بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدالله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين ...
نتابع ماسبق........
أدبه الرساليّ:
لمّا كان عمّار بن ياسر متميّزاً بالإيمان الثابت، والتضحية والإيثار، والبصيرة والوعي.. فقد انعكس ذلك كلّه على أدبه وشعره، متّسماً بالصدق كما اتّسم هو رضوان الله عليه بالثبات على المبادئ فلم يتقلّب في التيارات المنافقة، ولم ينجرف نحو المطامع والأهواء.
وكما كان عمّار نفسه غيوراً على الإسلام مدافعاً عنه بيده في حالة من الإخلاص والفداء.. كذا كان شعره يقاتل وهو يتحدّر من قلب مؤمن شجاع غيور.
وكم ارتجز مثيراً نخوة الجهاد، ومشوّقاً نفسه وإخوانه للشهادة ولُقيا الماضين من الشهداء!
وكم أنشد لوحاتٍ من المعاني الإسلاميّة الحقّة، يطلب بها مرضاة ربّه وسعادة الآخرة، وتثبيت الحقيقة!
وكان شعر عمّار مرآة عاكسةً لما جال في قلبه، فترنّم بأمجاد إمامه أمير المؤمنين عليه السّلام وفضائله، وتغنّى بمنهجه وهو الصراط المستقيم، ونابذ أعداءه الذين أخطأوا حظهم فاختاروا معصية الله تعالى. فكان يقول:
طلحةُ فيها والـزبيرُ غـادرُو الحـقّ في كفّ عليٍّ ظاهرُ
ويقول أيضاً:
سيروا إلى الأحزابِ أعداءِ النبي سيروا فخيرُ الناس أتباعُ عليّ
أمّا خطباته فهي مثمرة بروائع من الكلمات والاحتجاجات الغلاّبة، فيصدع بالمتخاذلين والناكثين والمنهزمين قائلاً:
ـ معاشر المسلمين، إنّا قد كنّا وما نستطيع الكلام؛ قلّةً وذِلّة.. فأعزّنا الله بدينه، وأكرمنا برسوله، فالحمد لله ربّ العالمين.
يا معشرَ قريش، إلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم ؟! تحوّلونه ها هنا مرّة، وها هنا مرّة، وما أنا آمنٌ أن ينزعه الله منكم ويضعَه في غيركم، كما نزعتموه من أهله، ووضعتموه في غير أهله.
وكأنّنا بعمّار رضوان الله عليه يترسّم خطى إمامه عليه السّلام ويقتدي به في بيان الحقّ ونصرته، وفضح الباطل وتخذيله.
الشرف المختار:
من عنايات الله تبارك وتعالى لعباده الصالحين المخلصين..
أن اختار لهم خاتمة الشرف والكرامة، حيث رُزقوا الشهادة ولو بعد عمر مديد. وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله بشّره قائلاً:
ـ يا عمّار، إنّك ستتقاتل بعدي مع عليٍّ صنفين: الناكثين والقاسطين، ثمّ تقتلك الفئة الباغية.
وهنا يتساءل عمّار سؤال الرجال الكبار: يا رسول الله، أليس ذلك على رضى الله ورضاي ؟ فيقول النبيّ صلّى الله عليه وآله: نعم، على رضى الله ورضاي، ويكون آخر زادك من الدنيا شربة من لبن تشربه.
وكانت صفّين.. فخرج عمّار بن ياسر إلى أمير المؤمنين عليه السّلام قائلاً:
يا أخا رسول الله، أتأذن لي في القتال ؟
قال: مهلاً رحمك الله. فلمّا كان بعد ساعة أعاد عليه، فأجابه بمثله، فأعاد عليه ثالثة، فبكى أمير المؤمنين عليه السّلام إذ يرى عمّاراً يلحّ على أجَله وقد اقترب منه، فيقول عمّار:
يا أمير المؤمنين، إنّه اليوم الذي وصفه لي رسول الله صلّى الله عليه وآله.
وهنا ينزل أمير المؤمنين عليه السّلام عن فرسه ويعانق عمّاراً يودّعه، ويقول له:
يا أبا اليقظان، جزاك الله عن الله وعن نبيّك خيرا، فنِعم الأخُ كنت، ونعم الصاحب كنت. ثمّ بكى عليه السّلام وبكى عمّار وقال:
يا أمير المؤمنين، ما تبعتك إلاّ ببصيرة، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول يوم خيبر: يا عمّار، ستكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فاتّبع عليّاً وحزبه؛ فإنّه مع الحقّ والحقُّ معه، وستقاتل الناكثين والقاسطين.
فجزاك الله يا أمير المؤمنين عن الإسلام أفضل الجزاء، فقد أدّيت وأبلغت ونصحت.
ثمّ ركب، وركب أمير المؤمنين عليه السّلام، وبرز عمّار إلى القتال وقد دعا بشربة من ماء، فقيل له: ما معنا ماء، فقام إليه رجل من الأنصار فأسقاه شربة من لبن، فشربه ثمّ قال: هكذا عهد إليّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يكون آخر زادي من الدنيا شربة من اللبن.
وما برز عمّار إلاّ متثبّتاً على البيّنة والمحجّة، فحين شرب ضياح اللبن قال:
الجنّة، تحت الأسنّة، ثمّ قال:
اليومَ ألقى الأحبّهْ مـحمّداً وحـزبَهْ
والله لو ضربونا حتّى يبلغوا بنا سعفات «هَجَر» لعلمنا أنّا على الحقّ وهم على الباطل. ثمّ حمل على القوم فقتل منهم ثمانية عشر، وحمل عليه ابن جَون السكونيّ وأبو العادية الفزاريّ، فكان الفزاريّ أن طعنه، أما ابن جون فقد احتزّ رأسه.
جرى ذلك في شهر صفر من سنة 37 من الهجرة الشريفة، وكان عمر عمّار يوم استُشهد رضوان الله عليه واحداً وتسعين عاماً، أو أربعاً وتسعين.. شيبةً كريمة مجاهدة، وشخصيّة صبورة مضحّية، فقد قضى وهو على طاعة إمامه، مجاهداً بين يدَيه، مدافعاً عن مبادئه الإلهيّة الحقّة، بعد أن تحمّل أنواع المآسي من أجل دينه وعقيدته.
وأخيراً حصل على بغيته، فنال وسام الشهادة، وسعد وفاز.. إلاّ أنّه خلّف إمامه أمير المؤمنين عليه السّلام متلهّفاً متأسّفاً عليه، حزيناً مكتئباً على فراقه، متشوّقاً إليه، متذكّراً أحبّته الذين فارقوه،
يقول:
ـ أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضَوا على الحقّ ؟!
أين عمّار، وأين ابن التَّيِّهان، وأين ذوالشهادتين ؟!
وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنيّة، وأُبرِد برؤوسهم إلى الفجرة ؟!
ثمّ ضرب عليه السّلام بيده على لحيته الشريفة الكريمة، فأطال البكاء ثمّ قال: أوِّهِ على إخواني الذين تلَوُا القرآن فأحكموه، وتدبّروا الفرض فأقاموه، أحيَوُا السنّة وأماتوا البدعة، دُعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه.
وسمع معاوية الخبر فأظهر فرحه وشماتته بشهادة هذا الصحابيّ الجليل، فكان يقول:
كانت لعليّ بن أبي طالب يدان يمينان، قُطعت إحداهما يوم صفّين ـ يعني عمّار بن ياسر..
أمّا أمير المؤمنين عليه السّلام فقد أبّنه أروع تأبين، واقفاً عليه وقفة إكبار وإجلال واعتزاز، إذ جاءه إلى مصرعه وجلس إليه ووضع رأسه في حِجره وأنشد يقول:
ألا أيّها الموت الذي هو قاصديأرحني فقد أفنيتَ كلّ خليلِأراك بـصـيـراً بالذين أحبُّهُمكـأنّك تنحو نحوَهم بدليلِ
ثمّ حمله، وجعل يمسح الدم والتراب عن وجهه وهو يقول:
وما ظبيةٌ تسبي القلوب بطَرفِهاإذا التـفـتَـت خِلْنا بأجفانها سِحْرابأحسنَ ممّن كلّل السيفُ وجهَهُدَماً في سبيل الله حتّى قضى صبرا
ثمّ قال عليه السّلام:
إنّا لله وإنّا إليه راجعون، إنّ امرأً لم تدخل عليه مصيبة مِن قتل عمّار فما هو من الإسلام في شيء. ثمّ قال: رحم الله عمّاراً يوم يُبعث، ورحم الله عمّاراً يوم يُسأل... قاتلُ عمّار، وسالب عمّار، وشاتم عمّار في النار.
ثمّ إنّه عليه السّلام صلّى عليه، ودفنه بثيابه.
السلام عليك ياناصر الإسلام ... السلام عليك يارافض الأصنام ... السلام عليك يافخر المؤمنين ... السلام عليك أيها الشهيد في حرب صفين ...
انتهى ....
لبيك ياغريب
شبكة الإمام الرضا ع ....