يا هشام أصلح أيّامك الذي هو أمامك، فانظر أي يوم هو وأعدّ له الجواب، فانك موقوف ومسؤول. وخذ موعظتك من الدهر وأهله، فانّ الدهر طويلة قصيرة فاعمل كأنك ترى ثواب عملك لتكون أطمع في ذلك. واعقل عن الله وانظر في تصرف الدّهر وأحواله، فانّ ما هو آت من الدنيا، كما ولّى منها، فاعتبر بها.
وقال علي بن الحسين ((عليهما السلام)) : « انّ جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الارض ومغاربها بحرها وبرّها وسهلها وجبلها عند وليّ من أولياء الله وأهل المعرفة بحق الله كفيء الظلال ـ ثم قال (()): أَوَلا حرّ يدع ( هذه ) اللمّاظة لاهلها ـ يعني الدنيا ـ فليس لانفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها بغيرها، فإنّه من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس » .
يا هشام انّ كل الناس يبصر النجوم ولكن لا يهتدي بها إلاّ من يعرف مجاريها ومنازلها. وكذلك أنتم تدرسون الحكمة ولكن لا يهتدي بها منكم إلاّ من عمل بها.
يا هشام انّ المسيح (()) قال للحواريين : « يا عبيد السوء يهولكم طول النّخلة »وتذكرون شوكها ومؤونة مراقيها وتنسون طيب ثمرها ومرافقها.
كذلك تذكرون مؤونة عمل الآخرة فيطول عليكم أمده وتنسون ما تفضون اليه من نعيمها ونورها وثمرها. يا عبيد السوء نقّوا القمح وطيّبوه وأدقّوا طحنه تجدوا طعمه ويهنئكم أكله، كذلك فأخلصوا الايمان وأكملوه تجدوا حلاوته وينفعكم غبّه بحقّ أقول لكم : لو وجدتم سراجاً يتوقد بالقطران في ليلة مظلمة لاستضأتم به ولم يمنعكم منه ريح نتنه. كذلك ينبغي لكم أن تأخذوا الحكمة ممن وجدتموها معه ولا يمنعكم منه سوء رغبته فيها.
يا عبيد الدنيا بحق أقول لكم: لا تدركون شرف الآخرة إلاّ بترك ما تحبون، فلا تنظروا بالتوبة غداً، فانّ دون غد يوماً وليلةً وقضاء الله فيهما يغدوا ويروح.
بحقّ أقول لكم: انّ من ليس عليه دين من الناس أروح وأقل همّاً ممّن عليه الدين وان أحسن القضاء، وكذلك من لم يعمل الخطيئة أروح هماً ممن عمل الخطيئة وان أخلص التوبة وأناب. وانّ صغار الذنوب ومحقراتها من مكائد ابليس ، يحقّرها لكم ويصغّرها في أعينكم فتجتمع وتكثر فتحيط بكم.
بحقّ أقول لكم: انّ الناس في الحكمة رجلان: فرجلٌ أتقنها بقوله وصدّقهابفعله. ورجل أتقنها بقوله وضيّعها بسوء فعله، فشتان بينهما، فطوبى للعلماء بالفعلوويل للعلماء بالقول.
يا عبيد السوء اتّخذوا مساجد ربّكم سجوناً لاجسادكم وجباهكم. واجعلوا قلوبكم بيوتاً للتقوى ولا تجعلوا قلوبكم مأوىً للشهوات.
انّ أجزعكم عند البلاء لاشدّكم حبّاً للدنيا. وانّ أصبركم على البلاء لازهدكم في الدنيا.
يا عبيد السوء لا تكونوا شبيهاً بالحداء الخاطفة ولا بالثعالب الخادعة ولا بالذئاب الغادرة ولا بالاُسُد العاتية كما تفعل بالفرائس كذلك تفعلون بالناس، فريقاً تخطفون وفريقاً تخدعون وفريقاً تغدرون بهم.
بحق أقول لكم: لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحاً وباطنه فاسداً. كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم. وما يغني عنكم أن تنقّوا جلودكم وقلوبكم دنسة. لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة. كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغلّ في صدوركم.
يا عبيد الدنيا انّما مثلكم مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه.
يابني اسرائيل زاحموا العلماء في مجالسهم ولو جثوّاً على الركب، فانّ الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يحيي الارض الميتة بوابل المطر.
يا هشام مكتوب في الإنجيل « طوبى للمتراحمين، أولئك المرحمون يوم القيامة طوبى للمصلحين بين الناس، أولئك هم المقربون يوم القيامة، طوبى للمطهّرة قلوبهم، أولئك هم المتقون يوم القيامة، طوبى للمتواضعين في الدنيا، أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة ».
يا هشام قلّة المنطق حكم عظيم، فعليكم بالصمت، فانّه دعة حسنة وقلّة وزر وخفّة من الذنوب. فحصنوا باب الحلم، فانّ بابه الصبر، وانّ الله عزّوجلّ يبغض الضحّاك من غيرعجب والمشّاء الى غير أرب ويجب على الوالي أن يكون كالراعي لا يغفل عن رعيته ولا يتكبر عليهم. فاستحيوا من الله في سرائركم، كما تستحيون من الناس في علانيتكم . واعلموا انّ الكلمة من الحكمة ضالّة المؤمن، فعليكم بالعلم قبل أن يرفع ورفعه غيبة عالمكم بين أظهركم.
يا هشام تعلم من العلم ما جهلت . وعلّم الجاهل ممّا علّمت. عظّم العالم لعلمه ودع منازعته. وصغّر الجاهل لجهله ولا تطرده ولكن قرّبه وعلّمه.
يا هشام انّ كل نعمة عجزت عن شكرها بمنزلة سيئة تؤاخذ بها. وقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : « انّ لله عباداً كسرت قلوبهم خشيته فأسكتتهم عن المنطق وانّهم لفصحاء عقلاء، يستبقون الى الله بالاعمال الزكيّة، لا يستكثرون له الكثير ولا يرضون لهم من أنفسهم بالقليل، يرون في أنفسهم أنهم أشرار وأ نّهم لاكياس وأبرار ».
يا هشام الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنّة والبذاء من الجفاء والجفاءفي النار .
يا هشام المتكلّمون ثلاثة: فرابح وسالم وشاجب، فأما الرابح فالذاكر لله وأمّا السالم فالساكت، وأمّا الشاجب فالذي يخوض في الباطل، انّ الله حرّم الجنة على كلّ فاحش بذيء قليل الحياء لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه. وكان أبو ذرّ ـ رضي الله عنه ـ يقول : « يا مبتغي العلم انّ هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شر، فاختم على فيك كما تختم على ذهبك وورقك ».
يا هشام بئس العبد يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطري أخاه إذا شاهده ويأكله إذا غاب عنه، إنّ أُعطي حسده وان ابتلي خذله. انّ اسرع الخير ثواباً البرّ، وأسرع الشر عقوبة البغي. وانّ شر عباد الله من تكره مجالسته لفحشه. وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد السنتهم. ومن حسن اسلام المرء ترك ما لا يعنيه.
يا هشام لا يكون الرجل مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً. ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو.
يا هشام قال الله جلّ وعزّ: وعزّتي وجلالي وعظمتي وقدرتي وبهائي وعلوّي في مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه إلاّ جعلت الغنى في نفسه. وهمّه في آخرته . وكففت عليه (في) ضيعته وضمّنت السماوات والأرض رزقه وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر.
يا هشام الغضب مفتاح الشر وأكمل المؤمنين ايماناً أحسنهم خلقاً، وان خالطت الناس فان استطعت ان لا تخالط أحداً منهم إلاّ من كانت يدك عليه العليا فافعل.
يا هشام عليك بالرفق، فانّ الرفق يُمنٌ والخرق شُؤمٌ، انّ الرفق والبرّ وحسن الخلق يعمر الدّيار ويزيد في الرزق .
يا هشام قول الله : (هل جزاء الاحسان إلاّ الاحسان) جرت في المؤمن والكافر والبرّ والفاجر. من صنع اليه معروف فعليه أن يكافئ به ، وليست المكافأة أن تصنع
يا هشام انّ الزّرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا. فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار، لانّ الله جعل التواضع آلة العقل وجعل التكبّر من آله الجهل، ألم تعلم أنّ من شمخ إلى السقف برأسه شجّه. ومن خفض رأسه استظلّ تحته وأكنّه. وكذلك من لم يتواضع لله خفضه الله ومن تواضع لله رفعه.
يا هشام ما أقبح الفقر بعد الغنى، وأقبح الخطيئة بعد النسك، وأقبح من ذلك العابد لله ثم يترك عبادته.
يا هشام لا خير في العيش الا لرجلين: لمستمع واع، وعالم ناطق.
يا هشام ما قسّم بين العباد أفضل من العقل، نوم العاقل أفضل من سهر الجاهل وما بعث الله نبياً إلاّ عاقلا حتى يكون عقله أفضل من جميع جهد المجتهدين وما أدّى العبد فريضة من فرائض الله حتى عقل عنه.
يا هشام قال رسول الله (()) : « اذا رأيتم المؤمن صموتاً فادنوا منه، فإنه يلقي الحكمة. والمؤمن قليل الكلام كثير العمل والمنافق كثير الكلام قليل العمل ».
يا هشام أوحى الله تعالى إلى داود (()) قل لعبادي: لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدهم عن ذكري وعن طريق محبتي ومناجاتي، أولئك قطاع الطريق من عبادي، انّ أدنى ما أنا صانع بهم أن انزع حلاوة محبتي ومناجاتي من قلوبهم .
يا هشام من تعظّم في نفسه لعنته ملائكة السماء وملائكة الارض. ومن تكبّر على اخوانه واستطال عليهم فقد ضاد الله ومن ادعى ما ليس له فهو ] أ [ عني لغير رشده.