اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم واللعن عدوهم .
التنبيه من الغفلة
قال الإمام علي في نهج البلاغة منفرا من الغفلة ومنبها إلى الفرار إلى الله " فإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ، ووهلتم ، وسمعتم وأطعتم ، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا ، وقريب ما يطرح الحجاب ولقد بصرتم إن أبصرتم ، وأسمعتم إن سمعتم ، وهديتم إن هديتم ، وبحق أقول لكم : لقد جاهرتم العبر وزجرتم بما فيه مزدجر . وما يبلغ عن الله بعد رسول السماء إلا البشر " .
من كلمات الإمام الرائعة والتي يحذر فيها من الغفلة وينبه فيها إلى دنو أجل الإنسان وإتمام الحجج الإلهية عليه ، وإتمام تبليغ الرسل برسالة سيد الأنبياء والمرسلين محمد وهي هذه الكلمات النيرة بين أيدينا ونحن من خلال هذه الكلمات المباركة سوف نتطرق إلى الغفلة وسبل علاجها فنقول :
الغفلة :
وهي ركود القلب والجوارح ، وموتها عن التأثير والتأثر ، ويؤكده قوله تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } .
أي أن هؤلاء الغافلين لهم قلوب ولكنها عاطلة عن وظيفتها وهي العقل ، ومن الجدير بالذكر أن المراد من القلب هنا هو العقل . ولهم أعين ولكنها عاطلة عن المعاينة فهم لا يبصرون بها ولا يعتبرون . وهكذا بقية الجوارح فإنها جميعها عاطلة عن وظيفتها الرئيسية وهي استعمالها في طاعة الله تعالى .
وكذلك قول تعالى : { و إن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون إليك ، ولكن لا أثر لهذا النظر حيث أنهم لا ينصاعون لأوامره ولا يستجيبون له .
علاج الغفلة :
أ- المعاينة البصرية :
وهذا النوع متحقق للعالم والجاهل والحيوان ، ولكن مع الفارق ، فالعالم يجعله سببا لتحريك بصيرته وسببا للوصول إلى مرضاة الله . والجاهل والحيوان يؤطرونه في إطار المصلحة والمفسدة أو المنفعة والضرر . فالعالم مثلا عندما ينظر إلى خربة ، يعتبر منها ويتحدث مع نفسه قائلا أين كان أهلها ؟ وأين صاروا ؟ ولمن عمروا ؟ ولماذا عمروا ؟ ولكن الجاهل أول ما يفكر بكيفية الانتفاع منها للدنيا قبل أن يتأمل ولو قليلا بأخذ العبرة منها .
ب- المعاينة البصيرية " القلبية " :
وموردها عباد الله الصالحون وأولياؤه المقربون ، فليس كل إنسان يرى الأمور بالبصيرة والعبرة والتأمل ، فهذه الدنيا مثلها مثل المقرىء للقرآن الكريم فمنهم من يقرؤه لقلقة لسان فقط ، ومنهم من يقرؤه بتأمل وتدبر ، فكذلك الدنيا ،فمن الناس من ينظر إليها بعينه فقط دون أن يعتبر من عبرها ، ومنهم من ينظر إليها بقلبه ويعتبر من عبرها ، دخل واعظ يوما على هارون الرشيد فقال له : عظني ،فقال : يا أمير المؤمنين أترها لو حسبت عنك عند خروجها بم كنت تشتريها ؟ قال : بالنصف الباقي قال : فلا يغرنك ملك قيمته شربة ماء . ومن المعلوم أن من ينظر إليها بقلبه سوف يحصل على ثمار منها :
1- الفرار إلى الله :
{ ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين } وقول السجاد في دعاء أبي حمزة الثمالي
" إليك فررت وبك لذت لا ألوذ بسواك .... "فعندما يرى آثار الماضين والملوك والفراعنة تصل إلى حقيقة بأن الدنيا لا تنفع إلا من اتخذها طريقا للآخرة فسوف يزداد تعلقا بالله تعالى .
2- الأنس بالله والاستحاش من الناس :
كما هو قول الإمام علي " لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة ولا تفرقهم عني وحشة " .
3- الذكر القلبي والجوارحي :
فذكر القلب هو الحب وذكر اللسان هو التنزيه كما قال في دعاء كميل : اللهم اجعل لساني بذكرك لهجا وقلبي بحبك متيما . وذكر الجوارح يعني خدمة المؤمنين وقضاء حوائجهم ، كما ورد في الخبر " الإيمان صنوان طاعة الرحمن وخدمة اخوان " .
ومن المعلوم أن لكل واحدة من أقسام المعاينة نتائج ، والمراد من النتائج هنا غير الآثار التي ذكرناها سابقا فالآثار هي حالة يعيشها الإنسان ، أما النتائج فهي ما يصل إليه الإنسان .
لذا يتحتم علينا ذكر بعض النتائج لكل منها نتيجة المعاينة البصرية دون القلبية :
أ- الحسرة والندامة : كما قال تعالى : { أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله } . فهذا الإنسان الذي لم يعتبر بغيره من أهل الدنيا يجد حسرة يوم القيامة لم يجدها في عالم الدنيا ، ذلك لا نهماكه بملذاتها وخدعها .
ب- طلب الرجعة : كما قال تعالى { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ري ارجعون } ، { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكذبون } . فهو يطلب الرجوع إلى الدنيا ولكن لا فائدة ، ويقول عنه القرآن الكريم واصفا له بالكذب ، بأنه حتى لو أرجعناه لرجع إلى غيه وبغيه .
نتيجة المعاينة القلبية :
1- الاطمئنان : أما ذلك الذي اعتبر من الدنيا وجعلها زاده إلى الآخرة فسوف يحشر يوم القيامة مطمئن النفس كما كان في الدنيا ، ويخاطبه بقوله : { يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية } .
2- الفرحة والاستبشار : كما قال تعالى : { يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } وعباد الله الصالحون لا يستوحشون لأن الله تعالى هو نورهم كما قال في دعاء كميل " يا نور المستوحشين في الظلم " فهم مستبشرون يوم القيامة ولا يشعرون بالوحشة أينما كانوا ، لأن الله تعالى معهم أينما كانوا .
أما أولئك القوم الذين حصروا نظرهم بالمعاينة البصرية فقط . وأقفلوا على عقولهم وقلوبهم ، واتبعوا أهواهم ، من أجل حطام الدنيا وزخرفها وزبرجها ، وتركوا يد علي ممدودة ولم يبايعوا ، ووضعوا أيديهم في أيادي أناس لا خلاق لهم ، وأصموا آذانهم عن شكوى الزهراء واستنصارها .
فأولئك من ختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة .