اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
صاحب منبر فقه أهل البيت
قال بعض العلماء عن هذا المنبر، منبر فقه أهل البيت : إن هذا المنبر له صاحب ! وحديثنا اليوم عن صاحب هذا المنبر الإمام جعفر بن محمد الصادق صلوات الله عليه ! هذا المنبر له صاحب.. ونحن له ظالمون، وبحقه مقصرون، فالأفضل لنا أن نعتذر اليوم لظلمنا وتقصيرنا.
السؤال الأول: ماذا نعرف عن الإمام الصادق ؟
والسؤال الثاني: ماذا عملنا ونعمل للإمام الصادق ؟
أما جواب السؤال الأول، فنحن نتخيل أنا نعرف الكثير عن الإمام الصادق مع أن تصور حياته وظروفه مشكل، فكيف بمعايشتها؟!
عاش الإمام محاطاً بظروف اضطهاد شديدة من دولة بني أمية ، ثم من دولة بني العباس! وكان أبو العباس السفاح عدواً شديداً لأهل البيت مع أنه كان يعظم الإمام الباقر ، ويعترف بفضله عليه !
وهذا نموذج من التشديد والرقابة التي كان يعيش فيها الإمام ، فقد كان السفاح وبعده يحضرونه الى الحيرة وكانت عاصمتهم قبل بغداد ، ويبقونه مدة طويلة، ويمنعون الناس من الإتصال به مع أنه في عاصمتهم !
يصف أحد الرواة الأجلاء كيف احتاج الى مسألة شرعية ، فاضطر إلى استعمال الحيلة لكي يصل الى الإمام الصادق ليسأله عنها: قال هارون بن خارجة: كان رجل من أصحابنا طلق امرأته ثلاثاً، فسأل أصحابنا فقالوا: ليس بشئ . فقالت امرأته: لا أرضى حتى تسأل أبا عبدالله وكان بالحيرة إذ ذاك أيام أبي العباس. قال: فذهبت إلى الحيرة ولم أقدر على كلامه إذ منع الخليفة الناس من الدخول على أبي عبد الله ، وأنا أنظر كيف ألتمس لقاءه ، فإذا سوادي (أي رجل من أهل العراق ، وكان العراق يسمى السواد) عليه جبة صوف يبيع خياراً ، فقلت له: بكم خيارك هذا كله؟ قال: بدرهم . فأعطيته درهماً وقلت له: أعطني جبتك هذه، فأخذتها ولبستها وناديت:من يشتري خياراً! ودنوت منه، فإذا غلام من ناحية ينادي: يا صاحب الخيار.
فقال لي لما دنوت منه: ما أجود ما احتلت! أي شئ حاجتك؟ . قلت: إني ابتليت فطلقت أهلي ثلاثاً في دفعة، فسألت أصحابنا فقالوا ليس بشئ. وإن المرأة قالت لا أرضى حتى تسأل أباعبدالله ، فقال: إرجع إلى أهلك فليس عليك شئ. ( الخرائج :2/642 والبحار: 47/171 )
في مثل هذه الأجواء كان يعيش الإمام الصادق ، وعندما سنحت له فرصة قصيرة ظهر منه من العلوم ما ملأ الآفاق ، من بحوث التوحيد ونفي التعطيل والتجسيم والتشبيه ، الى بحوث علم الباري تعالى وقدرته وإرادته ومشيئته ، الى بحث الذات المقدسة ، والصفات والأفعال والأسماء ..
الى مباحث العقل ، والمعاد ، والنبوة العامة والخاصة ، وتاريخ الأنبياء ، ومباحث الإحتجاجات في الإمامة الكبرى وتطبيقها.. الى المباحث المتعلقة بالسماء والعالم ، مضافاً الى بحوث الفقه من باب الطهارة الى الديات ، في كل أبواب العبادات والمعاملات .
ظهر منه في هذه الفترة القصيرة ما ملأ العالم ، من أعلى العلوم وأبواب العلم بالله تعالى، الى أعمقها وأغربها في ذلك الزمن كعلم الكيمياء والإكسير !
فكم روى عنه محمد بن مسلم الثقفي في الفقه؟!
وكم روى عنه جابر بن يزيد الجعفي في الغيبيات ؟!
وقال له زرارة ذات يوم: جعلني الله فداك، أسألك في الحج منذ أربعين عاماً فتفتيني! فقال: يا زرارة، بيتٌ يحج قبل آدم بألفي عام، تريد أن تفنى مسائله في أربعين عاماً ! (من لا يحضره الفقيه:2/519 )
أما جابر بن حيان أبو الكيمياء والجبر فهو تلميذ الإمام الصادق ! فأين تعلم الإمام الكيمياء وأطلق في العالم أصولها حتى صار تلميذه جابر يعرف في جامعات الغرب باسم أب الكيمياء ، ويقام له تمثال في جامعاتها ؟!
لقد اعترف الجميع من العامة والخاصة والأجانب ، أن علم الجبر الذي هو مفتاح استكشاف المجهولات وعلم ما يكون ، من إملاء الإمام الصادق على جابر بن حيان !
هذه الموسوعية في العلوم التي كانت معروفة في عصره وغير المعروفة، من أين أتى بها الإمام الصادق ؟!
إن الحديث عن شخصية الإمام الصادق فوق قدرتنا ، لأنا لا نستطيع أن نصل الى فهمه وتعريفه ، فما زالت كثير من أسرار شخصيته غائباً عنا !
والذي يستطيع تعريف الإمام الصادق هو الشخص الأول في العالم جده المصطفى وسلم ، الذي بشر به أمته قبل زمانه !
كانت شخصيته متميزة عن كل أهل عصره ، كما هو الحال في شخصيات المعصومين وكان الإمام محل تعظيم وإعجاب حتى من أعدائه ومخالفيه! فقد رووا عن أئمة المذاهب إعجاباً كبيراً به لا يشبهه إعجابهم بأحد ! قال الصدوق أعلى الله مقامه في الخصال ص167: (حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل رضي الله عنه قال: حدثنا علي بن الحسين السعد آبادي ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه قال: حدثنا أبو أحمد محمد بن زياد الأزدي قال: سمعت مالك بن أنس فقيه المدينة يقول: كنت أدخل على الصادق جعفر بن محمد ، فيقدم لي مخدة ويعرف لي قدراً ويقول: يا مالك إني أحبك ، فكنت أسر بذلك وأحمد الله عليه. وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إما صائماً وإما قائماً وإما ذاكراً، وكان من عظماء العبَّاد، وأكابر الزهاد، الذين يخشون الله عز وجل، وكان كثير الحديث، طيب المجالسة، كثير الفوائد، فإذا قال: قال رسول الله، اخْضَرَّ مرةً واصْفَرَّ أخرى ، حتى ينكره من يعرفه !
ولقد حججت معه سنة فلما استوت به راحلته عند الإحرام ، كان كلما هم بالتلبية انقطع الصوت في حلقه وكاد يخر من راحلته، فقلت: قل يا ابن رسول الله فلا بد لك من أن تقول. فقال: يا ابن أبي عامر كيف أجسر أن أقول: لبيك اللهم لبيك، وأخشى أن يقول عز وجل لي: لا لبيك ولا سعديك ! ) . ( الخصال للصدوق ص167 ، ورواه أيضاً في الأمالي ص234 ، وفي علل الشرائع:4/234 ، عنه في البحار: 99/181 ) .
فإذا قال قال رسول الله، اخْضَرَّ مرةً واصْفَرَّ أخرى، إنتبهوا لكي نفقه هذه الكلمة لمالك بن أنس فإنه لا يمكن أن يحدث هذا التغير في البدن عند ذكر اسم النبي وسلم بدون أن يكون صاحبه متصلاً بالملأ الأعلى بروح النبي وسلم روح الشخص الأول في العالم المحيطة بالوجود ! فلا بد أن يحدث انقلاب في الروح أولاًُ حتى يحدث في البدن ، وذلك بقانون العلاقة الجدلية بين الروح والبدن ، والتأثير والتأثر بينهما !
لا بد أن تكون نفس الإمام الصادق مستغرقة مع النفس العليا لخاتم الرسل وسلم في عالم الملكوت ، حتى يحدث هذا التحول والإنقلاب !
كان كلما هم بالتلبية انقطع الصوت في حلقه وكاد يخرُّ من راحلته! والذي يفهم هذا الموقف، هو الذي يفهم معنى قوله عندما كرر قراءة (إياك نعبد وإياك نستعين) في صلاته فخر مغشياً عليه! فسئل عن ذلك فقال: (ما زلت أردد الآية حتى سمعتها من المتكلم بها). (البحار: 89 /107)
إن هذا استغراقٌ في عالم الأنوار فوق تعقل البشر ، بل وفوق تصورهم !
واسمعوا إلى هذه الشهادة من أبي جعفر المنصور: (قال جعفر بن محمد الأشعث لابن أبي عمير: أتدري ماكان سبب دخولنا في هذا الأمر ومعرفتنا به، وما كان عندنا فيه ذكر ولا معرفة شئ مما عند الناس ؟ قال قلت: ما ذاك ؟
قال: إن أبا جعفر يعني أبا الدوانيق قال لأبي محمد الأشعث: يا محمد إبغ لي رجلاً له عقل يؤدي عني . فقال له: إنس قد أصبته لك ، هذا فلان بن مهاجر خالي ، قال فأتني به . قال فأتيته بخالي فقال له أبو جعفر: يابن مهاجر خذ هذا المال ، فأعطاه ألوف دنانير أو ما شاء الله من ذلك ، وائت المدينة، واْلقَ عبد الله بن الحسن وعدة من أهل بيته فيهم جعفر بن محمد فقل لهم إني رجل غريب من أهل خراسان ، وبها شيعة من شيعتكم وجهوا اليكم بهذا المال، فادفع إلى كل واحد منهم على هذا الشرط كذا وكذا، فإذا قبضوا المال فقل إني رسول وأحب أن يكون معي خطوطكم بقبضكم ماقبضتم مني !
قال فأخذ المال وأتى المدينة ، ثم رجع إلى أبي جعفر ، وكان محمد بن الأشعث عنده ، فقال أبو جعفر: ما وراءك؟ قال: أتيت القوم وفعلت ما أمرتني به ، وهذه خطوطهم بقبضهم، خلا جعفر بن محمد فإني أتيته وهو يصلي في مسجد الرسول () فجلست خلفه وقلت ينصرف فأذكر له ما ذكرت لأصحابه ، فعجل وانصرف ، ثم التفت إلي فقال: يا هذا اتق الله ولا تغُرَّنَّ أهل بيت محمد وسلم وقل لصاحبك اتقِ الله ولا تغرن أهل بيت محمد فإنهم قريبوا العهد بدولة بني مروان ، وكلهم محتاج ! قال فقلت: وماذا أصلحك الله؟!
فقال: أدنُ مني، فأخبرني بجميع ما جرى بيني وبينك، حتى كأنه كان ثالثنا! قال فقال أبو جعفر: يابن مهاجر، إعلم إنه ليس من أهل بيت نبوة إلا وفيهم محدَّث، وإن جعفر بن محمد محدَّث اليوم! فكان هذه دلالة أنا قلنا بهذا المقالة). (بصائر الدرجات ص265) .
هذا الأعتراف من المنصور الدوانيقي أعدى أعداء الإمام إذعانٌ منه بأن الإمام محدَّثٌ من ربه ! والمحدَّث هو الإنسان ذو الجنبتين، فهو بين الملك والملكوت ، بين الناسوت واللاهوت ، بين الغيب والشهادة !
فكم هو مظلوم الإمام الصادق ، من أولئك الجبارين ، ومنا أيضاً !
ثم ماذا نقول عن علم الإمام الصادق ، وعن مقامه ، وعن عبادته ، وعن مكارم أخلاقه؟ إن كل ما قيل ويقال عنه قليل في حقه ! ( نام رجل من الحاج في المدينة، فتوهم أن هميانه سرق، فخرج فرأى جعفر الصادق مصلياً ولم يعرفه ، فتعلق به وقال له: أنت أخذت همياني! قال: ما كان فيه؟ قال: ألف دينار .
قال: فحمله إلى داره ووزن له ألف دينار! وعاد إلى منزله ووجد هميانه ، فعاد إلى جعفر معتذراً بالمال ، فأبى قبوله وقال: شئٌ خرج من يدي لا يعود إليَّ. قال فسأل الرجل عنه فقيل هذا جعفر الصادق ، قال لا جرم هذا فعال مثله !) (المناقب لابن شهر آشوب:3/394 ) .
إنه من نور من قال الله تعالى فيه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ !
صلوات الله عليك يا حجة الله، لقد تحير فيك الأولون والآخرون ، فماذا نقول نحن فيك ، وفي مقامك ، إلا أن نعترف بتقصيرنا في حقك ؟!
في هذا البلد.. إذا أهين مسؤول ، إذا تجرأ أحد على شخصية ، تستنفر مخابرات البلد، وقواه الأمنية، وقواه القضائية، وينشغل الجميع ، لأن الشخص الفلاني أهين ، وتجرأ أحد عليه !
إن أي شخص ، أي شخصية ، ليست نسبته الى الإمام الصادق كنسبة الشمع الى الشمس؟ كلا فهذا كلام جهال ! إنها نسبة الظلمة الى نور الأنوار !
لقد كان عند آصف بن برخيا وزير سليمان حرف واحد من اثنين وسبعين حرفاً من اسم الله الأعظم ، فأحضر به عرش بلقيس، وجعفر بن محمد عنده من الإسم الأعظم اثنان وسبعون حرفاً !
فهل يجوز أن يقاس به أحد ، أو يدنو من مقامه أحد ؟! فالعجب أن تصدر في هذا البلد إهانة بحق جعفر بن محمد ؟! في طهران تعقد مجالس ضد الإمام جعفر الصادق ، وضد أمير المؤمنين !!
يا من تحكمون إيران ، هل عندكم خبر بذلك ، أم لا ؟! هل تعرف أنهم في تلك المجالس يطعنون في شخصية أمير المؤمنين ، أو لا تعرف ؟
هل تعرف أنه في هذا البلد تكتب إهانات بشخصية الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء ، أو لا تعرف ؟
أيها الحكام ، هل تعرفون أنه في هذا البلد يكتب ويقال كلام فيه إهانة في حق رئيس المذهب الإمام الصادق ، أو لا تعرفون ؟!
إن كنت لا تدري فتلكَ مصيبةٌ وإن كنت تدري فالمصيبةُ أعظمُ .
اللهم إنا نشكو إليك فقد نبينا، وغيبة ولينا، وكثرة عدونا، وقلة عددنا، وتظاهر الزمان علينا . اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تُعِزُّ بها الاسلام وأهله، وتُذِلُّ بها النفاق وأهله .
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ، ولياً وحافظاً ، وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتى تسكنه أرضك طوعاً ، وتمتعه فيها طويلا .