اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
تلك إذا كرة خاسرة
مجلس لأحد المؤمنين، يفتح في أمسية احد أيام الأسبوع، وعلى مدار السنة. لاستقبال بعض الأخوان، وزمرة من الأصدقاء والجيران. يستمعون خلالها لخطبة المنبر الحسيني، لمدة لا تزيد عن ثلاثة أرباع الساعة. الأرضية مغطاة بالسجاد، من النوع المتوسط من أقصاها إلى أقصاها. ومساند(تكايات) بنفس الجودة، محاذية للجدران الأربعة وعلى مدارها. بالإضافة إلى منبر، ظهره مستند إلى احد الجدران، متوسطا للمكان. مطبخ في احد الزوايا الجانبية، تخزن فيه المشروبات والأغذية. ليتم توزيعها عند نهاية المجلس، على المرتادين. التكييف جيد بعدة وحدات تبريدية، مثبته في الأجزاء العلوية للحوائط، لمقاومة حرارة الطقس.
(أبوحسن) احد ضيوف الحسين(ع)، ومن كبار السن. الذين لا تعجبهم التوجهات الشبابية الجديدة، لتدشين المراسم الحسينية. كبر أولاده، وخرجوا عن حدود السيطرة. وتفرق أخوانه عنه، لعدم وجود توجهات مشتركة. وانفض من حوله الأصدقاء، لعدم توفر مصالح متبادلة. لذا لم يجد ملجأ، إلا هذه المجالس.
رسميا يحضر باكرا دون تأخير، ليجلس في مكانه المعتاد. في مواجهة مكيفة الهواء، ليتمكن من تبريد حرارة مهجته. ولحدة طباعه - وضيق صدره، لا احد يجرأ فيتعدى حدوده ويستولي عليه. وإذا حصل وحدث ذلك، فأنه ينقض عليه، يقطعه بلسانه. ينهال عليه شتما وتجريحا، كأسد يدافع عن عرينه. فلا يخرج الضيف إلا هو يحلف، إلا يعود لمثلها أبدا.
قل أن يبقى مستيقظا، إلى نصف المحاضرة. وفي بقعته تلك وبعد أن تهب عليه النسائم الباردة، يغط في نوم عميق. كدب قابع في مكمنه، يباشر بياته الشتوي. وبارتفاع صوت الخطيب معلنا نهاية موضوعه، وبداية المصرع. يهب مرعوبا فزعا، يبكي بكاء الثكلى، علي من صرع. دون أن يعلم، في أي حزب هو. أمع الحسين(ع)، أم مع عدوه.
لكن ذلك اليوم لم ينم بتاتا، وبقي يقظا حتى نهاية المحاضرة. كجندي شجاع يحرس ثكنته. ولم يكتفي بذلك، بل انتظر حتى جلس الشيخ جانبا. يحتسي بعض فناجين القهوة العربية، ويأكل بعض حبات الرطب. ويسامر ويضاحك الموجودين.
لكون الموضوع هذه المرة يهمه، كما يشغل فكر أكثر الآباء. فانتظر يتطلع إليه بكل لهفة، كتطلع الوليد إلى محالب أمه.
فبادره المحاضر بالسؤال، مستغربا بقائه على غير العادة. هاه ابوحسن، ماذا يدور في رأسك هذا اليوم؟
تكلم بعد اعتدال في جلسته وتنحنحه، وتنظيف بقايا الأكل عن فمه. كمن يحتفظ بجوهرة، يحاول إخراجها من طي الكتمان. والجمع من حوله، ينظرون إلى بعضهم. يتغامزون في ما بينهم، متعجبون من قوته ونشاطه. لم يعرهم كثير أهمية. ورمقهم بطرف عينه، فسكتوا هيبة له.
مضى في حديثه قائلا يا شيخ - تحدثت في محاضرتك عن علي الأكبر ابن الإمام الحسين (ع). وقلت: استرجع الحسين(ع) خلال رحلته، من مكة إلى العراق عدة مرات. قائلا: القوم يسيرون، والمنايا تسير معهم. كأنه يحث مرافقيه لإبداء رأيهم. فقال علي الأكبر: أبه كأنك تنعي نفسك، السنا على الحق؟ أجابه: بلا يا بني. فقال الأكبر: إذا لا نبالي أوقع علينا الموت أم وقعنا عليه.
أضاف المحاضر كأنما يعلم مغزى سؤاله والموضوع يطرقه: ولقرابته من ابن سعد حصل له على الأمان. ولكن ذلك لم يحيد به عن هدفه، ولا عن طاعة والده الإمام.
فاستدرك (ابوحسن) قائلا: وانه لم يقتدي بابيه فقط، بل أشبه جده رسول الله(ص)، أخلاقا وشمائل.
قال الشيخ- نعم هذا ليس قولي، ولكن مأخوذا عن المصادر التاريخية المعتبرة، فما هو سؤالك؟
قال (ابوحسن)- مزريا بنفسه، مستقلا لشخصه. ذلك ابن الحسين(ع)، ابن إمام. كيف بأبنائنا أن يصلوا، إلى مستوى الابن، حتى نصل نحن إلى مستوى الأب. وأخذ ينظر إلى من حوله مبتهجا، كطاووس نافشا ريشه. معتقدا انه قد ألقم الشيخ حجرا.
فقال له الخطيب: لا احد يطلب من ابنك أن يكون علي الأكبر، ولا أنت لتكون الإمام. ولكن تقتدي به في جميع أمور حياتك، قدر استطاعتك. فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها. ولقد نصبه الله، علم هداية - ونور من العماية. فهو من (الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، كما جاء في آخر سورة الحمد.
قال (ابوحسن)- نحن ننصح أبنائنا ونحضهم، على الاقتداء بأهل البيت(ع). ولكن دون فائدة، فنحن في واد وهم في آخر.
فرد عليه الشيخ- ليقتدي بك أبنائك، يتوجب عليك أن تبدأ بنفسك. فتتعلم وتتثقف وتتفقه، فتكون قدوة لهم. وتعليمهم يبدأ منذ أن كانوا أجنة، في بطون أمهاتهم. وتواصل ذلك حتى يستطيعوا الاعتماد على أنفسهم، ومواصلة الدرب دونك. فان العلم لا حدود له، ولا مرفأ يتوقف عنده. كما قال رسول الله (ص) (تعلموا العلم من المهد إلى اللحد. و(اطلبوا العلم ولو في الصين). أما بعد أن شبوا وكبروا، فتعليمهم ممكن، ولكن ليس بتلك السهولة.
عندها تشعب الأمر على (ابوحسن)، وصعب عليه مجارات الشيخ. فلقد تاهت سفنه عن مرفأها، بعد أن شاب رأسه وهرم عقله. فشعر بالحرج، بعد أن دحر في معركته. فسحب نفسه مستسلما ومسلما، منهيا كلامه. يزم شفتيه - ويهز كتفيه استغرابا، من كبر المسئولية. لكن لم ينسى أخذ نصيبه من غنيمة تلك الليلة.
بقلم: حسين نوح مشامع - القطيف، السعودية