اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
دوحة المتقاعدين -2
في احد الايام دعي مصطفى لوليمة عامة، في احد مساجد المنطقة. لم يكن ليمتنع عن الحضور، لقرب المسجد من مقر عمله، ولكون الوليمة شبه رسمية، دعي اليها شخصيا من قبل القائمين على المسجد.
في هذه المناسبات وخاصة الدسمة منها، لا يستطيع الطبع الغالب مقاومتها. على عكس التجمعات الدينية البحتة، التي ينفر منها الناس، لانها موجهة لتحميلهم المسؤلية.
في هذه التجمعات تلتقي باصناف من الناس، لم تكن لتراهم في اي وقت اخر. أناس لم ترهم منذ وقت طويل، وانقطعت معهم العلاقة، لانشغال كل حي باموره الخاصة. فتكون النفس منفتحة، ليس لالتهام الطعام فقط، ولكن للجلوس الى هؤلاء الاشخاص، ومعرفة اخبارهم.
بعد صلاة العصر جلس الى سفرة الطعام، وكل العادة لم يكن وحده، ولم يكن بمقدوره لكثرة المدعوين، اختيار الصحبة المناسبة. فتوجب عليه افساح المجال لمن بجواره.
جلس معه وعلى صحن واحد، احد المسنيين. واضح على هيكل جسمه الضعف والنحول، وعلى وجهه الحزن والألم، وبدا كأنه قد تجاوز المائة. كشجرة أسقط عنها أوراقها، في فصل خريف، فاخذت الرياح تتلاعب بها يمنة ويسرة.
لهول مظهره، لم يتمكن مصطفى من مقاومة طرح السؤال، بل أسئلة كثيرة عن حاله. فبدأ بتعريف نفسه، ولكن بسؤال استفهامي: هل تعرفني؟
كيف لا اعرفك، ولقد جلسنا معا على كراسي الدراسة قبل اكثر من اربعين سنة!
فتح مصطفى فاه باستغراب، لهول الفارق بينهما.
وكأنه فتح الباب على مصرعيه، ليلج عبره بكل همومه وآلامه. فلم ينتظر ان يسأل مرة اخرى. فنظر الى كثرة من حوله في فرح وحبور، ثم تنفس الصعداء. وأرسل آهة طويلة حارة، شعرب بها من كان بقربهما، كمن خرج للتو من فرن خباز.
انقلبت تلك ألآهات في دقائق معدودة الى حزن وألم. فأراد اخراجه من صندوق حزنه، بسؤال آخر، جعله أكثر حيرة، وأكثر الما. ما بك، هل تذكرت الماضي!؟
قال لا، ولكن تذكرت المآسي. ثم مضى يتكلم، كأنه يقذف ما في معدته. لم يمض على تقاعدي اكثر من سنة، انقلبت حالي رأس على عقب.
سأله مصطفى: وكيف ذلك؟
ان مثل هذه التجمعات تخرجني من حزني، وتجعلني انسى ما انا فيه من الم.
فستوقفه مصطفى مرة أخرى، لماذا أقدمت على التقاعد إذاً؟
لم اطلب التقاعد، ولكن أجبرت عليه، لاعتلال صحتي، وعدم مقدرتي مواصلة عملي.
نسيا أمر الأكل وانهمكا في حديثما. كأنما قد اصيبا بهم واحد، وانفتح جرحاهما.
تغيرت حالي وانقلبت اوضاعي رأس على عقب. كنت اسدا يحتمى به، لحماية العرين من تقلبات الزمن. فأصبحت فأرا يخاف الضوء، ويختبئ خوف الدهس. كان الاهل ينتظرون مجيئي بفارغ الصبر، والكل يتزاحم للجلوس بجواري. فانقلبت الحال ولم يعد أحداً يأبه لوجودي، وغدوت أأكل وحدي كما الخدم. انصحك .... لا تفكر في التقاعد، وابقى اسد حتى النهاية.
بقلم: حسين نوح مشامع