زودنا الدكتور لبيب بيضون مشكوراً هذا الموضوع
++++++++++++++++++++++++++++
شرح خطبة الوداع
(حين خرج الحسين (ع) مِن مكة إلى العراق )
خطب الإمام الحسين (ع) قبيل خروجه إلى العراق خطبة الوداع لمكة ، قال فيها :
الحمد لله وما شاء اللّـهُ ولا قوةَ إلا بالله وصلى اللّـهُ عَلى رسوله .
" خـُطَّ الموتُ عَلى وُلد آدمَ مَخَطَّ القِلادة عَلى جِيد الفتاة . وما أولهني إلى أسلافي اشتياقَ يعقوب إلى يوسف !. وخِيرَ لي مصرعٌ أنا لاقيه . كأني بأوصالي تقطـّعها عُسلانُ الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأنَ مني أكراشاً جـُوَفاً وأجربةً سُغباً . لامحيصَ عن يَوم خُطَّ بالقلم . رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر عَلى بلائه ويوفّينا أجور الصابرين . لن تَشُذَّ عن رَسُول الله لـُحمته ، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس ( أي الجنة ) ، تَقَرّ بهم عينه ، ويُنجـَز بهم وعده . ألا ومَن كان فينا باذلاً مُهجته ، موَطّـِناً عَلى لقاء الله نفسه فليرحلْ معنا ، فإني راحلٌ مُصبِحاً إن شاء الله تَعالَى ".
شرح الخطبة :
يقول (ع) في هذه الخطبة :
( خـُطَّ الموتُ عَلى وُلد آدمَ مَخَطَّ القِلادة عَلى جِيد الفتاة ) .
نعم إن الموت محيط بكل الآدميين ، فكما أن الطوق الذي تضعه الفتاة حول عنقها ، لا يمكن للعنق أن يخرج منه لأنه محيط به ، كذلك الموت يحيط بنا مِن كلّ جانب ، فلا يمكننا الإفلات منه ، فهو قدَر حتمي على كلّ إنسان .
ثمّ يقول
:
( وما أولهني إلى أسلافي ، اشتياقَ يعقوب إلى يوسف ! ) .
الوله : هو شدة الشوق والحنين . فالإمام الحسين (ع) بعد أن بيّن حتمية الموت ، وأنه لا مفرّ منه مهما طال العمر ، قال : إنني في هذه الأوضاع العصيبة التي صرت إليها ، أحسّ بشوق كبير إلى لقاء أسلافي الذين سبقوني ، وهم النّبي (ص) والإمام علي (ع) وفاطمة الزهراء (ع) والحسن (ع) ، وإن شوقي إليهم شديد كاشتياق يعقوب إلى يوسف (ع) . وكيف لا يتوق إلى اللحاق بهم ، وهم في حظيرة القدس خالدون ، وفي مقعد الصدق منعَّمون ؟!.
ووجه الشبه بين الحالين كبير ، لأن يعقوب كان شوقه كبير لابنه يوسف ، لعلمه أنه حيّ يرزق ولم يمت ، وكذلك الحسين (ع) فان شوقه كبير إلى جده وأبيه وأمه وأخيه ، لعلمه بأنهم جميعاً أحياء عند ربهم يرزقون ، وأنه هو أيضاً إذا استشهد فسوف ينضمّ إلى مقعدهم القدسي عند المليك العظيم .
ثمّ يقول (ع) :
( كأني بأوصالي تقطـّعها عُسلانُ الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأنَ مني أكراشاً جـُوَفاً وأجربةً سُغباً ) .
عُسلان الفلوات : ذئابها . والأوصال : هي الأعضاء . الأكراش : جمع كرش . وجـُوَفا : أي واسعة . والأجربة : الأوعية . والسُّغب : الجائعة .
هذا الكلام كناية عن قتله (ع) ونبذه بالعراء وتركه عرضة لما ذكر . والمعنى هنا مجازي ، إذ أن جسم المعصوم لا تقربه الوحوش ولا تمسّه بسوء . والمعنى أنه (ع) ستقتله عصابة وتسلبه ، وتوزّع أهله وتسبي نساءه وأولاده ، عصابة هي أشبه ما تكون بذئاب الفلوات الجائعة ، تقطّع أوصال القتيل وتبعثر أعضاءه . وكنّى (ع) عن أهله وأولاده بالأوصال ، لأن صلتها به تنقطع بوفاته . بينما شبّه أعداءه بالذئاب الضارية ، التي ستهجم عليه فتقطع عضوه الأول علي الأكبر ، وعضوه الثاني عبد الله الرضيع ، وعضوه الثالث العباس ، وعضوه الرابع القاسم بن الحسن (ع) ... وهكذا .
وكأنهم في عملهم هذا ذئاب جائعة تريد أن تشبع نهمها وتملأ أجوافها . فأعداء الحسين لم يشبعوا حقدهم الدفين إلا بتقطيع أوصال الحسين (ع) وقتل عترته الطاهرة .
إن هذه المعركة التي يتنبأ بها الحسين (ع) قبل خروجه مِن مكة إلى العراق ، سوف يكون ميدانها الفلوات الواقعة بين النواويس وكربلاء .
النواويس : أرض تقع شمال غربي كربلاء . والنواويس جمع ناووس : وهو مِن القبر ما سدّ لحده . وكانت بها مجموعة مقابر للنصارى والأنباط ، واليوم يقال لها أراضي الجمالية . وقيل : إنها في المكان الَّذي فيه مزار الحر بن يزيد الرياحي .
وأما كربلاء فهي مؤلفة مِن كلمتين : كرب بمعنى معبد ، وإبلا بمعنى الإله ؛ فهي تعني معبد الإله . فقد كانت منذ القديم مكاناً لعبادة الناس ، ثمّ شاء اللّـهُ أن يدفن فيها الحسين والعترة الطاهرة (ع) فتعود كما كانت منارات للعبادة والتقوى .
أما نهر الفرات الجاري إلى الجنوب ، فعندما يصل إلى ( المسيَّب ) ينشطر إلى فرعين ؛ فرع غربي قريب مِن كربلاء يدعى العلقمي ، وفرع شرقي تقع عليه الحلّة ، وبين الفرعين تقع مدينة ( بابل ) التي كانت عاصمة الدولة البابلية ، وكان فيها الحدائق المعلقة ، وهي إحدى عجائب الدنيا السبع ، ثمّ اندثرت وبقيت أطلالها ، تشهد على حضارة إنسانية غابرة .
وفي حين بنى البابليون وغيرهم حضارات مادية شامخة ، لم تلبث أن اندثرت ، فإن الحسين (ع) بنى في كربلاء حضارة لا تندثر ؛ هي حضارة الحقّ والعدل والحرية الإباء ، وعلّم الإنسان كيف يعيش حراً أو يموت عزيزاً .
* * *
وأما مَن ظنّ أن الحسين (ع) تأكله الذئاب والسباع فعلاً ، فهذا وهمٌ منافٍ لقدسية الإمام (ع) وأن جسده يبقى سليماً دون أن يفنى ، كما ثبت عن الأنبياء والمعصومين جميعاً ؛ فضلاً عن أن تأكلهم الوحوش . فالحيوانات تعرف قدر المعصوم أكثر مِن الناس ، ولا تتعرض له بأي أذى ، بل إن بعضها يعرف للإمام حرمةً لجسده بعد موته ، فتلتجئ إلى قبره وتلوذ به عندما تشعر بأي خطر ، كما حصل لمرقد الإمام علي (ع) الذي كانت تعوذ به غزلان النجف ، وكان سبباً لكشف مرقده الشريف في عهد هارون العباسي في قصة مشهورة .
ويمتدّ هذا الأمر إلى كافة الشهداء ، الذين يظلّ جسمهم طرياً بعد الموت ، ولا يبلى أو يتعفن ، بل تنضح منه رائحة كرائحة المسك ، كما ثبت لجون مولى أبي ذرّ الغفاري . أما الحر بن يزيد الرياحي فحين اختصم العلماء حوله ، هل مات مذنباً أم مغفوراً له ، فقال أحدهم للوالي : نكشف قبره ، فإن وجدناه لم يفنَ كان شهيداً . فلما كشفوا عنه وجدوه كما هو ، كأنه مات في تلك اللحظة ، ولما حرّكوا العصابة التي على رأسه ، نزّ الدم مِن جرحه ، فكبّروا وعرفوا حرمة الحرّ ، وأن الله قبل توبته ، وأنه مِن أعظم الشهداء .
وفي دمشق حدث دليلان حيّان على صحة ما نقول .
الحادثة الأولى :
فحين أرادوا إصلاح قبر الطفلة رُقـَيّة بنت مولانا الحسين (ع) داخل باب الفراديس ( العمارة ) حملها السيد إبراهيم مرتضى خلال إصلاح القبر ، ووضعها في حضنه وهي في كفنها الأبيض ، فلما كشفه وجدها نائمة وكأنها توفيت لحينها ، ثمّ أعادها إلى مثواها . وجرت في تلك الحادثة كرامات كثيرة (1).
الحادثة الثانية :
ولما كُشف عن الرؤوس الستة عشر في مقابر أهل البيت (ع) في باب الصغير ، عند إصلاح مقام رؤوس الشهداء وتوسيعه ، وجدت الرؤوس سليمة بلحمها ودمها وكأنها قطعت الآن ، وفيها رأس علي الأكبر والعباس والقاسم ابن الحسن (ع) وبقية شهداء أهل البيت (ع) ، ومعهم رأس الصحابي الجليل حبيب بن مظاهر .
فالسلام عليك يا سيدي ويا مولاي يا أبا عبد الله الحسين (ع) ، والسلام على المستشهدين معك ، ورحمة الله وبركاته .
=========================================
د لبيب بيضون - دمشق العقيلة
إلى روح والديه الفاتحة
(1) للاستزادة مِن ذلِكَ راجع كتابنا ( موسوعة كربلاء ) ج2 ص 620 - 623 .