اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
أن الله تبارك وتعالى قد خلق بيد قدرته وحكمته في عالم الغيب وباطن النفس، قوىً لها منافع لا تحصى. وأن ما نبحثه هنا هو ما يتعلق بهذه القوى الثلاث، وهي:"الوهمية والغضبية والشهوانية"، ولكل واحدة من هذه القوى منافع كثيرة من أجل حفظ النوع والشخص وإعمار الدنيا والآخرة كما ذكر ذلك العلماء. ولا حاجة لنا في بيان ذلك في هذه اللحظة، وما يجب أن أنبه عليه في هذا المقام هو أن هذه القوى الثلاث هي منبع جميع الملكات الحسنة والسيئة، وأصل جميع الصور الغيبة الملكوتية. وتفصيل هذا الإجمال هو أن الإنسان كما أن له في هذه الدنيا صورة مُلكيه دنيوية، خلقها الله تبارك وتعالى على كمال الحسن والجمال والتركيب البديع، والتي تتحيّر أمامها عقول جميع الفلاسفة والعظماء، لم يستطع علم معرفة الأعضاء والتشريح حتى الآن أن يتعرف على حقيقتها بصورة صحيحة، وقد ميّزها الله تعالى عن جميع المخلوقات بحسن التقويم وجودة جمال المنظر، كذلك فإن له ـ أي للإنسان ـ صورة وهيئة وشكلاً ملكوتيا غيبياً، وهذه اصورة تابعة لملكات النفس والخلقة الباطنية.
وفي عالم ما بعد الموت ـ سواء في البرزخ أو القيامة ـ إذا كانت خلقه الإنسان في الباطن والمَلَكة والسريرة إنسانية، تكون الصورة الملكوتية له صورة إنسانية أيضاً. وأما إذا لم تكن ملكاته ملكات إنسانية، فصورته ـ في عالم ما بعد الموت ـ تكون غير إنسانية أيضا، وهي تابعة لتلك السريرة والملكة. فمثلا إذا غلبت على باطنه ملكة الشهوة والبهيمية، وأصبح حكم مملكة الباطن حكم البهيمة، كانت صورة الإنسان الملكوتية على صورة إحدى البهائم التي تتلاءم وذلك الخُلُق. وإذا غلبت على باطنه وسريرته ملكة الغضب والسبعية، وكان حكم مملكة الباطن والسريرة حكماً سبعياً، كانت صورته الغيبة الملكوتية صورة أحد السباع والبهائم. وإذا أصبح الوهم والشيطنة هما المَـلَكة، وأصبحت للباطن والسريرة ملكات شيطانية كالخداع والتزوير والنميمة والغيبة، تكون صور ته الغيبة الملكوتية على صورة أحد الشياطين حسب ما يتناسب وتلك الصورة.
ومن الممكن أحياناً أن تتركب الصورة الملكوتية من ملكتين أو عدة ملكات، وفي هذه الحالة لا تكون على صورة أي من الحيوانات، بل تتشكل له صورة غريبة، هذه الصورة بهيئتها المرعبة المدهشة والسيئة المخيفة، لن يكون لها مثيل في هذا العالم.
ينقل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن بعض الناس يحشرون يوم القيامة على صورة تكون أسوأ من صورة القردة، بل وقد تكون لشخص واحد عدة صور في ذلك العالم، لأن العالم لا يضاهي هذا العالم الذي لا يمكن لأي شيء، أن يتقبّل أكثر من صورة واحدة له. وهذا الأمر يتطابق مع البرهان ويكون ثابتا في محله أيضاً.
واعلم أن المعيار لهذه الصورة المختلفة ـ والتي تعد صورة الإنسان واحدة منها، والباقي صور أشياء أخرى ـ هو وقت خروج الروح من هذا الجسد، وظهور مملكة البرزخ، واستيلاء سلطان الآرة، والذي أوله في البرزخ عند خروج الروح من الجسد، فبأية ملكة يخرج بها الإنسان من الدنيا، تتشكل على ضوئها صورته الأخروية، وتراه العين الملكوتية في البرزخ، وهو نفسه أيضا عندما يفتح عينه في برزخه، ينظر إلى نفسه بالصورة التي هو عليها ـ في ذلك العالم ـ إذا كان لديه بصر.
وليس من المحتم أن تكون صورة الإنسان في ذلك العالم على نفس تلك الصورة التي كان عليها في هذه الدنيا. يقول سبحانه وتعالى على لسان البعض: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا). فيأتيه من الله الجواب: (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى).
فيا أيها المسكين؛ قد كانت لديك عين مُلكية ظاهرة البصر، ولكنك في باطنك ومَلكوتك كنت أعمى، وقد أدركت ذلك ـ العمى ـ فعلا. نعم إنك كنت أعمى منذ البداية، ولم تكن لديك عين البصير ة الباطنية التي ترى بها آيات الله.
أيها المسكين؛ أنت ذو قامة متناسقة وصورة جميلة في التركيب المُلكي. ولكن معيار عالم الملكوت والباطن يختلف عن المعايير المادية. عليك أن تحرز الاستقامة الباطنية كي تكون مستقيم القامة في يوم القيامة. يجب أن تكون روحك روحا إنسانية، كي تكون صورتك في عالم البرزخ صورة إنسانية ... أنت تظن أن عالم الغيب والباطن ـ وهو عالم كشف السرائر وظهور الملكات ـ مثل عالم الظاهر والدنيا، حيث يمكن أن يقع الخطأ والالتباس ... إن عينيك وأذنيك ويديك ورجليك وسائر أعضاء جسدك، جميعها، ستشهد عليك بما فعلت بألسنة ملكوتية، بل وبعضها بصور ملكوتية.
أيها العزيز؛ أفتح سمع قلبك، وشدّ حزام الهمّة على وسطك، وأرحم حال مسكنتك، لعلك تستطيع أن تجعل من نفسك إنساناً، وأن تخرج من هذا العالم في صورة إنسان، لتكون عندها من أهل الفلاح والسعادة وحذاري من أن تتصور أن كل م تقوم هو موعظة وخطابة. فهذا كله هو نتيجة أدلّة فلسفية توصّل إليها الحكماء العظام. وثمرة كشف، أنكشف لأصحاب الرياضات، وحصيلة أخبار مأثورة إخبار عن الصادقين والمعصومين .