لذا فقد قال الحسين (عليه السّلام) له :
(( أخي أنت صاحب لوائي ، وكبش كتيبتي ، إذا مضيت تفرّق عسكري ، ويؤول جمعنا إلى الشتات )) .
وعن هذه الحالة يقول الشاعر الشعبي جليل الجنابي :
يگلـه اشلون يا عباس عنّي تروح يا رجواي
أنـت رمحي اُو سيفي وانت يسرتي اُو يمناي
أنت الگلب وانت الروح وانـت نـور البعيناي
لهذا لم يأذن بالقتال إلاّ في الساعات الأخيرة ، وبعد أخذ ورد ؛ لأنّ العبّاس كان على عجلة من أمره لدخول الجنّة ، كما كان أعداؤه على عجلة من أمرهم لكسب الجائزة من ابن زياد . وحين لم يجد الحسين (عليه السّلام) بدلاً من الإذن له بعد أن ذاب قلبه ، وذهبت نفسه حزناً وأسى على ما حلّ في آل وأصحاب الحسين من مصائب ونوائب ، وبعد أن وجد أنّ نفسه تسبق جسمه في جهاد الطغاة والظالمين .
حيث أضاء له اللون الأخضر ، وترك له حرية المواجهة والنزال , حيث قال له : (( إن كان ولا بدّ ، فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء )) .
وهكذا فقد قيّد يديه ورجليه بإتيان الماء للأطفال . وقبل أن يحمل العبّاس (عليه السّلام) على جيش العدوان ، ويخترق صفوفهم ، نادى أمام هذا الجيش : يا عمر بن سعد ، هذا الحسين ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , قد قتلتم أصحابه وأهل بيته ، وهؤلاء عطاشى منذ (3) أيام , فاسقوه من الماء ؛ فقد أحرق الظمأ قلوبهم . أما تذكرون العطش يوم الفزع الأكبر ، أما تذكرون ما أنزل الله ، أما تخافون من عذاب الله ونقمته يوم يجمع الله الناس فيه إلى المحشر ؟!
وفي هذا المعنى نظم الشاعر أنور الجندي يقول :
وذئـابُ الـشرورِ تنعمُ بـالما ء وأهـلُ النبيِّ من غيرِ مـاءِ
يـا لظلمِ الأقدار يظمأ قلبُ اللي ث والـليثُ مـوثقُ الأعـضاءِ
وصغارُ الحسينِ يبكونَ في الصح راء يـا ربِّ أينَ غوثُ القضاءِ
كما وقال الشاعر أبو المحاسن حول الموضوع:
لو أنّ بالصخرِ ما قاساهُ من عطشٍ كـادت لهُ الصخرةُ الصماءُ تنغلقُ
إلاّ أنّ الجواب على هذا النداء كان قد جاء على لسان الشمر حيث قال بصوت عالي : يابن أبي تراب ، قل لأخيك لو كان وجه الأرض كلّه ماءً ، وهو تحت أيدينا , لما سقيناكم منه قطرة واحدة ، ولا ذقتم منه شربة باردة حتّى نجرّعكم كأس المنون غصة بعد غصة ، إلاّ أن تدخلوا في بيعة يزيد ... .
فغضب العبّاس وقال : إنّ القوم قد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ... إلخ .
وإثر ذلك شدّ على الأعداء حيث أخذت أبدانهم ترتجف ، ومفاصلهم ترتعد ، ووجوههم تتغيّر خوفاً منه حيث هزمهم نفسياً قبل أن يهزمهم في ساحات
الحرب ، حيث يعبّر الشاعر السيد حيدر الحلّي عن الموقف ويقول :
عـبست وجوهُ القومِ خوفَ المو ت والعباسُ فيهم ضاحكٌ متبسّمُ
واتجه صوب نهر العلقمي حيث فرّت الكتائب من أمامه ، وباتت تسحق بعضها بعضاً ، ولم يفزعه جيش الكوفة الضال عن رشده المكلّف بحراسة الشريعة ، والذي يقدّر بـ (4) آلاف فارس كأنّهم جراد منتشر ، حيث تمكّن من كشفه عن الماء والوصول إليه ، وملأ القربة التي كان يحملها معه بالماء . وأراد ـ وهو في الماء ـ أن يشرب شيئاً منه ؛ لأنّ عطشه كان لا يقلّ عن عطش الحسين وأهل بيته (عليهم السّلام) , إلاّ أنّه تذكر عطش أخيه الحسين (عليه السّلام) والأطفال والنسوة , ومَنْ قُتل من بني عمّه وأصحابه ، فرمى الماء من يده ولم يشرب منه قطرة واحدة ، وقال :
يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني وبـعدهُ لا كـنتِ أو تـكوني
هـذا الـحسينُ واردُ المنونِ وتـشـربينَ بـاردَ الـمعينِ
تاللهِ مـا هـذا فـعالُ ديـني
ثمّ صمّم العبّاس إثرها على إيصال القربة إلى معسكر الحسين (عليه السّلام) ؛ لريِّ مَنْ فيه , وبكلّ صورة ووجه , وذلك بعد أن أحكم شدّ فتحتها ورماها على عاتقه ، حيث إنّ حياته وأمله في تلك اللحظات كانت معلّقة بتلك القربة ، وهي أن يوصلها سالمة إلى مخيّم الحسين (عليه السّلام) .
وعن هذه الحالة يقول الشاعر : أأبـردُ قـلبي بالزلالِ وبرده ويُحرقُ من آلِ الرسولِ قلوبُ
فيا نفسُ موتي بالظما وتقطّعي وإن كان ماءُ الشطِّ منكِ قريبُ
فـواللهِ لا ذقـت من الماءِ قطرةً إلى حيث سهمُ المنونِ يصيبُ
كما ويقول شاعر آخر حول الموضوع :
ودمـدمَ لـيـثُ الغابِ يعطو بسالةً إلـى الماءِ لم يكبر عليهِ ازدحامُها
ألـمّتِ بـهِ سوداءُ يخطفُ برقُها ال بـصائرَ من رعبٍ ويعلو قـتامُها
جـلاها بمشحوذِ الغرارينِ أبـلجٍ يـدبُّ بـهِ لـلدارِعينَ حـمـامُها
ثنى رجلهُ عن صهوةِ المهرِ وامتطى قـرى النهرِ واحتلَّ السقاءَ همامُها
وهـبَّ إلـى نحو الخيامِ مـشمّراً لــريّ عـطاشى قد طواها أوامُها
كما ونظم شاعر ثالث يقول :
سل الشريعةَ عنهُ يومَ خاضَ بها هل ذاقَ للماءِ طعماً وهو غارفهُ
رمـى المعينَ بنهرٍ من أنـاملِه وصـدّ عنهُ وما بلّت مـراشفهُ
إن لـم يزد معنىً في شجاعته عـلى أبـيهِ فقد ساوت مواقفهُ
وفي هذا المعنى نظم شاعر رابع على لسان اُمّ البنين ، وأنّها قالت بالفعل واصفة الموقف على حقيقته :
يا مَنْ رأى العباسَ كرَّ على جماهيرِ النقدْ
ووراهُ مـن أبناءِ حي در كـلّ ليثٍ ذو لبدْ
اُنبئتُ أنّ ابني اُصي ب بـرأسهِ مقطوعَ يدْ
لو كانَ سيفكَ في يدي ك لـما دنـا منكَ أحدْ
إلاّ أنّ الأعداء تكاثروا عليه في الطريق ، وأحاطوا به من كلّ صوب وجهة حتّى قطعوا عليه طريقه ؛ ليحولوا دون إيصال الماء إلى معسكر الحسين (عليه السّلام) فلم يبالِ بهم ، وأخذ يضرب القوم بسيفه مجندلاً كلّ مَنْ يقترب منه ، ولسان حاله يقول :