اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
أَدَبُ الدُّعَاءِ
ويعني أدب الدعاء رعاية ما يعتبر في الدعاء من شروط واعتبارات ومستحبّات ومرجّحات في الزمان والمكان والكيفية والأحوال وحتى التلفّظ فضلاً عن حالات التوجّه ، ما يجعل الداعي -عندما يدعو مراعيًا هذه الشروط ويكون الدعاء مشتملا عليها- يتسامى إلى آفاق الروحانية والجلال والجمال الروحي والحب الإلهي
والصفاء والنقاء القلبي ، كما يجعل المؤمن يعيش أحاسيسه الروحية وأشواقه القلبية والفكرية مستمتعًا بلحظات القرب والمناجاة ، ويكون في خدمة الله ، وفي أجواء العظمة والجلال والقدرة والافتقار إليه تعالى .
ويشعر أيضًا بأنه لا يردد ألفاظًا وإنما يعيش المفاهيم والمعاني التي تخرج من قلبه وضميره ووجدانه وتتحرك
بها كل جوارحه .وهذه المعاني ليست اجتهادًا وإنما هي مستفادة مما ورد في الكتاب العزيز والسنة الشريفة من آداب الدعاء
وما يعتبر فيه :
( فمن ) جملة ما يعتبر في الدعاء : أن يترصّد الأوقات الشريفة لدعائه ، مثل ليلة الجمعة أو يوم الجمعة ، ويوم عرفة ، والأشهر الثلاثة، شهر رجب
وشهر شعبان وشهر رمضان ، ووقت السحر من ساعات الليل كما قال تعالى {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}( 1).وقد ورد في الحديث : إن الله يُنزل ملكًا إلى السماء الدنيا كل ليلة من الثلث الأخير ، وليلة الجمعة في أول الليل ، فيأمره فينادي : هل من سائل فأعطيه سؤله ! هل من تائب فأتوب عليه ! هل من مستغفر فأغفر له !(2 ).وعن الصادق في قول يعقوب لبنيه {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}، قال : أخّرهم إلى السحر من ليلة الجمعة( 3). وروي عن عمر بن أذينة قال : سمعت أبا عبد الله ع يقول : إن في الليل ساعة ما يوافق فيها عبد مؤمن يصلي ويدعو الله فيها إلا استجاب له ، قلت : أصلحك الله ، وأيّ ساعات الليل ؟ قال : إذا مضى نصف الليل وبقي السدس الأول من أول النصف الثاني( 4) .( ومنها ) : اغتنام الأوقات الشريفة مثل أوقات الصلاة المفروضة عندها أو بعدها ، وما بين الأذان والإقامة ،وفي حال الصوم ، وعند نزول المطر -الغيث- ، وعند زحف الصفوف في سبيل الله .
ورد في الحديث الشريف ، عن زيد الشحّام ، قال : قال أبو عبد الله :
( 1) الذاريات : 18.
( 2) عدة الداعي ، ابن فهد الحلي ، ص40 . المحجة البيضاء : 2/285 .
(3 ) بحار الأنوار : 86/274 ؛ المحجة البيضاء : 2/286 ؛ والآية من سورة يوسف من الآية98.
( 4) بحار الأنوار : 84/167، و90/345 ؛ المحجة البيضاء : 2/286.
اطلبوا الدعاء في أربع ساعات : عند هبوب الرياح ، وزوال الأفياء ، ونزول القطر ، وأول قطرة من دم القتيل
المؤمن ، فإن أبواب السماء تفتح عند هذه الأشياء(1 ). وعن الإمام الصادق ، عن أمير المؤمنين : اغتنموا الدعاء عند أربع : عند قراءة القرآن ، وعند الأذان ، وعند نزول الغيث ، وعند التقاء الصفين للشهادة(2 ) .ولا يبعد أن يكون السجود كذلك ، لما ورد في الحديث : إن أقرب ما يكون العبد من الرب عز وجل
وهو ساجدٌ باكٍ( 3) ، وعن النبي في حديث : وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء( 4) .( ومنها ) : أن يكون في الأماكن المباركة الشريفة مثل المسجد الحرام، ومسجد النبي ، والمشاهد المشرّفة ، فإن للأمكنة والأزمنة والأشخاص خصائص -كما في الحديث الشريف-.( ومنها ) : أن يدعو وهو على طهور ، ويكون مستقبل القبلة ، ويرفع يديه بحيث يُرى باطن إبطيه .
وقد ورد عن أبي عبد الله قال : ما أبرز عبد يده إلى الله العزيز الجبّار إلا استحيى الله تعالى أن يردها صفرًا حتى يجعل فيها من فضل رحمته ما يشاء ،
(1 ) الكافي ، الشيخ الكليني : 2/477 ؛ المحجة البيضاء : 2/287.
(2 ) الكافي : 2/477 ؛ المحجة البيضاء : 2/285 .
(3 ) الكافي : 2/483 ؛ و3/265 .
( 4) جامع أحاديث الشيعة ، البروجردي : 5/219
اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح على وجهه ورأسه( 1).( ومنها ) : خفض الصوت بالدعاء . قال تعالى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}( 2).
وقال تعالى : {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ}(3 ).( ومنها ) : أن يكون على حالٍ من الخضوع والخشوع والتوجّه . قال تعالى : {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}( 4).( ومنها ) : أن يستيقن الإجابة للدعاء ، فعن سلمان بن عمرو ، قال : سمعت أبا عبد الله يقول : إن الله عز وجل لا يستجيب دعاءً بظهر قلب ساهٍ ، فإذا دعوت فأَقْبِلْ بقلبك ثم استيقن الإجابة(5 ).وورد في الحديث عن الصادق : إذا دعوت الله فأقبل بقلبك وظُنَّ حاجتك بالباب(6 ).( ومنها ) : الإلحاح بالدعاء وتكرار الدعاء ، فعن الباقر قال : والله لا يلحّ عبد مؤمنعلى الله عز وجل في حاجته إلا قضاها له(7 ).
(1 ) الكافي : 2/471 ؛ المحجة البيضاء : 2/289 .
( 2) الأعراف : 55 .
( 3) الأعراف : من الآية 205.
( 4) الأنبياء : من الآية 90 .
(5 ) الكافي ، الكليني : 2/473 ، باب الإقبال على الدعاء ، ح1.
( 6) المصدر السابق نفسه ، ح3.
( 7) المصدر السابق ، ص475 ، باب الإلحاح في
اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
وعن الصادق ع: إن العبد إذا دعا لم يزل الله تبارك وتعالى في حاجته ما لم يستعجل( 1).(ومنها ) : أن يفتتح الدعاء بذكر الله والثناء عليه والحمد لله والصلاة على النبي وآله .وعن الحارث بن مغيرة ، قال : سمعت أبا عبد الله يقول : إياكم إذا أراد أن يسأل أحدكم من ربه شيئًا من حوائج الدنيا والآخرة حتى يبدأ بالثناء على الله عز وجل والمدح له والصلاة على النبي ، ثم يسأل
الله حوائجه( 2).وقد ذكروا أدعية خاصة في الثناء والمدح لله ، فلتراجع في محلها .( ومنها ) : أن لا يُدخل بطنه الحرام ، ويحاول أن يكون من حلال ، ولا يكون لأحد قِبَله مظلمة . فعن النبي : من أحبّ أن يستجاب دعاؤه فليُطِيّب مطعمه ومكسبه.وعنه أنه قال لمن قال له أحبّ أن يُستجاب دعائي : طَهِّر مأكلك ولا تُدخل بطنك الحرام( 3). وعنه : أوحى الله إليّ أن يا أخا المرسلين ويا أخا المنذرين ، أنذر قومك ، لا يَدْخُلوا بيتًا من بيوتي ولأحد من عبادي عند أحد منهم مظلمة ، فإني ألعنه ما دام قائمًا يصلي بين يديّ حتى
الدعاء والتلبّث ، ح3 .
( 1) المصدر السابق ، ص474 ، ح1 .
(2 ) الوسائل : 7/79 ب31 من أبواب الدعاء ح1 ؛ جامع أحاديث الشيعة : 15/228 باختلاف.
( 3) بحار الأنوار : 90/372 ؛ وباختلاف يسير الوسائل : 7/84 ب32 من أبواب الدعاء ح2.
يردّ تلك المظلمة .. الحديث( 1).( ومنها ) : أن يسمّي حاجته ، فقد ورد في الحديث قال الصادق ع : إن الله تبارك وتعالى يعلم ما يريد العبد إذا دعاه ولكنه يحبّ أن تُبَثَّ إليه الحوائج ، فإذا دعوت فسمِّ حاجتك( 2).( ومنها ) : تعميم الدعاء ، أي يدعو بصيغة العموم لجميع المؤمنين ولا يخصص نفسه .( ومنها ) : الاجتماع على الدعاء ، بأن يكون الدعاء في جمع من المؤمنين وكلهم يدعون ، أو يدعو أحدهم والباقون يُؤَمّنون .( ومنها ) : البكاء . وقيل إنه سيد الآداب ، لما يؤكده من رقة القلب ومن التوجّه إلى الله سبحانه وتأكيد الإخلاص الذي تحصل عنده الإجابة .قال الصادق ع : إذا اقشعرّ جلدك ودمعت عيناك ، ووجل قلبك، فدونك دونك فقد قصد قصدك( 3).أي عليك بالدعاء والطلب فإن الإجابة قريبة وتحققت آمالك .وفضل البكاء عظيم في هذه المقامات ومقامات الذكر والتوجّه إلى الله سبحانه ، وكم من دمعة بين يدي الله سبحانه تزيل جبالاً عظيمة من الذنوب والآثام والخطايا ، بل بحارًا عظيمة منها ،
( 1) عدة الداعي ، ابن فهد الحلي ، ص129 ؛ المحجة البيضاء : 2/301 .
( 2 الكافي ، الكليني : 2/476 ، باب تسمية الحاجة .
(3 ) الخصال ، الصدوق ، ص82 ، ح6.
اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
وكم من دمعة تطفئ غضب الربّ .( ومنها ) : الإقرار بالذنوب ، وذلك لما فيه من الانقطاع إلى الله سبحانه والتذلل بين يديه والانكسار له ، والله تعالى عند القلوب المنكسرة والنفوس المستكينة ، كما أن الإقرار يجسّد حالة البؤس والافتقار الروحي، فيكون في نفس الوقت تجديدًا للانطلاقة مع الهدى والاعتصام بالله وطلب التوفيق للتوبة والإنابة .(وأخيرًا ) : أنقل هذه الرواية التي تؤكد ضرورة رعاية أدب الدعـاء ، قال مولانا الصادق × : احفظ آداب الدعاء ، وانظر من تدعو ، وكيف تدعو ، ولماذا تدعو، وحقِّق عظمة الله وكبرياءه ، وعاين بقلبك علمه بما في ضميرك ، واطّلاعه على سرّك ، وما يكن فيه من الحق والباطل ، واعرف طرق نجاتك وهلاكك كيلا تدعو الله بشيء منه [عسى فيه] هلاكك وأنت تظن فيه نجاتك ، قال الله عز وجل : {وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولاً}، وتفكّر ماذا تسأل ، وكم تسأل ، ولماذا تسأل ؟ والدعاء استجابة الكل منك للحق ، وتذويب المهجة في مشاهد الرب ، وترك الاختيار جميعًا، وتسليم الأمور كلها ظاهرًا وباطنًا إلى الله ، فإن لم تأتِ بشرط الدعاء فلا تنتظر الإجابة ... الحديث( 1).وقد أطلت الحديث في ذكر الآداب التي
( 1) رواها العلامة المجلسي رض في بحار الأوار : 90/322 عن مصباح الشريعة المنسوب للصادق ع؛
المحجة البيضاء : 2/308
يتبع
اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
ذكرها العلماء والفضلاء وأهل المعرفة والأخلاق في مجاميعهم العرفانية والأخلاقية ، وفي كتب الحديث التي تضمنت ذكر الأدعية وآثارها وأنواعها ، وإنماتعرّضت لذكر هذه المعاني لكي أضع الداعي في أجواء الدعاء الصحيح ، فإن الله سبحانه وتعالى يقول : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}( 2)، ويقول تعالى : {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ}(1 ). فإن الدعاء الذي وعد الحق سبحانه بالإجابة عليه هو ما يصدق عليه أنه دعاء حقيقة ، وهو في الغالب ما كان متضمنًا لهذه الشروط والاعتبارات التي ذكرناها والتي يؤيدها قول الصادق ع : احفظ آداب الدعاء .. الحديث ، فتلك الآداب ضمانة أكيدة للإجابة
. وإن كان الدعاء يمكن أن يحصل ويتحقق بدونها ، خصوصًا إذا كان الداعي على حالٍ من التوجّه إلى الله سبحانه والانقطاع إليه والتذلّل والخضوع والخشوع له ، فإن الدعاء عندئذٍ لا بد من إجابته ، والله الموفّق .إن الله تعالى قريب من عباده قربًا حقيقيًا –وإن لم يكن قُربًا مكانيًا لأنه يستحيل عليه القرب المكاني- ، وهذا القرب هو ما يتجلّى في روح الإنسان من التوجه الكامل والانقطاع إليه تعالى والتفاني في خدمته
بحيث لا يجد سواه ولا يعرف غيره ، ولذلك عندما يدعو
( 1) البقرة : من الآية 186 .
( 2) الفرقان : من الآية 77 .
اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
العبد يُحسّ إحساسًا ذاتيًا بالقرب ، ويدرك أن الله يسمع دعاءه ونداءه . فقد ورد أن الله سبحانه إذا أقبلعلى عبده كان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يضرب بها(1 ). نعم عندما تنعكس آفاق الإنسان وتوجّهاته سلبًا في مجالاته الروحانية والجمالية والكمالية تصبح حجبًا بينه وبين الله سبحانه وتعالى .إن الدعاء من أقرب الوسائل إلى الله والوسائط بين العبد وربه ، ولذلك عليه أن لا يملّ من الدعاء بل يثابر عليه خاصة في الخلوات فإنه أجمل مناجاة .
( 1) الكافي ، الكليني : 2/352 ، ح8 ، روي عن النبي ’ في حديث الإسراء : (.. ما يتقرب إليّ عبد من عبادي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه ، وإنه ليتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته).
عن كتاب تاملات في دعاء كميل لسماحة السيد علي مكي العاملي دام ظله