بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها
صلاة لا يقوى على عدها وإحصائها أحد غيرك يا ااااالله
تجليات رحمانية
وصية الإمام إلى السالكين
وصية إلهية عرفانية سلوكية للإمام إلى إبنه السيد أحمد (رحمه الله)، يذكر فيها أمهات المسائل التوحيدية والعملية
ومن المهم أن يلتفت القارئ إلى أن هذه الوصية بمعظمها تنقسم إلى قسمين متداخلين: الحقائق والوصايا العملية. وما لم ندرك الحقائق لا نستفيد من الوصايا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآلة الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأن عليّاً أمير المؤمنين
وأولاده المعصومين صلوات الله عليهم خلفاؤه وأن ما جاء به رسول الله
وسلم حقٌ، وأن القبر والنشور والجنة والنار حقٌ وأن الله يبعث من في القبور
وصية من أب عجوز أهدر عمره ولم يتزوّد للحياة الأبدية ولم يخط خطوةٌ خالصةٌ لله المنان، ولم ينج من الأهواء النفسانية والوساوس الشيطانية، لكنه غير آيس من فضل وكرم الكريم تعالى وهو يأمل بعطف وعفو الباري جلَّ وعلا، ولا زاد له سوى هذا.. إلى إبن يتمتّع بنعمة الشباب متاحة أمامه فرصة لتهذيب النفس وللقيام بخدمة خلق الله، والأمل أن يرضى الله تعالى عنه، كما رضي عنه أبوه، وأن يُوفَّق لخدمة المحرومين الذين يستحقون أكثر من بين جماهير الشعب وقد أوصى بهم الإسلام
بُنيّ أحمد - رزقك الله هدايته:
إعلم، أن العالم سواء كان أزلياً وأبدياً أم لا، وسواء كانت سلاسل الموجودات غير متناهية أم لا، وسواء كانت سلاسل الموجودات غير متناهية أم لا، فإنّها جميعا محتاجةٌ، لأن الوجود ليس ذاتياً لها، ولو تفكرت وأحطت عقليا بجميع السلاسل غير المتناهية فإنك ستدرك الفقر الذاتي والاحتياج في وجودها وكمالها إلى الوجود الموجود بذاته والذي تمثل الكمالات عين ذاته. ولو تمكنت من مخاطبة سلاسل الموجودات المحتاجة بذاتها خطاباً عقليا وسألتها:
أيتها الموجودات الفقيرة، من يستطيع تأمين احتياجاتكم؟
فإنها ستردُّ جميعا بلسان الفطرة: "إننا محتاجون إلى من ليس محتاجاً مثلنا إلى الوجود، وكمال الوجود
". وهذه الفطرة أيضاً ليست من ذاتها، ففطرة التوحيد {.. فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ..}(الروم/30) من الله، والمخلوقات الفقيرة بذاتها لن تتبدل إلى غنية بذاتها، فمثل هذا التبديل غير ممكن الوقوع، ولأنها فقيرى بذاتها ومحتاجه، فلن يستطيع سوى الغني بذاته أن يرفع فقرها واحتياجها. كما أن هذا الفقر الذي هو لازم ذاتي لها، هو صفة دائمة أيضا، سواء كانت هذه السلسلة أبدية أم لا، أزلية أم لا، وليس سواه تعالى من يستطيع حل مشاكلها وتأمين احتياجاتها. كذلك فإن أيّ كمال أو جمال ينطوي عليه أي موجود ليس منه ذاتا، إنما هو مظهر لكمال الله تعالى وجماله {.. وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى..}(الأنفال/17) حقيقةٌ تصدق على كل شيء وكل فعل وكل قول وإن كلُّ من يدرك هذه الحقيقة ويتذوقها، لن يتعلق قلبه بغير الله تعالى، ولن يرجوَ غيره تعالى.
هذه بارقةٌ إلهية، حاول أن تفكر فيها في خلواتك، ولقن قلبك الرقيق وكررها عليه إلى أن ينصاع اللسان لها، وتسطع هذه الحقيقة في ملك
وملكوت وجودك. وارتبط بالغنيّ المطلق حتى تستغني عمن
سواه،واطلب التوفيق منه حتى يجذبك من نفسك ومن جميع من
سواه،
ويأذن لك بالدخول والتشرف بالحضور
ولدي العزيز:
إن الله جلّ وعلا {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ..}(الحديد/3) "أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك ؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيبا"(4- مقطع من دعاء الإمام الحسين يوم عرفة).
فهو ظاهر، وكل ظهور هو ظهور له، ونحن بذاتنا حجب. فأنانيتنا وإنيّتنا هي التى تحجبنا "أنت حجاب نفسك، فانطلق منه يا حافظ"(6- مقطع من بيت شعر لحافظ الشيرازي)
فلنلذ به ولنطلب منه -تبارك وتعالى- متضرعين مبتهلين أن ينجينا من الحجب "إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعزِّ قدسك، إلهي واجعلنى ممن ناديته فأجابك، ولاحظته فصعق لجلالك"(7- مقطع من المناجاة الشعبانية).
بني:
نحن ما زلنا في قيد الحجب الظلمانية، وبعدها الحجب النورية، ونحن المحجوبون ما زلنا عند منعطف زقاق ضيّق.
بني:
إن لم تكن من أهل المقامات المعنوية، إسعَ أن لا تُنكر المقامات الروحانية والعرفانية، لأن الإنكار من أخطر مكائد الشيطان والنفس الأمارة بالسوء التي تصدُّ الإنسان عن بلوغ جميع المراتب الإنسانية والمقامات الروحانية. وهو يدفع الإنسان إلى إنكار السلوك إلى الله والاستهزاء به أحيانا، مما يجر إلى الخصومة والمعاداة لهذا الأمر. وبهذا فإن ما جاء به جميع الأنبياء العظام (صلوات الله عليهم) والأولياء الكرام (سلام الله عليهم) والكتب السماوية خصوصا القرآن الكريم -كتاب بناء الإنسان الخالد، ستموت قبل أن تولد
فالقرآن الكريم -كتاب معرفة الله وطريق السلوك إليه تعالى حُرِّف على أيدي الأصدقاء الجهلة عن طريق وعزل جانباً، فجعلوا يصدرون عنه الآراء المنحرفة، ويفسرونه بالرأي - الأمر الذي نهي عنه جميع أئمة الإسلام
- وراح كل واحد منهم يتصرف فيه بما تمليه نفسانيته.
لقد نزل هذا الكتاب العظيم في عصر وفي محيط كان يمثل أشد حالات الظلام، كما نزل بين قوم يعيشون في أشد حالات التخلف وقد أُنزل بيد شخص وعلى قلب إلهي لشخص كان يعيش في ذلك المحيط. كذلك فإن القرآن الكريم اشتمل على حقائق ومعارف لم تكن معروفة آنذاك في العالم أجمع فضلاً عن المحيط الذي نزل فيه. وإن من أعظم وأسمى معاجزه هي هذه المسائل العرفانية العظيمة التي لم تكن معروفة لدى فلاسفة اليونان، فقد عجزت كتب أرسطو وأفلاطون -أعظم فلاسفة تلك العصور- عن بلوغها وحتى أن فلاسفة الإسلام الذين ترعرعوا في مهد القرآن الكريم، وانتهلوا منه ما انتهلوا من مختلف المعارف لجأوا إلى تأويل الآيات التي صرحت بحياة الموجودات في العالم مثلا، والحال أن عرفاء الإسلام العظام إنما أخذوا ما قالوه منه، فكل شيئ أخذوه من الإسلام ومن القرآن الكريم.
. فالمسائل العرفانية الموجودة في القرآن الكريم ليست موجودة في أي كتاب آخر. وإنها لمعجزة الرسول الأكرم
وسلم إذ كان على معرفة بمبدأ الوحي بحيث يكشف له أسرار الوجود، وكان هو
وسلم بدوره يرى الحقائق بوضوح ودون أي حجاب وفي ذات الوقت كان حاضرا في جميع أبعاد الإنسانية ومراحل الوجود، فمَثَّل بذلك أسمى مظهر لـ{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ..}(الحديد/3) كما سعى إلى رفع جميع الناس للوصول إلى تلك المرتبة.
وكان يتحمل الآلام والمعاناة حينما كان يراهم عاجزين عن بلوغ ذلك، ولعل قوله تعالى {طه*مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}(طه/1،2) إشارة خفية إلى هذا المعنى، ولعل قوله
وسلم: "ما أوذي نبي مثلما أوذيت"(10- ورد هذا الحديث الشريف في كتاب كنز العمال ج 11 ح 32161 على الشكل التالية: "ما أوذي أحد مثل ما أوذيت في الله".) يرتبط أيضا بذات المعنى.
إن أولئك الذين بلغوا هذا المقام أو ما يماثله، لا يختارون العزلة عن الخلق أو الانزواء، فهم مأمورون بإرشاد وهداية الضالّين إلى هذه التجليات، وإن كانوا لم يُوفقوا كثيرا في ذلك، أما أولئك الذين بلغوا مرتبة ما من بعض هذه المقامات، وغابوا عن أنفسهم بارتشاف جرعة ما، وظلوا بذلك في مقام الصعق، فإنهم وأن كانوا قد حازوا مرتبة ومقاما عظيما، إلا أنهم لم يبلغوا الكمال المطلوب. لقد سقط موسى الكليم
بحال الصعق نتيجة تجلي الحق، وأفاق بعناية إلهية خاصة، ثم أمر بتحمل أُمر ما، وكذا فإن خاتم النبيين، الرسول الأكرم
وسلم أمر بعد بلوغه القمة من مرتبة الإنسانية- وما لا تبلغه الأوهام من مظهرية الإسم الجامع الأعظم- بهداية الناس بعد أن خاطبة تعالى{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ*قُمْ فَأَنذِرْ}(المدثر/1ولدي العزيز:
هدفت مما ذكرته لك -رغم أني لا شيء، بل أقل حتى من اللا شيء- أن ألفت نظرك إلى أنك إن لم تبلغ مقاماً ما فلا تنكر المقامات المعنوية والمعارف الإلهية، وكن من أولئك الذين يحبون الصالحين والعارفين، وإن لم تكن منهم. ولا تغار هذه الدنيا وأنت تكنّ العداء لأحباب الله تعالى.
بني:
تعرف إلى القرآن -كتاب المعرفة العظيم- ولو بمجرد قراءته، وشق منه طريقا إلى المحبوب، ولا تتوهمن أن القراءة من غير معرفة لا أثر لها، فهذه وساوس الشيطان، فهذا الكتاب كتابٌ من المحبوب إليك وإلى الجميع، وكتاب المحبوب محبوبٌ، وإن كان العاشق المحب لا يدرك معنى ما كُتب فيه وقد جاء إليك هادفاً خلق هذا الأمر لديك: "حب المحبوب" الذي يمثل غاية المرام، فلعله يأخذ بيدك.
واعلم أننا لو أنفقنا أعمارنا بتمامها في سجدةِ شكر واحدة على أن
القرآن كتابنا؛ لما وفينا هذه النعمة حقها من الشكر.