اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
روضة الضياع
طفولة شقية، وحياة عبثية. وسط حقل من الطفيليين، وزمرة من المتسلقين. المتخصصون في امتصاص الفرحة والبهجة، من أفواه أللآخرين ووجهوهم. لا تترك شيء تمر به، دون أن تتسلط عليه تدمره - أو تخربه. مهما كان أصله، زجاج – خشب – حديد – أو قماش. حتى من هو جالس في حاله، لا يترك في سلام. لا بد وأن يتحرش به، لجره إلى صراع مرير. حياة كلها حركة دائبة، وجلبة لا تتوقف.
ومهما كان الأثر المترتب عليه، جسماني – أو نفساني. ومهما كان الضرر الناتج عنه، جروح سطحية - حروق شاملة - أو كسور عميقة. طاقة عارمة وقوة جامحة، تتجدد كل لحظة. لا تنتهي، ولا تستنفذ. تجبرهم على تفريغها، لتحصل على قوة جديدة. طاقة تجعلهم يتحركون كالبندول، لا يتوقف إلا ليتحرك من جديد. لا تخف حركتها نهاراً، ولا تهدأ ليلاً. هكذا حتى يرهقهم التعب، ويجبرهم على الاستسلام، جثث هامدة في الفراش.
نفذ صبر والديه، وكثر كلام من حوله، انتقاداً لسوء تربيتهما له. ولكن لم يتوصلا رغم جهدهم ومعاناتهم إلى طريقة، للتخفيف من ذلك الهيجان. لذا قررا تسجيله بأحد رياض الأطفال، لفصله عن بقية الزمرة. لعلها تساعدهما، في الحد من مزاجه العسر. وتستنفذ تلك الطاقة الجسمانية الهائلة، فيما يرجع عليه بالنفع في حاضره ومستقبله.
مرت الأيام، وهو في ذهاب وإياب. من البيت إلى الروضة، وبالعكس. حافلة تقله في ذهابه، وأخرى تعيده في رجوعه. وبين هذا وذاك، كان يتمنع عن الذهاب. لالتصاقه برفاقه، ومنهم حوله من أقرانه. ولكن والديه كانا يدفعانه دفعاً، أملاً في التغيير الذي ينشدانه، ويتوقعانه فيه. لا يتأخران عن تسديد الاشتراك، ودس بعض المال في جيوبه، تشجيعاً له على الذهاب. ويقدمان له و يعدانه، بالكثير من اللعب والنزهات.
بدأ احتجاجه بالبكاء والعويل، أسد يزأر لانتهاك حرمته، وللاستيلاء على عرينه. ليس عند الذهاب فقط، بل حتى عند ركوب الحافلة. صار يتقلب في فراشه، ويستيقظ فزعاً مرعوباً. يتمتم بكلمات غير مفهومة، وحركات مبهمة. معبراً عما يدور في خلده. يتخيل وحوشاً تنهشه، وأشباح تلاحقه. ولكن لا يجد معين، ولا له مجير.
أول علامات الاضطهاد التي مني بها، وصلت إلي أهله متأخرة. عندما انزل قرب بيته، بعد انتهاء دوام الدرس اليومي. ملفوفاً في سفرة بلاستيكية، من كتفيه إلى أخمص قدميه. لا يرى منها إلا رأسه. ذبيحة شاة، معلقة في دكان قصاب. يتفحصها المارة، يقلبونها يمنة ويسرة.
هكذا حل على أهله، وهكذا استقبله من كان حوله. كل يداري ضحكته، محاولاً عدم إظهار الشماتة. تفادياً لجرح شعوره، ومنعاً لإحراج والديه. جن أهله، وكادوا يفقدون اتزانهم، بسبب ما جرى لفلذة كبدهم. أخذوا يلومون المسؤولين، الذين خالفوا الاتفاق المبرم معهم. فلقد تعمدوا إهانة ابنهم، وجعله موضع للفرجة بين زملائه.
فبدل أن يقوم أفراد الروضة، ولو على سبيل الإنسانية. بتبديل ثيابه المتسخة، بعد تغسيله وتنظيفه. أرسلوه هكذا يرفرف من الخوف، كأنه غصن شجرة وسط ريح عاتية. لم يكن لدى المسؤولين رد مقنع، وكلام منطقي. يقنع الوالدين بأن ما جرى، مجرد غلطة غير مقصودة. بسبب الخوف أن لا يتأخر في الخروج.
سكت الوالدان على مضض، كمن بلع مشروب يغلي على استعجال. يحاولان الاقتناع أن ما جرى، مجرد غلطة غير مقصودة. وهكذا تمضي الأيام، وتسكت النفوس عن النزاع، حتى إشعار آخر. وجاء الإشعار الآخر بما لم يكن في الحسبان! من أقاربه الأطفال، وغيرهم ممن يتعلمون معه في نفس المنشأة. يتشمتون فيه، ويلوحون له بالأصابع. لاحظ ذلك ذووه، ولعدة مرات. وعندما زاد المعدل عن حده، وأضحى الأمر فاضحاً. سألوهم، عن سبب هذا الاستهزاء.
فجاء الجواب كالصاعقة، التي لا تأتي على شيء إلا أهلكته. ولا تمر بشيء، إلا قضت عليه. قال لهم أحد الأطفال على خوف ووجل: رأت المديرة طول شعره وتناثره خصلاته، فأرادت تلقينه درساً، أو تلقين أهله ذلك الدرس. جمعتنا في وسط الساحة، وأتت به، بعد أن جعلت في رأسه بعض المساكات. ثم أمرتنا بإكمال الواجب.
لم يصدقوا ما فعل بطفلهم العزيز، ولم يستطيعوا بلع ما وصل إليه حاله. فسألوا أكثر من طفل. يا للفاجعة، لقد تطابق كلامهم، ولماذا يكذبون؟! هولاء أبرياء على فطرتهم. أوقفوا ذهاب ابنهم، وأبقوه بجوارهم. طلباً لرد الاعتبار له، وإبداء الاعتذار لهم. وتملصت الذئبة من فعلتها، ونفت الفعلة جملة وتفصيلا. وتشبثت تدافع عن نفسها، وتتهمهم بالتهرب من دفع التكاليف.
بقلم: حسين نوح مشامع – القطيف - السعودية