اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
طيران الهموم
كلف برحلة عمل إلى جيزان، أقصى الجنوب الغربي من المملكة، للحصول على موعد جلسة قضائية، لدعوى حقوقية أقامتها الشركة ضد احد موظفيها, بعد إصرار قاضي المحكمة على تسليمه إلى وكيل شرعي. ورغم بساطة المهمة وتواضع هدفها، كانت معاناتها وهمومها اكبر منها ومن الوقت المستنفذ فيها. بدء مسار الرحلة من الدمام، لكن معاناتها بدأت في الرياض، مع اخذ عامل الوقت في الاعتبار.
توجه مع صاحبه عصرا يصارعان الزحام ويسابقان الوقت، فوصلا قبل تحليق الطائرة بخمس وأربعين دقيقة. ودعه على عجل معتقدا إسعاف الوقت له وعمله لصالحه، ولكن خاب ضنه برفض الآلة إصدار بطاقة الصعود، كأنها تنذره بالصعوبات القادمة.
اخذ يتنقل من مسؤول إلى آخر ومن مكتب إلى آخر يستجدي العطف ويطلب المساعدة، عل أمل أن تأخذهم به رأفة، ولكن لا حياة لمن تنادي. كل ما سمعه، مع وجود الطائرة على الأرض، ولديه تذكرة مؤكدة، ولا يزال نداء الصعود يصدح منتظرا المغادرين: أقفلت البوابة، وعليك التسجيل انتظارا. مع انسحابه مكسور القلب يجر أذيال الهزيمة والأسى، لم يفقد الأمل من سفره ذلك اليوم، معتقدا أن انتظاره لن يطول ووقوفه لن يدوم.
أصابته الدهشة وعمه الذهول لرؤية ذلك السيل الجارف من البشر، مع قلة من يتوجه لهم وجفاف من يخدمهم. دخل المعمعة لتصل إلى مسامعه مصائب الآخرين، لكن حراجة الموقف لم تسمح له بتسجيلها. فكل لديه قصة يبحث عن من يستمع إليها، ومن يحمل شئ من همها.
بعد طول وقوف سجل اسمه، وابتعد يتلهى لحين وصول الرحمة المرجوة. أقلعت طائرته في السادسة، والثانية في السابعة، وتلتهما الثالثة في الثامنة، والكل يسمع المسؤولين وعلى رؤوس الأشهاد يتكلمون عن جود مقاعد خالية، ولكنها تتبخر كما وجدت. وعند السؤال عنها، يأتي الرد معلبا مجمدا: تلك المقاعد لم تكن تخصكم. وبعد مغادرة الطائرة الأخيرة وعدة مراجعات واستعطاف قيل للجمع المتهالك: يتوجب عليكم الحضور في الحادية عشر ليلا لتسجيل انتظار طائرة السادسة صباحا.
لم يتحمل هذه المماطلة وهذا الوضع المزري، فأخذ يبحث عن حل يهني هذه المعاناة الأليمة. لم يكن لدى شركة الطيران العريقة حل شافي لمصيبته، ولا حجز آخر يبلغه مقصده تلك الليلة. ففقد الثقة بهم ولم يتمكن من المجازفة وتأخير القيام بواجبه، فاضطر للحجز لدى خطوط جوية أخرى، متناسيا أمر التذكرة السابقة حتى حين.
غادر في صبيحة اليوم التالي، وهبط جيزان قرب نصف النهار. فحلق كالطائر من باب الطائرة، وعبر مخرج المطار، مستقلا سيارة أجرة إلى باب المحكمة. حينها لم يكن أمامه إلا ساعة وعشرون دقيقة قبل رحلته المتجهة إلى جدة. فصدم بانتظار جديد لحين خروج القاضي من جلسته الخاصة مع السجناء، التي لا يعرف مدتها. ورغم مرارة انتظار المجهول، اخذ وقت إقلاع الرحلة على الاقتراب سريعا.
خرج الشيخ فجأة من مخدعه، فهب إليه لإنهاء مهمته. فأمر بعد الكشف على مستنداته والتحقق منه صفته بإعطائه موعدا. اخذ الورقة متجها إلى المطار، غير متوقعا السفر لضيق الوقت، ولم يتمكن من الحصول على مقعد على الطائرة التالية كما هو معتادا ومتوقعا، ولم يكن أمامه إلا دوامة الانتظار التي رفض دخولها مهما كلفه ذلك. اشتري تذكرة من الشركة الجديدة، وطار معها آخر ليل ذلك اليوم عائدا إلى الرياض.
كان أمامه خمس ساعات لحين عودته إلى الدمام، لكن خوف الزحام المروري وفكرة التأخر عن موعد المغادرة، جعلته يبحث عن مكان مناسب يستلقي فيه ويمكنه من تحريض سلطان النوم ليصل إلى جفونه. انتقل من كرسي إلى آخر، ومن موقع لآخر، حتى استقر به المقام على بساط للصلاة في آخر ممر، منزوي بعيدا عن مرور الناس وإزعاجهم.
بقلم: حسين نوح مشامع - القطيف، السعودية