كما في مسألة السراب وقد تختلف من فرد لآخر ومن ظرف لآخر مما يجعل لهذا الاختلاف ظهور الواقع العلمي عند البعض ونكرانه عند البعض الآخر، يقول الدكتور فؤاد صروف في مقال نشرته مجلة عالم الفكر الكويتية العدد الثاني: (إن علماء الطبيعة في هذا العصر رأوا بعقولهم ما لا يمكن أن يروه بعيونهم أو بمصوراتهم الضوئية).

فاكتشف علماء الطبيعة أسراراً لم تكتشفها الحواس وعلى رأسها العيون فلو سايرنا المذهب التجريبي أكثر نلاحظ أنه لا يستطيع أن يثبت قواعده في المعارف الموجودة في العالم إلاَّ بالاعتماد على القواعد العقلية مثال ذلك التعليل وكشاهد عليه مثلاً نلاحظ أثر النار في تبخير الماء كسائل له مواصفات معينة وليس كل السوائل لأن الماء يتكون من مكونات مهيّأة للتبخر نتيجة الحرارة فكل سائل يحمل نفس المواصفات يتبخر بالحرارة وهكذا قاعدة التعميم على كل المياه في العالم. فالتعليل والتعميم وأمثالهما من القواعد العقلية هي التي تدفع بالتجارب الحسية نحو الأمام وهذه القواعد عقلية ولولاها لاحتجنا إلى تكرار كل التجارب وعلى كل السوائل كما في مثالنا.

وهكذا نرى العقل يرمم المعرفة الحسية من مواقع القوة أما أصحاب هذا المذهب فهم يذهبون إلى أن الحواس هي المصدر لكل المعارف وهنا نتساءل هل هذه القاعدة حصلوا عليها عبر التجربة أم لا؟ وفي هذا الصدد يقول السيد محمد باقر الصدر في كتابه (فلسفتنا) (صحّ لنا أن نتساءل عن السبب الذي جعل التجريبيين يؤمنون بصواب هذه القاعدة فإن كانوا قد تأكدوا من صوابها بلا تجربة فهذا يعني أنها قضية بديهية وأن الإنسان يملك حقائق وراء عالم التجربة وإن كانوا قد تأكدوا من صوابها بتجربة سابقة فهو أمر مستحيل لأن التجربة لا تؤكد قيمة نفسها)(20).

فبالنتيجة نلاحظ أصحاب هذا المبدأ يطبقون قواعد عقلية من حيث لا يشعرون إضافة إلى أن كثيراً من الخبرات والتجارب والعلوم جاءتنا عبر التاريخ ونحن نؤمن بها دون أن نراها أو نشهدها وقد نحصل عليها بطرق غير حسيّة فالمغناطيسية والكهربائية والجاذبية وأمثالها نؤمن بها دون أن نراها بالعين أو نشمها بالأنف أو نلمسها باليد. فإذن ليست الحواس هي النافذة الوحيدة لمعارف الإنسان بل هي النافذة الاعتيادية للمعرفة بينما يبقى العقل هو البداية الرئيسية لمعارف الإنسان وهكذا تتلاشي هذه الشبهة أمام أشعة العقل والعلم الحديث فليست علومنا ومعارفنا عبر الحواس فقط هي التي آمنا بها.


الشبهة الثانية:

لكل وجود في العالم علة إيجاد لابد منها فمن أوجد الله سبحانه؟

وقبل الإجابة أتذكر قولاً للفيلسوف (برتراند راسل) في كتابه لماذا ليست مسيحيا؟ (فكما أن لكل شيءٍ علة وسبب لابد لوجود الله أيضاً من علة ودليل ولو أمكن لشيءٍ أن يكون بلا دليل ولا علة لأمكن أن يكون هو الله أو العالم وعلى هذا فالبحث عن الله يفقد اعتباره).

ويقول (هربرت اسبنسر) الفيلسوف البريطاني (المشكلة هي أن العقل البشري يفتش لكل أمر عن علة وهو يرى استحالة الدور والتسلسل ولا يرى علة بلا علة ولا يفهمها).

فبالنتيجة يمكن أن نقول إن مبدأ العلية هو قانون لازم لكل مناحي الوجود ولا يمكن أن يكون شيءٌ موجوداً دون علة أو سبب وحينما نفترض أن هنالك شيئاً وجد دون علة أو سبب فهو نوع من أنواع الصدفة في الخلق وبهذا الأسلوب يصنفون الأيديولوجية الإسلامية ضمن نظرية الصدفيين حيث أنها تعتقد بوجود الخالق والمدبر الرئيسي صدفة بمعنى كونه موجوداً بلا علة أو سبب، وصحيح أن الإسلاميين يقدّمون مقدمات طويلة وعريضة بلا بُدّية العلة ويعرضون عن نظرية الصدفة جانباً ويهزأون منها بأدلة علمية دامغة ولكنهم حينما يَصِلون إلى حصن الرب الخالق تتهاوى القواعد العلمية التي ساروا عليها فهنا - وبالذات في موضوع الله - تسقط العلية والسببية تماماً حيث وجد الله من دون علة ومن دون سبب بل هو علة العلل ومسبب الأسباب وهذا ما لم يقرّه العلم ولم يقرّه الإسلاميون أنفسهم في بداية البحث وقبل الوصول إلى حصن الخالق وبالمناسبة يقول الدكتور العظم في كتابه (نقد الفكر الديني): لنفترض أننا سلّمنا بأن الله هو مصدر وجود المادة هل يحل ذلك المشكلة؟... أنت تسأل عن علة وجود السديم الأول وتجيب بأنها (الله) وأنا أسألك - بدوري - وما علة وجود الله؟ وستجيبني بأن الله غير معلول الوجود وهنا أجيبك ولماذا لا نفترض المادة الأولى غير معلول الوجود؟ وبذلك ينحسم النقاش دون اللجوء إلى الغيبيات وإلى كائنات روحية بحتة لا دليل لدينا على وجودها (الميتافيزيقية) ويستمر قائلاً: (إن أقصى ما تستطيع الإجابة به (لا أعرف) إلاَّ أن وجود الله غير معلول ومن جهة أخرى عندما تسألني ما علة وجود المادة الأولى؟ فإن أقصى ما أستطيع الإجابة به (لا أعرف) إلاَّ أنها غير معلولة الوجود)(21).

وعلى هذا سنقرّ بجهلنا في معرفة الوجود الأول وحسب ما يدّعي الدكتور العظم وأصحاب هذا الرأي أن الطريقيْن مسدوديْن بنتيجةٍ واحدةٍ متساويةٍ ومتعادلة.

وبالفعل إنها شبهة مؤثرة حينما تثار في الأوساط العامة تجد من يصغي لها ولكن هؤلاء مثلهُم مثلُ القائل لخصمه (عرفتَ شيئاً وغابت عنك أشياء) وللإجابة على هذه الشبهة نتبع طريقة أساتذتنا في شرح النظريتين (نظرية الوجود) و (نظرية الإمكان الوجودي) ثم الردّ العام على هذه الشبهة التي تعد من الشبهات الرئيسية التي يلتزم بها الماديون وبعض الماركسيين بالذات وأنها السبب في تغيير عقائد بعض الشباب نحو الأفكار الهدامة والسلوك الملتوي.


أما الآن فلنتعرف على النظريتين:

(أ) نظرية الوجود:

هذه النظرية ترى حتمية احتياج الموجود إلى علة توجده، هذه النظرية مستندة على التجارب العلمية في كل الميادين كالطب والهندسة والكيمياء والفيزياء، مثلا ذلك غليان الماء بالحرارة وتمدد الحديد بالحرارة فالحرارة هي علة الغليان للماء والتمدد للحديد ولولا هذا القانون (لكل موجود علة) لجاءت الصدفة واحتلت المنطق العلمي التجريبي - كما يقولون - ويمكننا أن نناقش هذه النظرية ونردها عبر ما يلي:

1 - إن التجربة كمصدر رئيس لمعرفة العلة - هذا ما لا يقرّه العلم والعقل - حيث إننا نعرف أن التجربة لها حدود خاصة في التطبيق الميداني أي لها حقل خاص وهو الحقل المادي من الوجود - فاعتبارها مقياساً علمياً يكشف عن العلة والسبب في عموم الوجود هذا أمر بعيد عن الدقة العلمية حيث إن الوجود ليس ماديّاً فقط وإنما جزء منه يخضع لعنوان المادة وعليه تطبق التجربة كالغليان وتمديد الحديد بالحرارة - كما مر - أما أننا نوكل الوجود الكبير لهذا المقياس الذي لا يستطيع استيعابه بالتجربة وحدها لغرض كشف العلل! فهو أمر شاذ! حيث إن الوجود مليء بأمورٍ غير مرئية كالجاذبية والمغناطيسية والأرواح وما شابه ولو سلّمنا جدلاً بالتجربة وقدرتها على بيان كل العلل والأسباب لكل الوجود ففي الحقيقة أن التجربة تكشف عن أسباب الظواهر المادية كالغليان والتمدد لا أكثر فهي تربط بين عدة عوامل كالنار والحرارة والشمس بمكونات مادية معينة كالحديد فتكشف عن العلاقة التي تعتبرها علة للتمدد أما لماذا الشمس أو الحرارة تعمل هذا العمل؟ ولماذا الحديد له هذه القابلية دون غيره؟ هذه تساؤلات تعجز التجربة عن الإجابة عليها.

أما الوجودات غير المرئية فتعلن التجربة إفلاسها وتستسلم أمامها لأنها لا تستطيع أن تمدّ يديها إلى العمق الغيبي وهو أمر واقعي - دون شك - كالجاذبية والمغناطيسية وما شابه.

2 - أما ربط الإلهيين بالصدفة ولو بدرجة متأخرة - كما يقول البعض - لقلة الشجاعة لدى الإلهيين فيرفعون الصدفة عن الوجود المادي ليضعوها على المصدر الأول للوجود وهو الله! في المسألة خلط واضح إذ أن المصدر الأول الذي يؤمن به الإلهيون يتصف بصفات الأزلي والأبدي وهذه الصفات تجعله يكون واجب الوجود لا يحتاج لشيء... أما الصدفة في الخلق فهي لا تتصف بصفات الأزلي والأبدي وإنما هي محتاجة لظروف عديدة وممكنة فإذا ظهرت أو انعدمت ضمن الإطار الخاص بها نسميها صدفة وجدت دون حضور ذهني أي يتعادل الوجود والعدم بالنسبة لها ككفتي الميزان أما المصدر الأول للوجود في العقيدة الإلهية ليس هكذا بل أن المصدر واجب الوجود وضروري الوجود وممنوع العدم لا إنه ممكن الوجود وممكن العدم كالصدفة.

3 - نظرية الوجود تبحث عن علة الوجود دون أن تعتني بعلة العدم ويظهر من بعض المؤمنين بذلك - أن المادة لا تُفنى ولا تُستحدث من العدم وإنما المركبات حين تحولاتها تفقد كثيراً من خصائصها فالعدم هذا يقرّه العلم ويقرّ كذلك بلا بُدّية السبب في الانعدام، فالماركسيون الذين يدّعون أزلية المادة يقرّون في نفس الوقت أنّها تتغير وتتحول من حالة لأخرى وأنها لتفقد بعض العناصر من مركباتها بالتحول أو تهرب منها بعض العناصر أثناء التفاعلات الكيمياوية. والعلم يقر ذلك بالاتفاق فإن هذه التغيرات والتقلبات ليست من صفات الأزلي الأبدي فحينما تستسلم النظرية المادية أمام العلم الذي يذهب إلى أن للوجود بداية وللمادة بداية وأنها تتحول من حالة لأخرى وتتجدد وتنعدم وتُفنى وتُستحدث، نرى أصحابها يشنّون حملة شعواء على العقيدة الدينية نتيجة رد الفعل السلبي من قرارات العلم وعلى نفس المستوى والأسلوب، بينما العقيدة الدينية تقرّ بأن الصفات الأزلية والأبدية المتفق عليها لا تناسب المادة المتغيرة حسب ما يقرّه العلم بل تناسب ما يصفه الدينيون بالخالق المدبر الذي لا يكون مادة ولا يحتاج لعلة ولا يفتقر لسبب بما أن ذلك من ضرورات المادة الفانية.

(ب) أما نظرية الإمكان الوجودي:

وكما مرّ في تقسيم الوجودات إما أن يكون واجب الوجود لذاته وهو لا يحتاج إلى علة في وجوده لذلك فهو واجب الوجود وإما ممتنع الوجود لذاته وهو لا يحتاج في عدمه إلى علة وإما ممكن الوجود والعدم فيحتاج في وجوده إلى علة ويحتاج في عدمه إلى علة كذلك فعلاقة الارتباط بين العلة والمعلول(وجوداً أو عدماً) يرجع إلى الإمكان الوجودي فكل ممكن الوجود يخضع للعلة في إيجاده أو في عدمه وبما أن المادة ممكنة الوجود فلا هي واجبة الوجود لذاتها ولا ممتنعة الوجود لذاتها كما مر معنا الحديث المؤيد علمياً.

فإذن إن المادة تحتاج إلى علة أو سبب للإيجاد كما تحتاج إلى علة أو سبب للفناء والعدم.

وحيث إن الله سبحانه ليس ممكن الوجود فهو واجب الوجود لذاته كما قرر الإلهيون فلا يحتاج إلى علة لإيجاده. فإذن نستطيع أن نخرج من هذا البحث بأن الوجود العام لهذا الكون والكائنات يحتاج إلى مصدر أو سبب أو علة للإيجاد ولابد أن يكون هذا المصدر متصفاً بصفات الأزلي الأبدي فهو واجب الوجود بذاته وإلا سنصل إلى التسلسل والدور الباطلين عقلاً.

فلذا نرى أن الماديين يطلقون على المادة صفات الأزلي وأنها واجبة الوجود لذاتها وقد تبين أن العلم يعترض على ذلك وان المادة غير متصفة بصفات الأزلي وبما أن افتراض هذا الأزلي والمصدر الرئيس للوجود هو بين أمرين لا ثالث لهما إما المادة وإما الله سبحانه كما يذهب الإلهيون. وبما أن المادة والوجود الطبيعي في الحياة لا تخضع لصفات الأزل فإن صفات الأزل هذه تنطبق على القدرة الكبرى التي هي الله سبحانه.

غاية المسألة - إننا كبشر - لا يمكننا أن نتصور وجوداً لواجب الوجود بذاته تصوراً مادياً قائماً كرؤيتنا للمواد الأخرى - ولا يمكننا أن نتصور وجوداً دون سبب وعلة وذلك لأننا ألفنا الحياة القائمة على العلة والمعلول مباشرة فتصورنا أن هذا قانون لا يمكن تجاوزه. والحال أن الأدلة العقلية والعلمية تشير إلى ضرورة واجب الوجود والذي أفاض على الكون كله هذا الوجود الحي. فهو الموجود دون علة سابقة بل هو علة العلل في الوجود.


الشبهة الثالثة:

إن من طبيعة الأشياء والوجودات التي نشاهدها أمامنا موجودة وفاعلة في الحياة بطبيعتها أوجدت نفسها بنفسها والوجود أوجد نفسه بنفسه من دون الحاجة إلى سبب أو علة فلماذا نبحث بجهد عن علة الوجود الأولى ما دام الأمر لا يحتاج لهذا التعب فالوجود بطبيعته موجود وله قوانينه الطبيعية من الولادة حتى الممات.

وللجواب نقول: سبق أن قررنا وتحدثنا في الإجابة على الشبهة الثانية نلاحظ أن منطوق هذه الشبهة يساعد ما قررناه هناك حيث يقول المنطوق منذ الولادة وحتى الممات أي من الوجود المسبوق بالعدم إلى العدم والفناء المسبوق بالوجود وقلنا لازال الوجود يُحكم بالإمكان فهو محتاج إلى المصدر الأول في الإيجاد كما يحتاج إلى علة للإبقاء وعلة للإفناء أيضاً.

ونحن نعتقد أن الوجود هذا سبقه عدم فإذن لهذه المادة والطبيعة بداية محددة فإذن هذا الممكن بحاجة إلى علة وسبب للإيجاد وسبق أن أوضحنا في احتمالات العلة الموجدة للأشياء وقلنا في إحدى الاحتمالات أن الوجود أوجد نفسه والطبيعة أوجدت نفسها والإنسان أوجد نفسه، فالطبيعة الكونية هي التي أوجدت نفسها بنفسها ووضعت قوانينها بنفسها وعالجنا الموضوع في مكانه. وقررنا أن العلة الأصلية يجب أن تتصف بصفات الأزلي الأبدي وهذه الصفات لا تنطبق على المادة والطبيعة بأية صورة من الصور فهي فقيرة ومحتاجة إلى الموجد أي العلة الباعثة والمسببة للإيجاد. قيل للإمام الرضا (): يا ابن رسول الله ما الدليل على حدوث العالم؟ فقال (): (إنك لم تكن ثم كنت وقد علمت أنك لم تكوِّن نفسك ولا كونك من هو مثلك..)(22).


الشبهة الرابعة:

انطلاقاً من مفهومي الزمان والمكان فأين الله ومتى وجد؟

وللجواب على هذه الشبهة نؤكد مراجعة الشبهات الماضية التي تعطي الرؤية الحقيقية للإيمان بالله سبحانه وحينما نقرّ بصفات الأزلي والأبدي يجب أن نبتعد عن الأمور المألوفة والمتكررة أمامنا في الحياة والمطبّقة في العالم المادي أما الواجب الوجود لذاته والأزلي الأبدي لا يحيطه زمان ولا يشغله مكان بل هو الذي يحيط بكل الأزمنة وبكل الأمكنة فهو ليس محتاجاً لصفتي الزمان والمكان وصفة الاحتياج للظرف الزماني والمكاني تنطبق على العالم المادي الذي نحسه ونلمسه. أي الحادث وهذا غير الأزلي كما هو المعروف.

والمشكلة أن العقل البشري لا يستطيع أن يتصور هذه المسألة لأن تصوراتنا هي انعكاسات الحياة المادية فبشكل طبيعي نقيس الأمور على ضوء القوانين المادية التي ألفناها وهذا مما يضطرنا أن نقرّب الفكرة بالأمثلة الشائعة اليوم كالجاذبية الأرضية أو جاذبية الكواكب في الفضاء والكهربائية والمغناطيسية وعالم الأرواح وصفات الصدق والكرم كل ذلك هل يحده مكان أو يقيسه زمن - طبعاً - هذه الأمثلة لتقريب الفكرة فقط والذي نريد أن نقوله أن هنالك وجودات خارجة عن حدود الزمان والمكان وواجب الوجود لذاته لا يخضع لهذه الحدود إطلاقاً وفي الرواية المارة الذكر عن الإمام الرضا () حينما يسئل كيف الله وأين هو؟ فقال (): (.. هو أيّن الأين بلا أين وكيّف الكيف بلا كيف فلا يعرف بالكيفوفيّة ولا بالأينونيّة ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشيء..) فلما سأله متى كان أجاب الإمام (): (أخْبِرني متى لم يكن فأخبرك متى كان)، وفي كلام أمير المؤمنين (): (.. ظاهر في غيب وغائب في ظهور لا تجنه البطون عن الظهور ولا يقطعه الظهور عن البطون قَرُبَ فَنَأَى وعلا فَدَنا وظهر فبطن فعلن..)(23) وقال () أيضاً: (.. ومن قال فيمَ فقدْ ضمنه ومن قال عَلامَ فقد أخلى منه..).

وللدعابة أخبرني أحد الشباب بأن مَلَكَ الموت كيف يأتي لقبض روحي ومن أين يأتي ومتى يأتي؟ وبدأ يحلّل المسألة ويؤكد بأن الجواب على كيف يأتي ومتى يأتي فلا يستطيع تحديده لأنه خارج عن إرادتي أما من أين يأتي؟ فأكّد أن الملك (عزرائيل) يطبق (فاتوا البيوت من أبوابها) فسأغلق الأبواب والشبابيك وامنع مَلَكَ الموت من الدخول عليَّ وبالتالي أمنعه من قبض روحي وبهذا سأسلم منه وأعيش فترة أطول. هذا الفتى ينظر للأمر بعين ساذجة وبريئة فقلت له قول الله سبحانه:

(أينما تكونوا يدركْكم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة). [سورة النساء: الآية 78].

ومَلَكُ الموت هذا إن كان ضمن مقاييسنا المادية بالفعل يمكن حصره ومنعه من قبض الأرواح ولكن الأمر غير ما نتصور نحن فهو لا يخضع لهذه القوانين المألوفة لدينا.

وللجواب على متى كان؟ يجيب الإمام الباقر (): (إنما يُقال متى كان لما لم يكن فأما ما كان فلا يُقال متى كان، كان قَبلَ القبل بلا قبل وبعدَ البعد بلا بعد)(24).

وهكذا نتوصل إلى أن الزمان والمكان من مختصات الحوادث أما الأزلي فلا يخضع لمقاييسهما.


الشبهة الخامسة:

إن من الأحاديث العقائدية التي ندرسها ونسمعها ونتلقاها تشاع فكرة مفادها: أن الإيمان بالتوحيد يَطْرد القلق والاضطراب من النفس ويضفي جوّاً هادئاً في الحياة ونحن لا نرى الموحدّين هكذا والشرائع السماوية أصبحت هي التي تفرّق الناس وتصنفهم إلى أقسام ربما تتناحر فيما بينها بالرغم من التقائها بالإيمان بالله عز وجل فنرى الناس المؤمنين يتخبطون في ألوان الشقاء والبلاء والظلم فلا نرى هذا التغير الإصلاحي والسلوكي المزعوم منعكساً من عقيدة التوحيد على الإنسان والمجتمع، وكما لا نلمس الحكمة من الشرائع السماوية ولا نلمس الحكمة في الخلق في بعض الأحيان فما هي فوائد الشرائع وما هي فائدة هذه المخلوقات الضارة؟ التي قد تهدد الحياة أحياناً.

للإجابة على هذه الشبهة يمكن توضيح بعض النقاط الواردة في الشبهة وبمعنى آخر يمكن تفكيك بعض المفاهيم المنطوية داخل منطوق الشبهة وكما يبدو هنالك نوع من الخلط بين ما هو نازل من السماء بعنوان الكتب المقدسة والفكر الديني لغرض هداية الناس وما بين حالة الناس أنفسهم ويجب أن نعلم أن الكتب المقدسة غير القرآن الكريم قد حرّفت فكتب الديانات السماوية لم تعد تمثل رأي الخالق المدبر بما فيها من تحريف وتبديل وأهواء وهي بالنتيجة نسخت بالرسالة الخاتمة وهي القرآن الكريم أي الدين الإسلامي يقول سبحانه في القرآن العظيم:

(ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبلَ منه وهو في الآخرة من الخاسرين). [سورة آل عمران: الآية 85].

ونأتي إلى المسلمين ففي الواقع نحن لم نطبق على أنفسنا القرآن الكريم بالشكل الكامل وإنما أغلب المسلمين جزّأ الإسلام فأخذ ما ينفعه في نواحي حياته الشخصية والاجتماعية وترك ما يكلّفه من واجبات ومسؤوليات وخاصة ما تجسد قيم التضحية والإباء.

هذه الصورة العامة لحياة المسلمين فقد قال عز وجل:

(أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب...). [سورة البقرة: الآية 85].

ولا ننكر وجود طبقة واعية مؤمنة تطبق على نفسها القرآن والإسلام، إنما كلامي على الحالة العامة والصورة العامة للمسلمين، وعلى ما نرى من التطبيق الجزئي للإسلام نلاحظ أن المسلمين أفضل من غيرهم من الناحية النفسية فنحن نجني ثمار هذا التطبيق الجزئي للإسلام فمن الناحية النفسية تؤكد لنا الإحصائيات أن حياة المسلمين قليلة القلق والاضطراب وعدم الثبات والانتحار قياساً بحياة غير المسلمين حيث يكثر فيها القلق والانتحار.

والدليل: إن أطباء النفس ودراسات الأمراض النفسية نراها بكثرة هائلة في الدول الأوروبية على عكس الشعوب الإسلامية وهي على علاّتها، وأما لو كان التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية في حياتنا لعشنا في قمة الاستقرار والحضارة والعدالة والازدهار فالسبب الرئيس إذن هو نحن المسلمين المطبقين للشريعة فالحكمة الحقيقية من رسالة الإسلام هي تهذيب النفس الإنسانية وإقامة العدل الإلهي في المجتمع ليسود الإخلاء والحب والسلام والكل يعرف كيف كان المجتمع الجاهلي متناحراً وكيف صار في عهد الرسالة الأول هذه حكمة الشريعة إما حكمة المخلوقات الضارة - نحن قد نعتبرها ضارة ويمكن أن يؤيدنا العرف لدى الكثيرين من أبناء الأرض ولكن من وجهة نظر أخرى نحن لا ندريها قد تكون نافعة ومن قال إن الحكمة تكون دائماً في النفع والفوائد فهناك كثير من الحيوانات نعتبرها ضارة وسامة وهالكة وفي بعض الأحيان هي التي تنقذ الإنسان من أخطار محدقة والكشوفات العلمية تثبت لنا ذلك والبشرية عاجزة عن معرفة الأمور كلها وبمرور الزمن نحصل على اكتشافات عظيمة وجبارة كنا نجهلها سابقاً. وهنالك أمثلة كثيرة في هذا الصدد ففي كتاب (الإسلام يتحدى) مجموعة من هذه الأمثلة منها:

طريقة الحصول على (النتروجين المركب) الذي بواسطته تستطيع النباتات أن تقوم بعملية صنع الغذاء والطريقة هذه تعتمد على الجراثيم التي تعيش في جذور النباتات بباطن الأرض فهي تأخذ النترجين من الجو وتحوله إلى مركب النتروجين ثم تستفيد منه النباتات، وطريقة أخرى بواسطة الرعد وهو الصوت الحاصل في احتكاكات السحب فيمتزج الأوكسجين مع النتروجين ويحصل (المركب) وبالأمطار ينزل المركب إلى جوف التربة، وهكذا اكتشف العلم الحديث حكمة الجراثيم والرعد ولربما لم يكتشف كل الحكمة. فالمشكلة الحقيقية إن الإنسان يريد أن يعرف كل شيءٍ ولكن العقل الإنساني قاصر عن بلوغ الكمال حيث الكمال لله سبحانه وتعالى وحده.


الشبهة السادسة:

ما هي المواد الأولية لهذا الوجود الطبيعي في الكون حيث استطاع القادر بهندسة دقيقة أن يركبها تركيبات مختلفة فظهرت كما نرى، خصوصاً حينما نؤمن بأن للمادة أصل ثابت لا يتغير وهو جوهر المواد فهل دوره سبحانه تركيب وهندسة المواد أم الخلق المبدع؟ فإن كان التركيب فما هي المواد الأولية وهل يمكن أن تتصف بالأزل؟ وإن كان الإبداع فهل يعقل أن الكون وجد بعد عدم تام؟

للإجابة نعود لنقول ما قررناه سابقاً أنّ الإنسان عقله قاصر عن التوصل لمعرفة الإبداع التام لأنه لم يألف ذلك، وهنا أتذكر طريفة بالمناسبة حيث كنا أطفالاً كان يتحدث لنا الكبار بأن آباءهم المرحومين لو كان يخبرهم أحد بأنه في المستقبل من الزمان يستطيع الإنسان أن ينتقل من دولة لأخرى عبر وسائط النقل الحديث وكأنها الغرف المنزلية من دون استعمال الحيوانات لما صدّقونا ولضحكوا علينا بينما نرى اليوم أنّ الغرف هذه سواء كانت القطارات أو السيارات أو الطائرات فإنها تسير دون حيوانات أقول في ذلك الوقت وقبل التكنولوجية الحديثة من كان يصدق؟

وشخصياً لديّ طريفة مشابهة لتلك وهي أنّ أحد أقربائنا من كبار السن والمعمّرين كان يتحدث مرة بأن أول سيارة دخلت مدينة كربلاء مع وفد حكومي ملكي لزيارة الإمام الحسين () فقال: خرجنا لمسافة بعيدة على الخيول لاستقبال الوفد وإذا بنا نرى حيواناً جديداً في تركيبه يمشي على أقدام دائرية واسعة (الإطارات) وللحيوان صوت غريب للتنبيه - لم نألفه - قال أحد الحضور لعن الله الإنجليز حتى حيواناتهم ليست عادية - يقول وقفتْ السيارة ونزل الوفد ففي البداية انهزمنا وانهزمت معنا خيولنا ولكن بعد قليل اقتربنا شيئاً فشيئاً حتى وصلنا إلى الحيوان الجديد فبدأنا نبحث عن فم هذا الحيوان ومخرجه وكيف يرى طريقه وما هو نوع طعامه وما شابه هذه التساؤلات.. لماذا؟ لأنهم لم يألفوا هذا الأمر وبمرور الزمن أصبح مألوفاً واعتياديّاً لذلك حينما نقول أن الله أبدع الكون من لا شيء فهذه القدرة الكبرى التي تميز الله سبحانه عن الآخرين فبقدرته أوجد الأشياء أما نحن فلا نألف هذه الصناعة المبدعة لذا قال الإمام علي (): (.. كائن لا عن حدث موجود لا عن عدم..) في وصف الله تعالى.

فالكون بما هو حادث وليس أزلياً كما ثبت معنا سابقاً فهو إما وُجد صدفة وأثبتنا بطلان ذلك وإما أوجده سبب مبدع وهو سبحانه. أما نحن فلم نألف هذا الإبداع لأننا لم نعاصره ولم نألفه وكثيراً من الأمور نعترف بها دون معاصرتها أو مشاهدتها. أما كيف نؤمن بأن للمادة أصل ثابت دون تغيير وقد أثبتنا تحول المادة إلى طاقة والطاقة إلى مادة والكل إلى فناء وعدم، هذا الأصل الثابت نسبياً متغير ومتحول ولابد لهذا المتغير والمتحول أي الحادث من مبدع أزلي وقد أوضحنا ذلك في البحوث السابقة.


الشبهة السابعة:

المؤمن بالله سبحانه كيف يمكنه أن يصوّر لنا كنه الله وماهيته في ذهنه وهل يمكنه أن ينقل تصوره لماهية الله إلى أذهاننا؟

والإجابة واضحة فقد مرت بعض الأمور في هذا الصدد سابقاً أن العقل الإنساني لا يستطيع أن يعرف كنه كل الموجودات في الكون (وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً) فالمغناطيسية والجاذبية والروح الإنسانية كل هذه الأمور لا يعرف الإنسان كنهها وماهيتها بالرغم من أنها حادثة ومخلوقة فكيف يستطيع أن يحيط بقادر عظيم جبار فالمحدود لا يحيط اللامحدود وهذا مما يذكرنا بحديث الإمام الصادق (): (فإن قوماً تكلموا في ذات الله فتاهوا) - وقد قال الرسول الأكرم () في عدة أحاديث نذكر منها قوله (): (تفكَّروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله، تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره، تفكروا في كل شيءٍ ولا تفكروا في ذات الله)(25).

وعلى هذا يكفي للإنسان المؤمن أن يرى ربّه وخالقه بعقله عبر آثاره الحكيمة فالله سبحانه هو القدرة المطلقة التي أبدعت الخلق ودبرت الكون وسيّرت القوانين فكلها مطويات بيمينه (وما قدروا الله حقَّ قدرِهِ والأرضُ جميعاً قبضتُهُ يوم القيامةِ والسماواتُ مطويّات بيمينه سبحانه وتعالى عمّا يشركون). [سورة الزمر: الآية 67].

بهذا القدر يستطيع المؤمن أن يتوجه إلى خالقه بالطاعة والامتثال ويزداد إيماناً كلّما تدبّر في آلاء الله وفي الخلق كما أراد الرسول الأعظم () ذلك.


آخر تعديل بواسطة منتظرة المهدي ، 12-Dec-2007 الساعة 01:04 AM.

رد مع اقتباس