اللهم صل على محمد
وآل محمد وعجل فرجهم والعن أعدائهم
حين يحضر المرءَ أجلُه.. يكون مشفولاً عن كلّ شيء إلاّ عن نفسه وما سيؤول إليه مصيرها، وإلاّ عن أمرٍ استولى اهتمامُه على قلبه وضميره. فأهل الدنيا ينظرون من طَرْف خفيٍّ إلى ما يتركونه فيمتلئون حسرةً وأسفاً، وأهل الآخرة ينظرون إلى عالَمٍ يقْدمون عليه وصدورهم ممتلئةٌ خشيةً ولسانُ حالهم: يا حَسْرتا على ما فرَّطْتُ في جَنْبِ الله.. (1).
أمّا أصحاب المهامّ الدينيّة فهم أحرص الناس على أن يثبّتوا حقائق الرسالة، فيخلّفون في الناس وصايا خاصّة فيها: الدعوة إلى الإيمان والتقوى، والحثّ على التحلّي بمكارم الأخلاق، والتحذير من المهالك. وبهذا يرحلون إلى رحمة الله وقد تركوا علاماتِ خيرٍ دالّة على سبيل الصلاح والفلاح.
وكان من هؤلاء: أبو طالب بن عبدالمطّلب رضوان الله تعالى عليه.. حيث أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى: أنّ أبا طالب لمّا حضرتْه الوفاةُ دعا بني عبدالمطّلب فقال لهم: لن تزالوا بخيرٍ ما سمعتُم من محمّد واتّبعتُم أمرَه، فاتّبِعوه وأعينوه ترشدوا.
وفي خبرٍ آخر قال: يا معشرَ بني هاشم، أطيعوا محمّداً وصدِّقوه تُفلحوا وترشدوا (2).
هذه كانت وصيّة أبي طالب عليه السّلام في ساعاته الأخيرة من حياته الطيّبة. وقد ذُكرت هذه الوصيّة في:
1. تذكرة خواص الأُمّة، لسبط ابن الجوزيّ، ص 5.
2. السيرة الحلبيّة، للحلبيّ 372:1، 375.
3. السيرة النبويّة، لزَيني دحلان ـ في هامش السيرة الحلبيّة 92:1، 293.
4. أسنى المطالب، لزَيني دحلان، ص 10.
5. الخصائص الكبرى، للسيوطيّ 87:1.
وهنا يرى البرزنجيّ ـ وهو من علماء أهل السُّنّة ـ أنّ هذا الحديث هو دليلٌ على إيمان أبي طالب، ونِعمّا هو.. ثمّ قال مستدِلاًّ: بعيدٌ جِدّاً أن يعرف ( أبو طالب ) أنّ الرشاد في اتّباع النبيّ صلّى الله عليه وآله، وأن يأمرَ غيرَه بذلك، ثمّ يتركه هو!
بعده يأتي الشيخ الأمينيّ مدوِّناً تعليقته البرهانيّة فيقول:
ـ ليس في العقل السليم مَساغ للقول بأنّ هذه المواقف كلَّها لم تنبعث عن خضوع أبي طالب للدِّين الحنيف، وتصديقهِ للصادع به صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإلاّ.. فماذا الذي كان يحدو أبا طالب إلى مخاشنة قريش ومقاساة الأذى منهم وتعكير الصفو من حياته ؟! لا سيّما أيّامَ كان هو والصفوةُ من فئته في الشِّعب.. فلا حياةً هنيئة، ولا عيشاً رغَداً، ولا أمناً يُطمأنّ به، ولا خطراً مَدْروءً، فيتحمّل الجفاء والقطيعة والقسوة المؤلمة من قومه!
ما الذي أقدمَه على هذا كلّه ؟! وما الذي حصره وحبسه في الشِّعب عدّة سنين تجاه أمرٍ لا يقول بصدقه ولا يخبت إلى حقيقته ؟! لا ها الله! لم يكن كلُّ ذلك إلاّ عن إيمان ثابت، وتصديقٍ وتسليم وإذعان بما جاء به نبيُّ الإسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم (3).
وما فَتئ أبو طالب رضي الله عنه يؤكّد ما جاء به الوحي وما بُعث به رسول الله صلّى الله عليه وآله وما نزل من التشريع.. يبلّغ به قومه ويحرص على أن يَعُوا ذلك ويأخذوا به.
يذكر ابن حجر العسقلانيّ في ( الإصابة في تمييز الصحابة 116:4 ) من طريق إسحاق بن عيسى الهاشمي، عن أبي رافع أنّه قال:
ـ سمعتُ أبا طالب يقول: سمعتُ ابن أخي محمّدَ بن عبدالله يقول أنّ ربَّه بعثَه بصِلة الأرحام، وأن يُعبَدَ اللهُ وحده ولا يُعبدَ معه غيرُه. ثمّ قال أبو طالب: ومحمّدٌ الصدوق الأمين.
ولم ينفرد ابن حجر العسقلانيّ بهذا الخبر، فقد ذكره السيّد زَيني دحلان في (أسنى المطالب ص 6 ) ثمّ قال: أخرجه الخطيب البغداديّ. وكذا أخرجه السيّد فخّار بن معد في كتابه ( الحجّة ص 26 ) من طريق الحافظ أبي نعيم الإصبهانيّ، بإسناد آخر من طريق أبي الفرج الإصبهانيّ.
وروى الشيخ إبراهيم الحنبليّ في ( نهاية الطلب ) عن عروة الثقفيّ قولَه: سمعتُ أبا طالب رضي الله عنه يقول: حدّثني ابن أخي الصادقُ الأمين، وكان واللهِ صدوقاً.. أنّ ربّه أرسله: بصلة الأرحام، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
فهذه هي القيم الإسلاميّة التي جاء بها خاتَم الأنبياء والمرسلين صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد صدّقه عليها أبو طالب عليه السّلام وآزرَه وناصَرَه، وخاطبه بالقول الصريح، والبيان الفصيح:
ولم يكتفِ أبو طالب أن جعل نصرة الإسلام همَّه الأكبر، وأعدّ نفسه الشريفة درءً لرسول الله صلّى الله عليه وآله.. إنّما أخذ يُعبّئ ذويه ومُقرَّبيه إلى مؤازرة الحقّ.
أخرج ابن الأثير في ( أُسد الغابة في معرفة الصحابة 287:1 ): إنّ أبا طالب رأى النبيَّ صلّى الله عليه وآله وعليّاً يصلّيان، وعليٌّ على يمينه، فقال لولده جعفر رضي الله تعالى عنه: صِلْ جناحَ ابن عمك، وصَلِّ عن يساره. وكان إسلام جعفر بعد إسلام أخيه عليٍّ بقليل. وقال أبو طالب ( لحمزة أخيه ):
فـصبراً أبا يَعلى على ديـن أحـمـدٍ وكـن مُظـهراً للدِّين وُفِّقـتَ صابرا
وحُطْ مَن أتى بالـحـقّ مِن عند ربِّه بصدقٍ وعزمٍ لا تـكنْ حَمْزُ كـافـرا
فقد سرّني إذ قـلتَ أنـك مـؤمـنٌ فـكـنْ لـرسـول الله في الله ناصرا
وبـادِ قـريـشاً بـالذي قـد أتيتـَه جهاراً.. وقلْ: ما كان أحمدُ ساحرا (5)
ويأتي زيني دحلان فينقل تلك الأبيات في ( أسنى المطالب ص 6 ) ثمّ يقول: قال البرزنجيّ: تواترت الأخبار أنّ أبا طالب كان يحبّ النبيَّ صلّى الله عليه وآله ويحوطه وينصره، ويُعينه على تبليغ دينه، ويصدّقه فيما يقوله، ويأمر أولاده كجعفرٍ وعليٍّ باتّباعه ونصرته... والأخبار صريحة في أن قلبه طافح وممتلئ بالإيمان بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
أجل ـ أيّها الأخوة ـ على هذا مضى أبو طالب، وعليه تُوفّي مؤمناً صابراً صادقاً مصدِّقاً.. حتّى قال ابن أبي الحديد: رُوي بأسانيد كثيرة، بعضها عن العبّاس بن عبدالمطّلب وبعضها عن أبي بكر بن أبي قُحافة، أنّ أبا طالب ما مات حتّى قال: لا إله إلاّ الله، محمّدٌ رسول الله (6).
هذا ما اشتهر في الأخبار أنّ أبا طالب رضي الله عليه قالها جهاراً؛ إذ رأى أن لا تقيّةَ بعد، وقد أصغى إليه أخوه العبّاس فسمع الشهادتين من فمه