عاقبة الصبر
قال تعالى في مطلع سورة مريم (ع) التي تحكي قصة يحيى (ع) ، المشابهة في بعض فصولها لقصة مولانا الحسين (ع) ، قال برموز مجفَّرة لا يعلم تأويلها إلا الراسخون في العلم : { كهيعص } ، وهي مرآة الأسرار ، ومركز دائرة النّبي المختار . وهي علم مخزون ، وهي مِن المكنون ، فيها ذكرى للعالمين .. تؤتي أُكُلَها كلّ حين ، بصورة يوسفية ومكرمات مريمية ، ونفحة مسكية وفتحة مكية .
وأما مفاتيحها مِن الأسماء القدسية ، فهي : ( ك ) مِن كافي - ( هـ ) مِن هادي - ( ي ) مِن يقين - ( ع ) مِن عليّ - ( ص ) مِن صمد .
وقد كان النّبي (ص) يضع تسعة عشر حرفاً على ترس كبير ، ينصبه في مقدمة الجيش في كلّ غزوة ، منها { كهيعص حمعسق } ، وفي مركز الترس ( حم لا ينصرون ) ، فكان لا يدخل معركة إلا وينتصر فيها .
وقد كان النّبي (ص) يقول : اللهم يا كهيعص، ويا حمعسق ، اغفر لي وارحمني. وكان يقول : لا يدعو أحدكم بهذا الاسم إلا استجيب له وقضيت حاجته . وقال (ص) : " إذا لقيتم العدوّ فشعاركم ( حم لا ينصرون ) .
واعلم أن لهذا الاسم الشريف المعظم { كهيعص } خمسة حروف ، تحاكي الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام ، وهي شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحجّ البيت مَن استطاع إليه سبيلاً .
كما تحاكي الأصول الاعتقادية الخمسة ، وهي : التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد .
وفي الخمسة يقول النّبي (ص) : " لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله مِن أين اكتسبه ، وفيما أنفقه ، وعن حبّنا أهل البيت " (1).
كما تحاكي الصلوات المفروضة الخمس ، والمغيبات الخمس ، والحواس الخمس ، والأصابع الخمس . وخير الخـَمْس أصحاب الكساء (ع) ، وهم علّة وجود الكون ، وسرّ الله المكنون ، وفيهم قال الشاعر :
لي خمسة أُطفي بهم
نارَ الجحيم الحاطمهْ
المصطفى والمرتضى
وابناهما و فاطمه
ولما كان لكل آية في القرآن ظاهر وباطن ، والباطن له باطن إلى سبعة أبطن ، وقفنا عند هذه الآية المكنونة { كهيعص } على معانٍ وأسرار لا تحصى . ومن أسرارها العميقة أنها تحكي بحروف رمزية قصة استشهاد الإمام الحسين (ع) ، التي تشبه قصة مقتل النّبي يحيى (ع) . فكأن الله تعالى كان بهذه الرموز يذكّر النّبي (ص) بمحنته بحفيده الحسين (ع) ، ثمّ يسلّيه بما حصل مع يحيى (ع) ، الذي لم يهبه سبحانه لأبيه زكريا بعد الكبر والوهن ليكون وريثه الوحيد ، حتى كتب عليه أن يقدّم نفسه قرباناً للحق ، فذُبح بأمر ملك طبريا ( هيرودُس ) ، وقُدّم رأسه على طشت مِن ذهب إلى الملك وهو في مجلس شرابه ، تماماً كما قُدّم رأس الحسين (ع) إلى أشقى الأشقياء يزيد ، فجعل ينكت ثغره بمخصرته ، ثمّ شرب ابتهاجاً بقتله نخبَ الانتصار مِن الخمر والفقّاع ، مع قواده ووزرائه ، والرأس منصوب أمامه .
عن الإمام الحجة (ع) لما سئل عن معنى هذه الحروف الخمسة { كهيعص } قال : " فأما الكاف فدلالة على كربلاء ، وأما الهاء فدلالة على هلاك العترة ، وأما الياء فدلالة على يزيد قاتل الحسين ، وأما العين فدلالة على عطشه ، وأما الصاد فدلالة على صبره
". ثمّ قال الإمام الحجة (ع) : " إن هذه الحروف هي مِن أنباء الغيب الذي أطلع اللّـهُ عليه عبده زكريا ، ثمّ قصّها على محمّد صلـّى اللهُ عليه وآله وسلّم ".
فضيلة الصبر :
والان ندخل في مقصدنا الأساسي مِن موضوعنا وهو الصبر ، باعتبار أن الحسين (ع) كان أكبر المجاهدين ، وإمام الصابرين .
يقول تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ، إن الله مع الصابرين * ولا تقولوا لِمـَن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ ، بل أحياء ولكن لا تشعرون * ولَنبلُوَنَّكم بشيء مِن الخوف والجوع ونقصٍ مِنَ الأموال والأنفس والثمرات ، وبشِّر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون } " سورة البقرة 153 - 156 ".
جاء في تفسير المنار : " إن الصبر ذُكر في القرآن سبعين مرة ، وهذا يدلّ على عظم أمره ، وقد جُعل التواصي به في سورة العصر مقروناً بالتواصي بالحق ، إذ لابدّ للداعي إلى الحقّ منه ".
ورغم أنه جاء الأمر بالصبر في القرآن ، إلا أن الصبر لا يُحمد لذاته ، ومن حيث هو ، وإنما يحمد ويحسن إذا كان وسيلة لغاية نبيلة ؛ كالصبر في الجهاد المقدس ، والصبر على الفقر والعوز مِن أجل العلم وتحصيله ، والصبر على المكاره مِن أجل العيال ، وتربية الأطفال ، أو لإغاثة ملهوف ، والصبر على كلمة مِن سفيه دفعاً للشر ، أو على فقد عزيز لا يرده الجزع والهلع ، بل يزداد المصاب بهما تفاقماً .
قال أمير المؤمنين (ع) : " مَن عظّم صغار المصائب ابتلاه اللّـهُ بكبارها "، أي إن الجزع مِن المصيبة يوقع صاحبها فيما هو أشدّ وأعظم .
وقد يكون الصبر قبيحاً مذموماً ؛ كالصبر على الجوع مع القدرة على العمل ، والصبر على الاضطهاد والظلم ، ففي هذه الحال لا يحسن الصبر على الجور والجوع ، وإنما يحسن مكافحة الظالم ومقاومته .
وقد فُسّر الصبر الذي في الآية { واستعينوا بالصبر والصلاة } بأنه الصوم ، لما فيه مِن صبر وزجر للنفس عن تناول المباحات والضرورات ، فإذا صام المرء عن المباح والحلال ، كان أجدر به أن يصوم عن المحظور والحرام . فالصوم والصلاة يروضان نفس المؤمن على طاعة الله والتزام أوامره ونواهيه ، وهذا يحتاج إلى صبر وجهاد للنفس ، دونه جهاد العدو .
ثمّ يضرب القرآن أكبرَ مثَل للصبر ، وهو صبر المؤمن الذي يقدّم روحه وكلّ ما يملك قربة لله ، فيقول : { ولا تقولوا لِمـَن يقتل في سبيل الله أمواتٌ ، بل أحياء ولكن لا تشعرون } . فالشهداء لا يموتون ، لأنهم شاهدون في حياة الناس وضمائرهم ، كما أنهم شاهدون عند ربهم يعيشون ويرزقون ، فهم ينتقلون مِن ساحة الجهاد إلى جنات النعيم .
وقد نزلت هذه الآية في شهداء بدر ، وعددهم 22 شهيداً . فحين كان يقال عنهم : مات فلان وفلان ، نزلت الآية : { ولا تقولوا لِمـَن يقتل في سبيل الله أمواتٌ } .
ومهما يكن مِن أمر ، فإن الذي نؤمن به هو أن مَن استشهد دفاعاً عن الإسلام ، أو عن أي شيء يتصل بالحق والعدل ، فإنه ينتقل مِن عالم الشهادة إلى عالم الغيب ، ويحيا هناك حياة طيّبة ، وأنه يمتاز عند الله عمن مات حتف أنفه . قال أمير المؤمنين (ع) : " والذي نفس ابن أبي طالب بيده ، لألفُ ضربة بالسيف أهون عليّ مِن ميتة على فراش ".
المؤمن ممتحن :
ثمّ يقول تعالى : { ولَنبلُوَنَّكم بشيء مِن الخوف والجوع ونقصٍ مِنَ الأموال والأنفس والثمرات ، وبشِّر الصابرين } . والواقع أنه ما اتبع الحقَّ أحد إلا دفع ثمنه مِن نفسه وأهله وماله . وكلما عظمَ الحقّ الذي يدافَع عنه ، كلما عظم الثمن والفداء ، ولولا هذا لم يكن لأنصار الحقّ مِن فضل . وبهذا نجد تفسير الحديث الشريف : " البلاء موكّل بالمؤمن ، وإن أشدّ الناس بلاءً الأنبياء ، ثمّ الذين يلونهم الأمثل فالأمثل ". ويأتي بلاء الأنبياء على قدر منزلتهم ، حتى قال الرسول الأعظم (ص) : " ما أوذي نبيّ بمثل ما أوذيت ". وقال أمير المؤمنين (ع) : " إن الحقّ ثقيل مريء ، والباطل خفيف وبيء ". وكفى شاهداً قوله تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنـّةَ ولَمّا يأتكم مَثَلُ الذين خلَوا مِن قبلكم ، مَسَّتْهم البأساءُ والضرّاء } " البقرة 214 " (1).
والذي يدقّق في الأخبار تظهر له حقيقة واضحة مفادها أن الأجر والثواب لا يكون إلا لمن أوذي في سبيل الله والدين ، فصبرَ وتحمّل ، وأصابه الضغط والبلاء في سبيل الحقّ والعدل فجاهد وضحّى . وأن معيار القيمة والمنزلة عند الله هو بقدر تحمل المشاق والصبر في سبيل مرضاة الله ، وأن الجنة حُفّتْ بالمكاره ، كما حُفّت النار بالشهوات ، وأن ثمن السعادة الشهادة ، وأن الجنة تحت ظلال السيوف .
يقول النّبي (ص) حين سأله الإمام علي (ع) عن فضل الشهيد :
" فإذا برزوا لعدوهم ، وأُشرعت الأسنة وفُوّقت السهام ، وتقدّم الرجل إلى الرجل ، حفّتهم الملائكة بأجنحتها ، يدعون الله بالنصرة والتثبيت . فينادي منادٍ : الجنة تحت ظلال السيوف ، فتكون الطعنة والضربة على الشهيد أهون مِن شرب الماء البارد في اليوم الصائف . وإذا زال الشهيد مِن فرسه بطعنة أو ضربة ، لم يصل إلى الأرض حتى يبعث اللّـهُ إليه زوجته مِن الحور العين ، فتبشّره بما أعدّ اللّـهُ له مِن الكرامة . فإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض : مرحباً بالروح الطيّب ، الذي أُخرج مِن البدن الطيب ، أبشرْ فإن لك ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ، ولا خطرَ على قلب بشر (1).
تلك كانت جائزة سيد شهداء كربلاء الحسين بن علي (ع) ، وعلى قدر ما تحمّل في الدنيا حمل مِن الثواب في الآخرة ، حتى حاز شهادة عنوانها :{ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنـّة } .
لقد تكالب أعداء الدين والإسلام على أعلام الحقّ والإيمان ، فجمعوا لهم كلّ مجمع ، وسنّوا لهم كلّ سنان ، حيث تفتّقت أحقاد الجاهلية ، ونُزعت الرحمة مِن كلّ جَنان . يقول الحسين (ع) يوم عاشوراء :
كفر القوم و قِدماً رغبوا
عن ثواب الله ربِّ الثقلينْ
قتلوا قِدماً علياً وابنه
حَسَنَ الخير وجاؤوا للحسين
ويقول الشريف الرضي في قصيدته المقصورة :
لو بسبطَي قيصر أو هرقلٍ
فعلوا فِعلَ يزيدٍ ما عدا
قتلوهُ بعد علمٍ منهمُ
أنه خامس أصحاب الكِسا
ومنذ سقط (ع) عن جواده تساقطت نجوم السماء على بعضها تأسياً وأسى . ثمّ نهض يقاتل على رجليه حين كادت الأرض تميد مِن بأسه وهوله ، وحمل على القوم كالليث المغضب ، فجعل لا يلحق أحداً إلا بعجه بسيفه وألحقه بالحضيض ، والسهام تأخذه مِن كلّ ناحية ، وهو يتلقاها بنحره وصدره ، حتى صار جسمه كالقنفذ . ورجع إلى مركزه وهو يكثر مِن قول : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ثمّ جعل (ع) يقاتل حتى أصابته اثنتان وسبعون جراحة . فوقف يستريح وقد ضعف عن القتال ، والنزيف يملأ منه المكان والأكوان . فبينا هو واقف إذ أتاه حجر فوقع عَلى جبهته الشريفة ، فسالت الدماء مِنها على وجهه . فأخذ الثوب ليمسح الدم عن جبهته ، فأتاه سهم محدّد مسموم له ثلاث شعب ، فوقع في قلبه . فقال الحسين
: بسم الله وبالله وعلى ملّة رَسُول الله . ورفع رأسه إلى السماء وهو يقول :
صبراً عَلى قضائك يارب ، لا إله سواك ، يا غياث المستغيثين . مالي ربّ سواك ، ولا معبود غيرك . صبراً عَلى حكمك . يا غياث مَن لا غياث له ، يا دائماً لا نفاد له . يا محيي الموتى ، يا قائماً عَلى كل نفس بما كسبت ، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين .
وحين جاء سنان وخولي ليحـتـزّا رأسه الشريف ، لم يرعدهما شيء مثل صورة وجه الحسين (ع) وهو يبتسم في وجههما ببسمة السرور والرضا ، مستبشراً بما حاز مِن فوز الدنيا والأخرة .
وما أن حزّ الشمر رأسه الشريف حتى كبّر الحسين بفوز الرحمن ، وكبّر القوم بخزي الشيطان . وفارقت روحه الطاهرة أرض الدنس والآثام ، لتجد مقعدها المطهر في أحسن دار ومقام .
{ ولا تحسبَنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً ، بل أحياءٌ عندَ ربهم يُرزقون * فرحينَ بما آتاهمُ اللّـهُ مِن فضله ، ويستبشرون بالّذين لم يلحقوا بهم مِن خلفهم ، ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون } . " آل عمران 169 و170 ".
(1) الخصال للصدوق ، ج1 ص 253 .
(1) التفسير الكاشف لمحمد جواد مغنية ، مجلد 1 ص 242 .
(1) مجمع البيان لطبرسي ، ج2 ص 884 . =============================
منقول عن كتاب : أوراق حسينية للدكتور لبيب بيضون ، إلى والديه الفاتحة .