موضوع البحث:
القسم الثاني
أسرار في معارف الحمد ونقطة الباء، من خلال
الخطبة الغرّاء لمولاتنا فاطمة الزّهراء (ع)
قالت مولاتنا فاطمة الزّهراء في خطبتها الغرّاء أمام المهاجرين والأنصار وغيرهم:
الحمد لله على ما أنعم، وله الشّكر على ما ألهم، والثّناء بما قدّم، من عموم نعمٍ ابتداها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها، جمّ عن الإحصاء عددها، ونأى الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشّكر لاتصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالنّدب إلى أمثالها.
في خضمّ هذه البحار من المعارف والأنوار من الإعتقادات، كيف يبتدء من أراد الحديث بحقّ وإنصاف في تقييم البعد الحقيقي والفهم الواقعي لهذه الكلمات، واستيعاب هذه الرّموز والطّلاسم المعنوية التي لا يفقهها على حقيقتها حتى أرباب الفصاحة والبلاغة، نعم، لا يعرف حقيقة الكلام إلاّ هم، صلوات الله عليهم، هم أمراء
الكلام وهم أصوله، وعليهم وشجت عروقه، وتهدّلت أغصانه، إذن كلّ شيءٍ يعود إلى أمراء الكلام، ولا يفقه الحقيقة هذا البيان إلاّ من كان منهم، صلوات الله عليهم أجمعين، أو عرفهم حقّ معرفتهم.
وبما أنّ الحديث في مجال هذه الخطبة الغرّاء لمولاتنا فاطمة الزّهراء، صلوات الله عليها، متسلسلاً على نهج الموضوعية، نتناول أسرار هذه البيانات وفلسفة هذه الخطابات التي لو انفتح عليها البشر وعقل حقيقتها، لفازوا في الدّارين، وأصبحوا من المقرّبين، فهي عبارة عن جواهر ويواقيت غيبية نزلت على هذه الكرة الأرضية ليحيا من حيّ عن بيّنة، ويهلك من هلك عن بيّنة.
بأي شيء افتتحت الزّهراء (ع) حديثها؟
براعة الإستهلال، افتتحت الكلام بحمد الله والثّناء عليه كما افتتح الحميد سبحانه كتابه المجيد بالحمد في سورة الفاتحة (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين) أرادت أن تجاري كلام الله في أنّ افتتاح الأشياء بعد الاقرار بالإسم الأعظم بسم الله، يكون بحمده والثّناء عليه.
ولا تخفى أسرار الافتتاح بالباء، وما كان تحت الباء(1) من سرّ به ظهرت حقائق الباء وهو النّقطة، والنّقطة عبارة عن الإنسان الكامل، والحقيقة الوجودية المتمثّلة بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) الذي قال: وأنا النّقطة التي تحت الباء ، إشارة إلى أنّ تميّز هذا الحرف وهذا الوجود، حقيقة النّبيّ (ص) إنّما ظهرت بالنقطة، وظهور النّبوّة وحقيقة النّبوّة قد ظهرت بالولاية قال تعالى: (((وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالتهُ)))(2) يعني لا نبوّة، ولا رسالة، ولا سماوات، ولا ديانات ولا شيء في هذا الوجود، إلاّ بابلاغ حقيقة الولاية، فبلّغها، فإن لم تفعل فما كنت نبيّاً وما كنت رسولاً، وما كنت خاتماً للأنبياء والرّسل، وإن لم تفعل فما بلّغت شيئاً ممّا أمرك تعالى به.
__________________________________________
1) ينابيع المودّة (للقندوزي الحنفي): 1/213، 3/212 (دار الأسوة ـ بيروت).
2) المائدة: 67.
إذاً قيمومة النّبوّة، وظهور حقيقة النّبيّ، إنّما هي بنصّ القرآن بالوليّ، (((اليوم أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)))(1) لا ما كان من قبله وما مضى من الأيام وإنّما هذا اليوم، وهو يوم إبلاغ المصطفى الولاية للخلق، فإن لم يكن هذا اليوم ما كانت نبوّة، وما كانت رسالة.
إذاً حقيقة ظهور هذه الرّسالات، إنّما كان بالولاية، وهذا تفسير (وأنا النّقطة) يعني أنا المظهر لحقيقة الباء، لأنّ الباء لو تكتب على مستوى التّدوين، لا تقرأ بقراءة معينة، وإنّما تقرأ تاءً أو ثاءً، وما يظهر لها تعيّن إلاّ أن تضع تحتها النّقطة، فإذا كانت صار بسم الله، أي ظهر كلّ شيء بالولاية العلوية، الذي أظهر بشجاعته، وبقواه، وبمواقفه هذه الحقائق وهذه المعاني، ولذا سخّرت فاطمة (ع) نفسها للدفاع عن الولاية بعد الرّسول (ص) حتى لفظت آخر أنفاسها القدسية شهيدة في سبيل هذا المبدأ العظيم.
أهمّ شيء نستثمره من هذه الكنوز الفاطمية، هو عبارة عن معرفة أنّ فاطمة (ع) كانت حلقة الوصل بين النّبوّة والإمامة، وكانت المدافعة عن حياض الولاية فلولا وقفتها، لما تجلّت الولاية، ذرية بعضها من بعض، أنواراً كانوا بعرش الله محدقين، فلولا وقوف فاطمة ما ظهرت الولاية، ولولا الولاية ما ظهرت النّبوّة المحمّدية.
افتتحت الكلام بحمد الله، ومن هنا نبحث بشكل مختصر حول هذه العبارة (الحمد لله).
فما كتب قديماً وما كتب حديثاً حول كلمة الحمد، كان قاصراً عن درك
الحقائق في هذه العبارة.
__________________________________________
1) المائدة: 3.
من هنا علينا أن نتأمّل بإمعان في كلّ كلمة تفوّهت بها فاطمة (ع)، وكلّ كلمة قد تحتاج إلى عمر كعمر أحدكم، وليس هناك أدنى مبالغة في هذا الكلام، ولا أدنى غلو في تعريف هذه الحقيقة على الإطلاق.
افتتحت الكلام بحمد الله ثمّ الثّناء عليه أثنت كما أثنى هو على نفسه، ثم الصّلاة على محمّد وآل محمّد، والتي أرسلت الصّلوات هي فاطمة (ع)، والذي يستقبلها فاطر فاطمة الذي اشتق اسمها وحقيقة وجودها من الفاطرية، وتنزل على من كان لها قلباً، وكانت له روحاً ـ يعني أبوها رسول الله (ص) ـ.
وإنّها ـ أي، الصّلوات على محمّد وآل محمّد ـ موجّهة إلى فاطمة (ع) نفسها، لأنّها هي المعنية بآل محمد (ص)، وهنا يعجز الإنسان عن أن يبيّن فقه هذه الصّلوات الرّبانية وأسرارها (اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد) عبر قوله تبارك وتعالى: (((إنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يصلّون على النّبيّ)))(1) دوائر الحق، دائرة الوجوب المطلق، الإحاطة القيومية على التّكوين، الإحاطة القيومية على التّشريع هو الحيّ القيوم، وجميع دوائر اللاهوت والجبروت والملكوت، (يا أيها الذين آمنوا) في النّاسوت، كُلّهم مشغولون في كلّ آن، حتى ربّ العالمين يصلّون على النّبيّ محمّد وآل محمّد.
والصّلاة لا تكون مقبولة عند الحقّ من الخلق وأولي العزم والأنبياء والرّسل، إذا لم يضمّ إليها ذكر الآل، وهذا كلام الله تعالى نطق به رسوله المصطفى، لا تقبل صلاة إلاّ أن تكون بهذه الكيفية: (اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد) .(2)
وفي رواية أنّ النّبيّ (ص) قال: لا تصلّوا عليّ الصّلاة البتراء. قالوا: وما
__________________________________________
1) الأحزاب: 56.
2) أنظر الصّواعق المحرقة (لابن حجر): 146.
الصّلاة البتراء يا رسول الله؟ قال: تقولون: اللهمّ صلّ على محمّد وتسكتون، بل قولوا: اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد .(1) وفاطمة من المعنيين بها.
بدأت خطابها بباء البسملة، وهذا السّرّ الأوّل، ثمّ الحمد وهي مرتبة ليس فوقها مرتبة، وصاحب لواء الحمد سيتضح من هو، هذا التّسلسل الرّتبي في بداية خطابها ابتداء من العليّ الأعلى ومروراً برسول الله (ص) وهكذا بالدّوائر الأخرى بعد رسول الله (ص).
ثمّ بعد أن قالت هذهِ الكلمات، عاد القوم في بكائهم، أي رجع التّأثيرُ والتّسلّط التّام للحقيقة الفاطمية على الموجودات، وإذا بالقوم عادوا في بكائهم، فلمّا أمسكوا قالت الصّدّيقة الكبرى، محور التّكوين والتّشريع، وعلى معرفتها دارت القرون الأولى كما يقول صادق الآل، صلوات الله عليهم .(2) قالت: الحمد لله على ما أنعم، وله الشّكر على ما ألهم.
ما المراد بالحمد؟ وما المراد بالشّكر؟
لو بحثنا في كتب اللّغة لم نجد تفسيراً شافياً لمثل هذه المفردات، إلاّ بهذه العبارة الواحدة:
الحمد: الشّكر، والشّكر: الثّناء، أكثر من هذا قد لا يفسر لك، لأنّ البيان من خلال الألفاظ إنّما هو بالألفاظ الأخرى المرادفة لا أكثر، والذي يسمّى شرح الكلمة كما يعبرون.
ما هي حقيقة الحمد؟ ومن هو الحامد؟ وما هي مرتبة الحمد؟ وكيف يكون الحامدون يوم يعرضون على ربّهم؟
__________________________________________
1) أنظر ينابيع المودّة: 1/37 و2/434، جواهر العقدين: 498، الصّواعق المحرقة: 146.
2) أورد الشّيخ الطّوسي في أماليه: 668 المجلس 36ح1399. عن أبي بصير، عن الإمام الصادق (ع) قال: إنّ الله تعالى أمهر فاطمة (ع) ربع الدّنيا، أمهر الجنّة والنّار... وهي الصّديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى. عنه بحار الأنوار: 43/105.
كلّ ذلك تبيّنه فاطمة الزّهراء، صلوات الله عليها، بقولها: الحمد لله على ما أنعم، أرادت أن تبيّن بهذه الكلمة أنّ الوجود وما فيه إنّما هو متوجّه وسائر وسالك إلى حقيقة الحمد، والحمد يكشف عن المقامات التي يعترف لها الخلق، لأنّ الحمد على ماذا؟ الحمد على النّعمة، وما المقصود بالنّعمة؟ (((لَتُسألنّ يَومَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ))) .(1)
روي عن محمّد بن السّائب الكلبي أنّه قال: لما قدم الصّادق (ع) العراق نزل الحيرة، فدخل عليه أبو حنيفة وسأله مسائل... إلى أن قال أبو حنيفة: أخبرني جعلت فداك عن قول الله عزَّ وجلَّ (((ثمَّ لتسئلن يومئذٍ عن النّعيم))) قال: فما هو عندك يا أبا حنيفة؟ قال: الأمن في السّرب وصحّة البدن والقوت الحاضر. فقال: يا أبا حنيفة، لئن وقفك الله وأوقفك يوم القيامة حتى يسألك عن كلّ أكلة أكلتها وشربة شربتها ليطولنَّ وقوفك! قال: فما النّعيم جعلت فداك؟ قال: النّعيم نحن، الذين أنقذ الله النّاس بنا من الضّلالة، وبصّرهم بنا من العمى، وعلّمهم بنا من الجهل ...(2) وهذا أمر مبرهن عليه من القرآن الكريم، أنظر الزّيارة الجامعة: (أولياء النّعم) أي ما من نعمة إلاّ ومنشأ تلك النّعمة هم () أي لا يتحقق لك شيء، ولا يظهر لك شيء في الوجود، إذا لم توضع عليه بصمات الآل ()، فبهم ظهرت النّعم، وبهم تجلّت هذه الحقائق الوجودية، لأنّهم أفضل خلق الله باجماع العقلاء إلاّ من شذّ من الجاحدين، ولذا تجد عبارة القرآن الكريم واضحة: (((وَمَا خَلَقْتَ الجِنَّ والإنسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ)))(3) . فمن هو أفضل منهم عبادة؟ ومن هو أكثر منهم تقرّباً؟
إذاً ما خلق شيئاً إلاّ لهذه الغاية، وهي العبادة، وبالمحصّل هم المصداق الأتمّ للعبادة التّامّة، فكلّ شيء مخلوق لهم، وهذه حقيقة أقرّها حديث الكساء: (ما خلقت سماء مبنية،
__________________________________________
1) التّكاثر: 8.
2) تأويل الآيات الظّاهرة للاستر آبادي: 817 (جامعة مدرسين ـ قم).
3) الذّاريات: 56.
ولا أرضاً مدحية، ولا قمراً منيراً، ولا شمساً مضيئة إلا لأجل هؤلاء)(1) والزّهراء تريد أن تؤكد هذه النّعمة.
فالحمد ذُكِر له معنىً لم أعثر عليه إلاّ في بعض الكتب التي أدّت حقيقة الحمد واقعاً، وإلاّ في كتب اللغة والتّفاسير لم يذكر تعريفاً واضحاً، جامعاً مانعاً.
حقيقة الحمد هي: (أن تبرز الفقر التّام في كمال هذه النّعم التي تجلّت بالإسم الأعظم) تجلّت لنا بهم، فما كان الحامد إلاّ وهو يقرّ بالفضل للإسم الأعظم، ويقرّ ويعترف بتمامية هذه النّعم التي تجلّت بهم ()، وهذه هي حقيقة الحمد.
وفرقه عن الشّكر، هو أنّ الشّكر على ما ألهم، بينما الحمد بذاته مطلوب، وإنّما تحمد الله يعني تقرّله وتعترف، وتبرز فقرك التّام قبال ما أنعم عليك من نعم، يعني الإعتراف ليس فقط مجرد ثناء. لاحظ في كتب اللّغة مثل ابن منظور وأمثاله عندما يأتي لبيان معنى الحمد يقول: الثّناء ،(2) ما معنى الثّناء؟ هذا تعريف غير جامع مانع؛ لأنّه لابدّ أن يكون التعريف بالأوضح لا بالأخفى أو بالمساوي أو بالأعم أو بالأخص كما يعبر المناطقة، فعندما تقول: الحمد لله، تبرز اعترافك وإقرارك وإذعانك لتمامية النّعم النّازلة.
وسبوغ آلاء أسداها، السّبوغ يعني: (النّعمة التّامّة التي لا تجد فيها فطوراً) . (3)
قال تعالى: (((الّذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرّحْمنِ مِن تَفاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَل تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمّ أرْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ
إليك البَصَرُ خَاسِئاً وَهوَ حَسِيرٌ)))(4)
فالآلاء هي: النّعم التّامّة الشّاملة. أسداها: يعني اعطاها، وآتاكم من كلّ ما سألتموه وحتى ما لم تسألوه، وأعطى من يعرفه ومن لا يعرفه تحنّناً منه ورحمة. فالشّكر إذاً يتعلق بما يرد
__________________________________________
1) عوالم فاطمة الزّهراء (ع) للبحراني: 2/923.
2) لسان العرب: 3/314 (مادة حمد).
3) فطر الشّيء يفطره فطراً، يعني / شقّة. انظر لسان العرب: 10/285 (مادة فطر).
4) الملك: 3- 4.
عليك من صفات العلم والمعرفة وما إلى ذلك، أمّا الحمد فهو مطلوب على أُس النّعم، وهي النّعمة الكبرى الباطنة والظّاهرة، وإنّما قبل الخلق، وهذا المعنى جارٍ في القرآن الكريم، وهو مطلب دقيق، وكان هذا لغزاً في الوجود ومن الأسرار.
انظر سورة الرّحمن بدايتها أسرار وألغاز عجيبة (((الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ )))(1) . احتار المفسرون والمفكرون والعارفون بهذه الآيات، يقولون: إنّ التّسلسل الرّتبي يقتضي أن يخلق الله سبحانه الإنسان أوّلاً، ثمّ يعلّمه القرآن، فلماذا قدّم تعليم القرآن على خلق الإنسان؟ وهنا حارت العقول، وكلّ سلك وادياً، وأجابوا بإجابات عجيبة وغريبة.
ولكن انظر للمعرفة الحقّة في كلمة الزّهراء (ع)، تريد أن تبيّن أن نسق خطابها نسق سورة الرّحمن، ألفت نظركم إلى هذا الجواب، إنّ المراد هنا بتعليم القرآن هو: عبارة عن أنّ تكامل الإنسان وحقيقة وجوده هو بتعليم القرآن، يعني ا يكون الإنسان إنساناً في هذا العالم، ولا يكون له وجود إلاّ بتعليم القرآن، لذا كان آدم الأوّل معلّماً، ثمّ كان إنساناً، ولذا يقول القرآن: (((وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا)))(2) مثلاً إنّ الأستاذ متى يكون أستاذاً؟ عند التّعلم، فإذا تعلّم أُطلق عليه أستاذاً.
إذاً التّعليم يسبق التّسمية، وكذلك في ما نحن فيه من الآيات، يريد أن يقول بأنّ الإنسان ليس إنساناً، لربّما كان الإنسان أسوأ من الأنعام (((إِنْ هُمْ إِلا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)))(3) يعني حقيقة الإنسان الّتي تمحّضت بالقرآن الكريم لابدّ أن يكون إطلاق التّسمية عليه بعد تعلم القرآن، وأمّا قبل ذلك فهو ليس بإنسان؛ لأنّ الإنسان ليس لحماً وعظماً وشكلاً
__________________________________________
1) الرّحمن: 1- 4.
2) البقرة: 31.
3) الفرقان: 44.
وما أشبه، بل هذه كُلّها مظاهر، انّما حقيقة الإنسان أن يكون عارفاً بكتاب الله، فإذا كان كذلك قدّم التّعليم على خلق الإنسان، وهذا أحسن بيان يصور لنا تفسير هذه الكلمات.
من عموم نعم إبتداها: يعني قبل أن يخلق الإنسان هيّأ له النّعم، وما كانت هذه إلاّ لإنسانيته، وعبوديته وفنائه في ذات الله وآل الله، فقدّم لكم نعماً هو إبتداها قبل أن تكونوا، وهذا على غرار قوله تعالى: (((الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)))(1) ، يعني ليس فقط علّمه القرآن، بل لابد أن يكون له شأن البيان لمعارف الحقّ.
وتمام منن والاها: يعني منةً بعد منةٍ، إشراقة بعد إشراقة، رحمة بعد رحمة.
والاها: أي بمعنى، كانت متوالية دون انقطاع، وبلا استحقاق ولهذا ورد في الدّعاء عن الإمام الحُجّة (ع).
"يا مبتدئاً بالنّعم قبل استحقاقها"(2) : يعني قبل أن تستحق هذه النّعمة بعمل أو ما أشبه، الله جعل لك كلّ شيء، وأظهر لك كلّ شيء.
جمّ عن الإحصاء عددها، الجمّ بمعنى الكثير.
ونأى عن الجزاء أمدها: نأى: أي بعد، عن الجزاء أمدها: يعني لا يمكن أن تجازى هذه النّعم.
وتفاوت عن الإدراك أبدها: هل يمكن للإنسان أن يبتدئ عدّ النّعم وينتهي عند درجة الإحصاء التّامّ؟
وندبهم لإستزادتها بالشّكر لإتصالها: ندبهم الحقّ بأن يزيد عليهم النّعمة تلو النّعمة بالشّكر لاتصالها، فلا تنقطع عنهم قال تعالى: (((لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ)))(3).
__________________________________________
1) الرحمن: 1- 4.
2) انظر بحار الأنوار: 51 / 305، ضياء الصّالحين: 26.
3) إبراهيم: 7.
واستحمد إلى الخلائق بإجزالها: أي طلب من الخلائق الحمد.
بإجزالها: أي باعطائها نعمة تلو النّعمة.
وثنى بالنّدب إلى أمثالها: وهي واضحة لما في النّدب منه تعالى من آثار في حياة الحامدين.
هذه الكلمات والخطابات الّتي أطلقتها بضعة المصطفى (ص) فاطمة، صلوات الله عليها، لتعظ القوم في أتمّ خطاب، حكت المصطفى به وحكاها، وهي الحُجّة بلا إشكال، وهي المعصومة بنصّ القرآن، فكلّ كلامها حُجّة على الخلائق ككلام رسول الله (ص).
نحن عندنا مصادر الإستنباط أربعة: الكتاب، والسّنّة، والإجماع، والعقل.
المراد بالسّنة: قول المعصوم وفعله وتقريره. وإنّ فاطمة صلوات الله عليها من المعصومين (عليهم السّلام)؛ فقولها وفعلها وتقريرها حُجّة بلا إشكال، ودليل هذا في كتاب الله تعالى إذ يقول عزّ من قائل (((إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)))(1).
__________________________________________
1) الأحزاب: 33
أسرار الخطبة الغراء
لمولاتنا فاطمة الزهراء (عليها السّلام)
تأليف
سماحة العلامة الدکتور الشيخ عبد الکريم العقيلي دام ظله
نسالكم الدعاء