اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم واللعن عدوهم .
حامل راية الحسين
قال أهل السِّيَر : كان العبّاس بن عليّ رجُلاً وسيماً جميلاً بينَ عينيهِ أثرُ السّجود ، يركَبُ الفرس المُطهّم ورجلاهُ تخُطّان الأرض خَطّاً ، وكان يُقال له قمَرُ بني هاشم ، لجماله ووسامته ، وكان لِواء الحسين بيدهقال الإمام الصادق () : كان عمّنا العباس نافذ البصيرة ، صلب الإيمان ، له منزلة عند الله يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة .
وكانت ولادة العباس سنة ست وعشرين من الهجرة ، وقُتل أبوه أميرالمؤمنين ()وله من العمر نحو أربعة عشر سنة ، وقُتل هو بالطف وقد بلغ أربعاً وثلاثين سنة ، وهو آخر من قُتل من المحاربين مع الحسين () ولم يقتل بعده إلاّ الأطفال.
ولمّا رأى العبّاس بن علي () وحدة أخيه الحسين أقبل يستأذنه في القتال ويقول : يا أخي هل من رخصة ، فبكى الحسين ثمّ قال : يا أخي أنت حامل لوائي ومجتمع عسكري وإذا مضيت تفرّق عسكري . فقال العبّاس : قد ضاق صدري وسئمت من الحياة وأُريد أن أطلب ثاري من هؤلاء المنافقين ، فقال له الحسين : فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء ، فذهب العبّاس ووعظهم وحذّرهم فلم ينفع الوعظ والتحذير فرجع إلى أخيه فأخبره ، فسمع الأطفال ينادون العطش العطش فركب فرسه وأخذ رمحه والقربة وقصد نحو الفرات ، فأحاط به أربعة آلاف ممّن كانوا موكّلين بالفرات ورموه بالنّبل فكشفهم وقتل منهم ثمانين رجلاً وهو
يرتجز ويقول :
لا أرهبُ الموتَ إذا الموت زقا***ولا أخافُ الشَرَّ يوم المُلْتَقى
حتّى دخل الماء ، فلمّا أراد أن يشرب غرفة من الماء ذكر عطش الحسين وأهل بيته فرمى الماء وملأ القربة وحملها على كتفه الأيمن وتوجّه نحو الخيمة ، فقطعوا عليه الطريق وأحاطوا به من كلّ جانب فحاربهم ، فكمن له زيد بن ورقاء من وراء نخلة وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي فضربه على يمينه فقطعها ، فحمل القربة على كتفه الأيسر وهو يقول :
ووقف الحسين بجنب الخيمة ونادى : يا سكينة يا فاطمة يا زينب ويا أُم كلثوم عليكنّ منّي السلام ، فنادته سكينة : يا أبَة استسلمتَ للموت ؟! فقال : كيف لا يستسلم للموت من لا ناصر له ولا معين . فقالت : يا أبة رُدّنا إلى حرم جدّنا . فقال : هيهات لو تُرِكَ القطا لنام . فتصارخن النساء فسكّتهنّ الحسين () .
يقول زين العابدين علي بن الحسين : ضمّني والدي إلى صدره يوم قتل والدماء تغل وهو يقول : يا بُنيّ إحفظ عنّي دُعاءً علّمتنيهِ فاطمةُ صلوات اللهِ عليها وعلّمها رسول الله إيّاه ، وعلّمه جبرئيلُ في الحاجةِ والمُهمّ والغَمِّ والنّازِلة إذا نزلتْ والأمرِ العظيم الفادح ، قال : أُدعُ بحقّ يس والقُرآن الحكيم وبحقّ طه والقُرآنِ العظيم ، يا مَن يَقْدِرُ على حوائج السّائلين ، يا مَنْ يعلمُ ما في الضَّميرِ ، يا مُنفِّسُ عن المكروبين ، يا مُفرِّجُ عن المَغمومين ، يا راحِمَ الشَّيْخ الكبير ، يا رازقَ الطِّفْلِ الصّغير ، يا مَن لا يحتاجُ إلى التّفسير ، صَلِّ على محمّد وآل محمّد وافْعَلْ بي كذا وكذا .
وفي رواية : وتقدّم نحو باب الخيمة وقال لزينب : ناوليني ولدي الصغير حتّى أودّعه فأخذه وأومأ إليه ليقبله ، فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فوقع في نحره فذبحه . يقول الراثي
ومُنْعَطِف أهوى لِتقبيلِ طِفْلهِ***فقبَّل مِنْه قَبْلَه السَّهْمُ مَنْحَرا
فقال () لزينب : خذيه ، ثمّ تلقّى الدم بكفّيه فلمّا امتلأتا رمى بالدم نحو السماء ، ثمّ قال : هوّن عَلَيّ ما نزل بي أنّه بعين الله ، اللّهمّ لا يكوننّ أهون عليك من فصيل ناقة صالح
ثمّ وقف قبالة القوم وسيفه مصلت في يده آيساً من الحياة عازماً على الموتوهو يقول :
أنَا ابْنُ الطُّهْرِ مِنْ آلِ هاشِم***كَفانِي بهذا مَفخراً حين أفخرُ
وجدّي رسول الله أكرم مَنْ مشى***ونحنُ سراجُ اللهِ في الأرضِ يَزْهَرُ
قال الراوي : فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه ، وإن كانت الرّجال لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب ، ولقد كان يحمل عليهم وقد تكاملوا ثلاثين ألفاً فينهزمون بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر ثمّ يرجع إلى مركزه ويقول : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ، وأنشأ () هذه الأبيات :
فَإنْ تَكُنِ الدُّنْيا تُعَدُّ نَفيسَةً***فَإنَّ ثَوابَ اللهِ أعلى وأَنْبَلُ
وإنْ تَكُنِ الأبْدانُ لِلْمَوتِ أُنشِئَتْ***فَقَتْلُ امرىء بالسيفِ في الله أفضلُ
وإنْ تَكُنِ الأرْزاقُ قِسْمَاً مُقدّراً***فَقِلَّةُ سَعْيِ المرءِ في الكَسْبِ أجْمَلُ
وإنْ تَكُنِ الأمْوالُ للتركِ جَمْعُها***فما بالُ مَتروك به المَرءُ يَبْخَلُ
ولم يزل يقتل كلّ من دنى منه حتّى قَتَل منهم مقتلةً عظيمةً ، فلمّا نظر الشّمر إلى ذلك قال لابن سعد : أيّها الأمير ، واللهِ لو برز إلى الحسين أهل الأرض لأفناهم عن آخرهم فالرأي أن نفترق عليه ونملي الأرض بالفرسانِ ونحيط به من كلّ جانب ، فصاح ابن سعد : الوَيلُ لكمْ ، أتدرون لمن تقاتلون ؟! هذا ابنُ الأنزعِ البطين ، هذا ابنُ قتّالِ العرب !! فاحْملوا عليه من كُلّ جانب ، فحملوا عليه ورموه بالنبالِ وحالوا بينه وبين رحله فصاح بهم : ويحَكم يا شيعة آلِ أبي سفيان إن لم يكنْ لكم دينٌ وكنتم لا تخافونَ المعاد ، فكونوا أحراراً في دُنياكم وارْجعوا إلى أحسابكم إنْ كنتم عُرُباً ، فناداهُ شَمِرُ : ما تقول يابن فاطمة ؟ قال : أقول أنا الّذي أُقاتلكم وتُقاتلونني والنّساء ليسَ عليهنّ جُناحٌ فامنعوا عُتاتَكم عن التّعرّضِ لحرمي ما دُمْتُ حيّاً ، فقال شَمِرٌ : لك هذا . ثمّ صاح : إليكم عن حرم الرّجل ، واقصدوه في نفسه فلَعَمْري هو كفؤٌ كريم . قال : فقصده القوم وهو يطلب شربة من ماء ، فكلّما حمل بفرسه على الفرات حملوا عليه بأجمعهم حتّى أجلوه عنه، ثمّ رماه رجل من القوم يكنّى أبا الحتوف بسهم فوقع في جبهته فنزعه من جبهته فسالت الدّماء على وجهه ولحيته، فقال () : اللّهمّ إنّك ترى ما أنا فيه من عبادك هؤلاء العصاة ، ثمّ حمل عليهم كاللّيثِ المُغضب فجعل لا يلحق منهم أحداً إلاّ بعجه بسيفه فقتله ، والسّهام تأخذه من كلّ ناحية وهو يتّقيها بنحره وصدره، وخرج عبدالله بن الحسن بن علي وهو غلام لم يراهق من عند النساء يشتدّ حتّى وقف إلى جنب الحسين فلحقته زينب بنت علي لتحبسه ، فقال لها الحسين : أحبسيه يا زينب ، فأبى الغلام وامتنع امتناعاً شديداً وقال : والله لا أُفارقُ عمّي ، فأهوى أبجر بن كعب إلى الحسين بالسّيف ليضربه ، فقال له الغلام : ويلك يابن الخبيثة أتقتل عَمّي ؟! فضربه أبجر بالسّيف فاتّقاه الغلام بيده فأطنّها إلى الجلدة فإذا يده معلّقة ، فنادى الغلام : يا عَمّاه !! فأخذه الحُسينُ فَضَمَّه إلى صدره وقال : يابن أخي اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير فإنّ الله يلحقك بآبائك الصالحين .
وخرج غلام من النساء فوقف بين أطناب الخيم وهو مذعور يتلفَّت وفي أُذنيه قرطان يتذبذبان على خدّيه فأرادت أُمّه حبسه فهرب منها وهو يقول : لا والله لا أرجع حتّى أذهب إلى عمّي ، فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فوضع الغلام يده على جبهته ليتّقي الرمية فسمر السهم يده إلى جبهته فصاح الغلام : يا أُمّاه ، فصاح الحسين : صبراً يا بني أخي على ما تجدون ، فصارت أُمّه شهربانويه تنظر إليه ولا تتكلّم كالمدهوشة .
ثمّ رفع الحُسين يده وقال : اللّهمّ أمْسِك عنهم قَطْرَ السّماء وامْنعْهم بركاتِ الأرْضِ ، ثمّ جعل يأخذ الدّم ويُخضبُ به وجهه ويقول : هكذا ألقى الله وأنا مُخضّبٌ بدمي ، وصار لا يضع قدماً على الأرض إلاّ وثبت بمقدارها دماً على الأرض .
ووقف يستريح ساعة وقد ضعف عن القتال ، أتاه سهم محدّد مسموم له ثلاث
شعب فوقع في صدره . وفي بعض الروايات : على قلبه ، فقال الحسين : بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله ، ورفع رأسه إلى السّماء وقال : إلهي إنَّكَ تعلمُ أنَّهمْ يقتُلون رجلاً ليسَ على وجهِ الأرْضِ إبنُ نبيٍّ غيرُهُ ، ثمّ أخذ السّهمَ فأخرجه من قَفاه فانبعث الدّمُ كالميزاب ، ثمّ خرّ على خدّه الأيسر صريعاً ، وخرجت زينب من باب الفسطاط وهي تنادي : وا أخاه وا سيّداه وا أهل بيتاه ليت السّماء أطبقت على الأرض ، وصاح شمر : ما تنتظرون بالرّجل ؟ فبدر إليه خولى بن يزيد الأصبحي ليحتزّ رأسه فأرعد ، فقال شمر : فتّ الله في عضدك مالك ترعد ؟ فنزل شمر إليه فذبحهقال الخوارزمي بقي الحسين مكبوباً ثلاث ساعات من النّهار متشحّطاً بدمه رافعاً بطرفه إلى السماء وهو يقول : صَبْراً على قَضائِكَ لا معبودَ سِواكَ يا غِياثَ المُستغيثين.
وفي المنتخب : فبادر إليه أربعون رجلاً كلّ منهم يريد حَزَّ رأسه ـ وعمر ابن سعد يصيح عجِّلوا برأسه ـ وكان أوّل من ابتدر إليه شبث بن ربعي ، وكان بيده سيفٌ قاطعٌ ، فدنى منه ليحتزَّ رأسه فرمَقَه بعينه ، فرمى السّيف من يده وولّى هارباً وهو يُنادي : معاذ الله يا حسين أن ألقى الله بدمك !! قال : فأقبل إليه رجلٌ قَبيح الخِلْقَةِ كَوْسَجُ اللّحية أَبرَصُ اللّون يُقالُ له سِنان ، فنظر إليه الحُسين () فلم يجسرْ عليه وولّى هارباً وهو يقول : مالَك يا عمر بن سعد ، غضب الله عليك ، أردت أن يكون محمّدٌ خَصمي !!
قال بعضهم : وقفتُ عليه وإنّه لَيَجود بنفسه ، فوالله ما رأيتُ قَتيلاً مُضمّخاً بدمِهِ أحْسَنَ منه ولا أَنْوَر وجهاً ، ولقد شلغني نور وجهه وجمال هيئته عن الفِكْرة في قتله :