قبل عدة أيام كنت جالسا أمام التلفاز والهدوء يسود البيت، فشاهدت منظرا أذهلني، وعاد بي إلى طفولتي، وذكرني بالحكايات الجميلة، التي يحكيها لنا والدي - - قبل النوم، وهذه القصة هي :
خرج ملك مع حرسه وحاشيته إلى البر، لغرض الصيد.. وقبيل الغروب بقليل، أخذ الملك يطارد فريسته بعناد لوحده.. وفي تلك الأثناء هبت ريح عاتية، حاملة معها الغبار، فحجبت الرؤية عنه، فتاه الملك في العراء، وبقي حرسه، وحاشيته يبحثون عنه في العراء.. حتى أدركهم الغروب، وحل الظلام ولكن دون جدوى.. فيأسوا ورجعوا إلى ديارهم، ليعاودوا البحث عن ملكهم في الصباح.
أما الملك عندما أدركه الظلام، ظل يبحث في تلك البيداء، عن مكان آمن يأوي إليه، ليقضي تلك الليلة، ويعود إلى دياره صباحا بسلام.. وبينما هو تائه في ذلك الظلام الدامس يائسا، فوق صهوة جواده، وإذا به يرى ضوء ا بعيدا، حاملا معه بصيص الأمل.. فاتجه بجواده نحو ذلك الضوء، فرأى كوخا صغيران فطرق الباب، فخرج إليه رجل..
فقال له : السلام عليك!..
فرد عليه الرجل : وعليك السلام!..
![56](images/smilies/cool.gif.pagespeed.ce.MXQix9zBvo.gif)
![56](images/smilies/cool.gif.pagespeed.ce.MXQix9zBvo.gif)
فقال الملك : ألك أن تقبلني ضيفا عندك هذه الليلة؟..
فقال الرجل : على الرحب والسعة.. أهلا وسهلا بك!..
فأخذه الرجل إلى الداخل، وسأله : لعلك جائع؟.. فقال : الملك أجل!..
فذهب الرجل، وكانت له شاة فذبحها، وأمر زوجته أن تصنع منها العشاء لضيفه.. وبينما تقوم الزوجة بتحضير العشاء، أخذ الرجلان يتبادلان أطراف الحديث، ولم يخبر الملك صاحب الدار بأنه ملك تلك البلاد.
سأل الملك ذلك الرجل، عن أحواله وكيفية معيشته في تلك الوهاد..
فقال الرجل : كان لي شاة أستعين بما تدر به من حليب، يكون سببا لمعيشتي، ومعيشة عيالي، ونبيع ما يفيض عن حاجتنا من ذلك الحليب، في سوق المدينة، لشراء بقية احتياجاتنا.
فسأله الملك : وأين تلك الشاة الآن؟..
فقال الرجل : لقد ذبحتها توا، لأقدم لك طعام العشاء..
فذهل الملك، وقال : أتقدم لي وسيلة معيشتك الوحيدة عشاء ا؟.. وكيف ستستعين على معيشتك بعد هذا اليوم؟!..
فرد الرجل : أنت ضيفي، وواجبي الأخلاقي يحتم علي ذلك، وحاشا لله - عز وجل - أن ينساني، وأنا متأكد بأن الله عزوجل سيعوضني بأفضل من ذلك كثيرا.. فهو الذي يرسل الأرزاق، حتى إلى الكائنات في أعماق البحار، حاشا له وهو الرزاق الكريم، أن ينسى عبده فوق البسيطة.
فاستحسن الملك رده، وأعجب به وبعمق إيمانه بالله عزوجل.
وبعد أن أتمت المرأة تحضير الطعام، جاء الرجل به لضيفه، فتناولا العشاء سوية، وأخذا يتحدثان بمختلف الأحاديث.. حتى صار موعد النوم، ونام ذلك الملك في ذلك الكوخ البسيط، ليلة هنيئة، لم ينم مثلها في قصره الرنان.
وعندما حل الصباح، قال الملك للرجل : كان بودي أن أبقى معك عدة أيام، ولكن يجب أن أعود إلى دياري، فإن أهلي قلقون علي الآن، ولا يعلمون ما حل بي، ولكن أسالك بالله أن تزورني عندما تذهب إلى المدينة، فإذا دخلت المدينة اسأل أي رجل عن (فلان الفلاني)، وقل له أن يدلك على بيتي، فإنه سيأتي بك إلى داري، لأني معروف في تلك المدينة..
فرد الرجل : سأفعل إن شاء الله.. فتوادعا.
وعندما عاد الملك إلى قصره، قص ما حل به لوزيره ومستشاره، الذي كان يتسم بالحكمة وسعة الأفق، وأخبر الوزير عن ذلك الرجل الكريم، البسيط بحاله، الكبير بإيمانه بالله.. فأعجب الوزير بذلك الرجل، أكثر مما أعجب به الملك.
وبعد عدة أيام، جاء الرجل إلى المدينة، وبعد أن قضى احتياجاته من سوق المدينة، سأل أحد السكان أن يدله على دار فلان الفلاني، فقال له : ما تريد من داره؟.. أتعلم من هذا الرجل؟.. قال له : كلا.. فقال له :
إنه ملك البلاد، وسآخذك إليه، إنه ملك طيب، وعادل.. فأخذه إلى قصر الملك، وقال للحرس : إن هذا الرجل يريد أن يقابل الملك.. فأخذه الحرس إلى البلاط لمقابلة الملك..
وحالما رآه الملك، نهض من مكانه، وترك حاشيته، واتجه إلى الرجل وأخذه بالأحضان، واستقبله
كما يستقبل الملوك والأمراء..
فقال له الرجل : لماذا لم تخبرني أنك الملك؟..
فابتسم الملك، وقال : أنا لا أحب التباهي، وأنا لذت بك كانسان عادي، وأنت قمت بضيافتي على أتم الوجه وأكثر.. ولقد نمت في كوخك المتواضع، نوما لم أنمه في هذا القصر الفاره.
وبعد أن قضى الرجل ثلاثة أيام في ضيافة الملك، قال الملك لوزيره الحكيم : إن الرجل يريد أن يعود إلى دياره، وأنا أريد أن أرد له الجميل، بأفضل مما فعله ذلك الرجل معي، فما الذي أصنعه معه؟.. وماذا تقترح علي أن أعطيه جزاء لما فعله معي؟..
فأجاب الوزير : إنك لن تستطيع أن تفعل ذلك، ولن تستطيع أن تجازيه كما فعل معك!..
فاندهش الملك، وقال : كيف ذلك؟.. لقد ذبح لي شاة واحدة، وأنا سأعطيه مئة شاة، وسأعطيه أرض زراعية من الأراضي التي تعود لي..
فأجاب الوزير : سيدي!.. إن ذلك الرجل لم يعطك مجرد شاة واحدة فقط، وإنما أعطاك كل ما يملك.. سيدي!.. إن ما فعله الرجل معك لم يكن كرما، وإنما كان إيثارا من عنده.. وهنالك فارق كبير بين الكرم والإيثار.. فالكرم هو أن تعطي الآخرين، ما يحتاجون إليه.. أما الإيثار هو أن تعطي الآخرين، ما تكون بأمس الحاجة إليه.. سيدي!.. أعطه مئة شاة وأرضا زراعية، فتكون بذلك معه كريما طيبا فحسب!.. وأما إذا أردت أن تكون ذا إيثار مثله، فيجب أن تعطيه كل ما تملك، كما أعطاك هو كل ما يملك..
أستحسن الملك رأي وزيره، وشكر الله عزوجل، وأعطى الرجل مئتي شاة، وأكثر من أرض زراعية من ملكه الخاص.
أعزائي!.. هل تعلمون ما هو الرابط بين ما شاهدت في التلفاز، وبين حكاية والدي رحمه الله؟..
إن الفضائية التي كنت أشاهدها، هي إحدى الفضائيات العراقية، التي كانت تنقل أحداث ومراسيم زيارة أربعينية سيدنا الحسين (ع).. لقد دهشت للأعداد الخيالية، التي كانت تسعى حول ضريح الإمام الحسين (ع)، وأخذني الفضول بهذا الموضوع.. وقلبت عدة فضائيات تتناول نقل هذا الحدث الكبير، فشاهدت في أخرى، أن هذه الجموع المليونية المتوافدة إلى كربلاء، كانت تأتي مشيا على الأقدام، قاطعة مئات الكيلومترات، من جميع مدن العراق، وحتى من بعض الدول الأخرى غير العراق، متحدية التعب والجوع والعطش والبرد والإرهاب.. وقد نصب الأهالي، الذين تقع بيوتهم في طريق الزوار، الخيام، لإيواء الزائرين ليلا، وتقديم وجبات الطعام لهم.
بالله عليكم!.. ما الذي دفع هؤلاء الناس إلى فعل ذلك، سوى علو شأن ا لإمام الحسين (ع)، عند الله عز وجل.. فالإمام (ع) جاد بأصحابه وبني عمومته وأخوته وأبنائه ونفسه الزكية، جاد بكل ما يملك لأجل إعلاء كلمة لا إله إلا الله عزوجل.. فكان ذلك أسمى درجات الإيثار، لأن الجود بالنفس أقصى غاية الجود.. فكان حقا على الله، بأن جعل قبره روضة من رياض الجنان، وجعل أفئدة من الناس تهوي إليه،
وجعله منارا للأحرار في هذا العالم.. ولم لا وهو سيد الشهداء، وسليل الشجرة المباركة التي يصفها القرآن الكريم، بأن أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها..
فسلام عليك يا أبا عبد الله، يوم ولدت، ويوم استشهدت، ويوم تبعث حيا.
وأخيرا - أحبتي -: فعلا هي قصة الإيثار، التي أقامت الدنيا وما أقعدتها.