اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
في قبضة الضمير
شاب في عقده الثالث، ظاهر الوسامة - شديد الأناقة - متماسك الجسم - قوي الشخصية. تاجر ذو شهرة ونفوذ - وثروة وحضور. له عدة شركات متطورة، ومجموعة مشاريع تنموية، بعضها منتهية وجاهزة للاستثمار، والأخرى لا تزال تحت الإنشاء. بيته أشبه بقصور الملوك والأمراء، منه ببيوت التجار ورجال الأعمال. واسعا فسيح الفناء تحوطه حديقة غناء، وسور عال من الرخام الحر، يجعل منه قلعة منيعة. مكون من عدة طوابق، ومجموعة كبيرة من الغرف والصالات، يستقبل فيها ضيوفه وأصدقائه ويوقع مشاريعه. يقف داخله أسطول من أفضل أنواع السيارات، يجددها كل عام. ومع كل ذلك لم يرزقه الله أطفالا يشعلون حياته بشموع العطف والرحمة، مع مرور عشر سنوات من الحياة الزوجية.
ضربته الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي عصفت بالمنطقة والعالم بأسره، فتعرضت مشاريعه إلى أضرارا مادية أنتجت تأخرا في إلاتزاماته أو توقفها. فتنازل أو باع ممتلكاته واحدا تلو الآخر، ليتمكن من المحافظة على اسمه حيا في السوق. وصل دور استلاب زوجته من حليها، فتآمر مع إبليسه وحاك مؤامرته يوعدها بالتعويض، ويحلف لها بأغلظ الأيمان بالوفاء. فلم تستطع مقاومة إلاحاحه، فرفعت علم استسلامها شريطة عدم اقترابه من مضاربات الأسهم، خوفا عليه من الخسارة. فلم يفي بوعده ونسي أيمانه، واخذ يتبجح متشائما منها، ومن عدم حبها لنجاحه وثراءه.
عاد يمارس ضغوطه عليها، في اتجاه الاقتراض من أهلها لتعويض خسارته. لم تستجب لطلباته ولم تخضع لضغوطه، فهددها بالطلاق. ودخل في أزمة نفسية شديدة، وهموم كثيرة يتوجها حب المال، فانقلبت حياته رأس على عقب. لم تعد لديها القدرة على معاشرته، وحياته معها أصبحت جحيما فطالبت بالطلاق، بعد جفاف منابع الحب وطيب العشرة والرحمة في قلبه.
توجه همه إلى الغربة والهجرة، وبداية جديدة في بلد لا يعرفه فيها احد. ولكن كيف يقوم بذلك دون مادة، فتحرك شيطانه يوجهه نحو أملاك أهله الذين نسيهم وقطع الاتصال بهم. ذهب لمقابلة أخيه الأصغر منه سنا - والأقل منه مالا، لكنه أرجح عقلا - وأكثر رحمة بوالديه، يعيش معهما ويقوم على أمرهما. دخل عليه حجرته ليلا قبل مقابلة والديه، وقبل تقبيل يديهما التي طالما حملته واعتنت به. مستغلا بذلك وقت نومهما، وعدم تدخلهما. استغرب وجوده بعد طول الابتعاد، ولكنه رحب به واقبل عليه. لم يطل به المقام حتى حثه شيطانه ليدخل في موضوعه دون مقدمات، فليس لديه وقت ليضيعه فهو في عجلة من أمره. حاول التحكم في عصبيته وإخفاء حدته، ليتمكن من إقناعه بفكرته.
أخي العزيز، لا يخفي عليك وضعي المالي المزري، لذا قررت الهجرة لأتمكن من تعويض خسارتي. - ضحك مستغربا: تعرف دخلي المحدود، الذي جزءه الأكبر يذهب لاعتناء بوالديك العليلين معيشة وعلاجا. - لم اقصد راتبك الذي لا يسد رمقا ولا يبل ريقا، مع التضخم الاقتصادي وارتفاع الأسعار. - ألا ترى بيت والدنا هذا المترامي الأطراف، ذو الموقع المتميز على عدة شوارع، تعرف بكم تقدر قيمته؟ - لا تهمني قيمته، فهو مأوى والدي من عاديات الزمن.
خذ نصيبك وتتزوج قبل اجتياح بياض الثلج بقيت وجهك، تنجب أطفالا ينفخون في حياتك السعادة والحبور، بدل من كونك شجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. واخذ نصيبي استعين به في غربتي، وبدء مشروعي ومستقبل حياتي. - كيف تأخذ حقك من ملك والدنا، وهو لا يزال على قيد الحياة يتصرف به كيف شاء؟!
بدء المكان في الاشتعال وازداد الشيطان عتوا واستكبارا. - إذا وافقتك وجاريتك يا ابن أم، ما هو مصير والدينا وأي سقف سوف يظلهما؟ - يبقيان معك وسوف أقوم بإرسال مصاريفهما حين وصولي هدفي واستقراري. أو تأخذهما أختنا فهي في وضع مادي جيد، وأبوانا لن يدوم مقامهما بيننا أكثر من سنين معدودة، بالنظر إلى وضعهما الصحي. - انتفخت أوداجه وحمرت وجنتاه: أناني لا تحب إلا نفسك ولا تهتم إلا بمصلحتك، ولو لا حاجتك لما رأيناك، عد من حيث أتيت ولا ترنا وجهك. - أتطردني وتشتمني وأنا أخوك الأكبر!
وجد الشيطان ضالته فنفخ في منخريهما، يشجعهما على المسك بخناق بعضهما حد الفتك. فحمل أداة حادة من الأرض، واخذ يضرب رأس أخيه محاولا القضاء عليه. أيقظ صراخهم وعويلهما والديهما، فهبا فزعين من نومهما يحاولان فك الاشتباك. سقط الابن الأصغر يسبح في دمه، ونال الأب طعنة أودت بحياته، وحصلت الأم على نصيبها من الطعن والضرب. نقلوا إلى المشفى بمعاونة الجيران ومعرفتهم، الذين أوجع قلوبهم ما جرى، وأصمت أسماعهم الأصوات التي وصلت إلى عنان السماء. قاومت الأم ملك الموت وأخرت مهمته، حتى تمكنت من تقديم شهادتها على ما جرى. استيقظ من غفوته وارتفعت الغشاوة عن عينيه، فهرب لا يلوي على شئ، ولا يعرف بمن يلوذ وأين يختبأ. ممزقا بين ضمير يؤنبه، وقوة القانون وسطوته تنتظره.
بقلم: حسين نوح مشامع – القطيف، السعودية