يقول سماحة المرجع السيد الحكيم في (أصول العقيدة) :
-[ 419 ]-
المقصد الخامس
في المعاد
وهو بَعْث النفوس بعد الموت لتنال جزاءَها عمّا اكتَسَبَت في دار الدنيا مِن العقاب والثواب.
وعلى هذا الأمْر تبْتني جميع الأديان السماوية، لِظُهُور أنّ الذي يدعو عامّةَ الناس لاعتناق الدِّين، والالتزامِ بالعمل بأحكامه والجَرْي عليها، هو ابْتِنَاءُ الدين على الجزاء الأخروي، مِن الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية.
ومِن هنا كان التصديق بالدين والإذعان به مُسْتلزِماً للاعتقاد بالبعث والثواب والعقاب، وبذلك صَحَّ عَدُّه مِن أصول الدين.
مضافاً إلى الكمّ الهائل من الآيات الشريفة وأحاديث المعصومين (صلوات الله عليهم) المؤكدة لهذه الحقيقة، بل لكثير مِن تفاصيلها. ويَظْهَر مِن كثير منها لُزُومُ الاعتقاد بذلك.
وحيث ثَبَت في الفصول السابقة حَقِّيَّةُ القرآن المجيد، وصدْقُ
-[ 420 ]-
المعصومين (صلوات الله عليهم)، ولُزومُ الرجوع لهم في الدين، تعَيَّنَ قبولُ ذلك منهم والاعتقاد به.
ويناسب ذلك أمران..
الأول: ما هو المعلوم مِن شُيوع عدم انتصاف المظلوم مِن الظالم في الدنيا، حيث يُنَاسِب ذلك - فِطْرِيّاً - تَحَقُّق الانْتِصاف في دار أخرى غير الدنيا.
الثاني: أنّ الحِكْمة التي تَدْعُو لتشريع الدين(نَفْسُها)تدعو لخَلْق دارٍ للجَزاء فيها بالثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، ليكون ذلك داعِياً لاعْتِناق الدين وتَحَمُّل الصعاب في التزام تعاليمه والجَرْي على أحكامه.
أما العِلْم بِكَوْن الدين حقًّا، وبحكمة المُشَرِّع ومطابقة تشريعاته للمصالح والمفاسد إجْمَالاً أو تفصيلاً، فهو لا يكون داعِياً للعمل بها والجري عليها إلا لخاصّةِ الخاصَّة. والأمْرُ سهلٌ بعد ما سبق.
ما يَجب الاعتقاد به مِن أمْر المعاد
بقي شيء، وهو أنّ ما يجب الاعتقاد به هو أَصْل البعث مِن أجْل جزاء الإنسان على عمله بالثواب والعقاب، أمّا تفاصيله فلا يجب الاعتقاد بها، ولا حَرَج على الغافِل عنها، ولا الشاكّ فيها إذا لم يَكُن شَكُّه راجِعاً لعدم الإذْعَان للأدلة، تَجَاهُلاً لها، كما هو الحال في الشك قبل الفَحْص عن الأدلة، أمّا بعد الإطلاع على الأدلة فلابد مِن الإذعان بمضمونها المتيقن منها إجمالاً أو تفصيلاً.
-[ 421 ]-
بل إنْ كانت ضَرُورِيَّةً مِن الدين تعَيَّنَ الإعْراض عن الشبهات التي تُثَار حوْلها، لأنها حينئذٍ تكون شُبْهة في مُقابِل البديهة.
كَوْن المعاد جِسْمَانِيًا
ومِن ذلك كون المعاد جسمانيّاً لا رُوحَانِيّاً فقط، فإنه هو الصريح مِن الآيات الكريمة، حيث تضمَّنَت الإحياءَ بعد الموت، والبعث والخروج مِن القبور، مع وضوح أنّ الذي يموت ويوضع في القبر هو الجسد دُونَ الروح، كما تضمَّن بعضها إحياءَ العظام.
بل الناظر في القرآن المجيد المسترسل في قراءته يُدْرِك بوضوح أنّ إنكار المنكرين وجدال المجادلين إنما هو في المعاد الجسماني، لاسْتِغْرَابهم إحياءَ الأجساد بعد موتها وتحلُّلِها في الأرض واضمحلالها، بنحوٍ يَظْهَر في المفروغية عن أنّ الحقيقة الدينية المُعْلَنة هي البعث الجسماني، لا بعث الروح وحدها.
أما الأحاديث الشريفة في ذلك فهي أكثر من أن تحصى، وتبلغ دلالتُها حدَّ الصراحة في أصل البعث الجسماني وكثير مِن تفاصيله.
ومجرّدُ الاستبعاد لا يقِف أمامَ هذه الضَّرُورَة الدينية، حيث لا وَجْه له(للاستبعاد) إلا عَدَم كوْن ذلك مَأْلُوفًا، مع وضوح أنّ الله سبحانه قادر على كل شيء، وقد أوجد الأشياءَ بعد العدم، والبعث بعد الموت أهون منه،قال عزّ وجلّ: ((وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلقَهُ قَالَ مَن يُحيي العِظَامَ
-[ 422 ]-
وَهِيَ رَمِيمٌ* قُل يُحيِيهَا الَّذِي أنشَأهَا أوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلقٍ عَلِيمٌ)) (1).
وُقُوع البعث بعد الموت في الدنيا
على أنّ القرآن المجيد قد تضمن وقوع ذلك في الدنيا في موارد كثيرة لدَفْع استغراب هذه الحقيقة، كما في قصة أهل الكهف والرقيم، وطلب إبراهيم (عليه السلام) من الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى، وإحياء عيسى (عليه السلام) الموتى بإذن الله عزّ وجلّ.
وقال تعالى: ((أو كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَريَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أنَّى يُحيِي هَذِهِ اللهُ بَعدَ مَوتِهَا فَأمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَم لَبِثتَ قَالَ لَبِثتُ يَوماً أو بَعضَ يَومٍ قَالَ بَل لَبِثتَ مِائَةَ عَام فَانظُر إلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَم يَتَسَنَّه وَانظُر إلَى حِمَارِكَ وَلِنَجعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُر إلَى العِظَامِ كَيفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكسُوهَا لَحماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أعلَمُ أنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ)) (2).
وقال سبحانه: ((وَإذ قَتَلتُم نَفساً فَادَّارَأتُم فِيهَا وَاللهُ مُخرِجٌ مَا كُنتُم تَكتُمُونَ* فَقُلنَا اضرِبُوهُ بِبَعضِهَا كَذَلِكَ يُحيي اللهُ المَوتَى وَيُرِيكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَعقِلُونَ)) (3)... إلى غير ذلك.
وأما الأحاديث التي تضمنت إحياء الموتى كرامةً للأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم) ومعجزة لهم فهي كثيرة أيضًا، كما يظهر بالرجوع للمصادر المعدة لذلك.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة يس آية: 78ـ79.
(2) سورة البقرة آية: 259.
(3) سورة البقرة آية: 72ـ73.
-[ 423 ]-
كما أنّ ما تناقلته الناس من ذلك في مناسبات مختلفة غير قليل. وذلك كافٍ في رَفْع الاستبعاد. وإنْ كان الأمر أظهر من ذلك.
والحمد لله رب العالمين.