اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
حفل زفاف
كانت إجازة نهاية العام تطرق الأبواب طرقا عنيفا، طرق من يريد دخول بيت عنوة. والاختبارات النهائية تسابقها، سباق الرياح لحركة الأرض. والأبناء اخذوا يتنفسون هواء الحرية، بعد ضغط الدراسة في الشهور الماضية، كأنما دهرا مر وهم منكسو رؤوسهم بين الأوراق والكتب.
في عصر احد الأيام العالية الحرارة والشديدة الرطوبة، حيث ظلال جدران البيوت لم تستطع صد وهج الشمس الذي يصهر الرؤوس صهر النار للحديد. وأغطية الرأس والملابس لم يكن بمقدورها منع الرياح الترابية من لفح الوجوه والأجسام، كيد حديدية تصفع وتلكم في سموم صحراء قاحلة.
وغابت الغيوم عن وجه الشمس، مما جعلها تظهر واضحة في قبة السماء، كعروس في كامل زينتها. هذا مع استعدادها لمغادرة النهار، إيذانا بنهاية دورها وانطفاء نورها. وقرب هبوط الظلام وانتشار سواده، كمعطف شتوي ثقيل، استعدادا لاستقبال القمر كعريس يزف لعروسه.
حينها كان أفراد العائلة قرب مكتب السفر، وهم في عجلة من أمرهم، يزاحمون بقية المعتمرين لركوب الحافلة، هروبا من الجو القاتل، وتحاشيا لإسفلت الشارع الحارق، الذي يغلي كالزيت على النار. فسافروا فرحين مبتهجين، تطير أروحهم لمعانقة الكعبة المشرفة، كسرب طير متجهه لمسقط رأسها.
في احد رحلاتهم اليومية، كانوا يتنقلون بين الشوارع والأزقة، قاصدين التشرف بزيارة الحرم المكي، والطواف حول الكعبة المشرفة والصلاة قربها، وعيونهم شاخصة لمنارات الحرم وهي تتطلع إليهم بلهفة وشوق، وهم شاخصين بأبصارهم لأحد بوابات البيت الحرام، والشعور بأنهم يساقون لجنة الخلد وملك لا يبلى يغمرهم.
قطع عليهم ذلك النعيم وتلك البهجة الروحية، خروج مجموعة من الناس من احد الفنادق الفاخرة القريبة باتجاه بيت الله الحرام دفعة واحدة، وهي بابها حللها وازين ثيابها، كأنها مدعوة لصالة أفراح، لحضور حفل زفاف مسؤول كبير.
لفتت أنظارهم أشكالهم، وشد انتباههم لهجتهم، فاعترضوهم مسلمين وتعرفوا عليهم مقتربين، فتبين لهم جيرانهم من البلد التي قدموا منها.
أنصدم الجيران لوجودهم، ودخلوا في بعضهم واختلفوا في ما بينهم، وكادوا يقعون أرضا من هول الصدمة، وانقلب اعتدال الجو وطيب هواءه، لحرارة شديدة في صدورهم، وتصبب العرق من وجوههم، كأنهم تحت دش ماء ساخن، إذ لم يتوقعوا وجود من يعرفهم. وتبادلت النساء الأخبار على عجل.
- متى وصلتم؟
- قبل يومين تقريبا.
- هل جئتم لوحدكم، أم مع حملة؟
لم يستطيعوا الإجابة وتلعثموا لفقد النطق، كمن أطبق على لسانه عقرب فلا يستطيع التخلص منه. وفاجأهم السؤال التالي.
- أين تسكنون؟
عندها اخذ أولاد الجيران يجرون ملابس أهليهم ليستعجلوا في الحركة، خوف الدخول في تفاصيل فاضحة. فاعتذروا منصرفين، لا يعرفون أين يتجهون، ولو لا وجود الرخام أسفل منهم لطار الغبار والأتربة، كما طارت ملابسهم ورائهم، كأشجار قصب في يوم عاصف. وراحوا يختفون بين الزوار والمعتمرين، مثل السراب يتلاشى بفعل حرارة الشمس.
واصلت العائلة طريقها وهي لا تزال تنظر إليهم باستغراب، كمن ينظر لشبح تجلى له وسط الظلام.
ورب البيت تتغير ملامحه وتتشكل تعبيرات وجه حتى أضحت صارمة. يقلب الأمر في رأسه، يوجه أسألته لزوجه دفعة واحدة، كصواريخ تطلق من منصة، دون انتظار إجابتها:
الم تقولي يعيشون على معونات الضمان الاجتماعي؟!
الم تقولي إن مدخولات أبنائهم زهيدة؟!
الم تقولي يطلبون من الجيران ابسط الأشياء مثل الملح والبصل؟!
ومع كل سؤال كانت زوجه تهز رأسها بالإيجاب دون أن تتكلم، لأنها أيضا كانت في حيرة.
بقلم: حسين نوح مشامع – القطيف، السعودية