استغناء المتصوفة عن المعصوم:
الأولياء فوق الأنبياء:
إن ما يدعيه الصوفية من نيل المعارف عن طريق الكشف، قد أفسح المجال أمام ادعاء الاستغناء عن المعصوم، ثم هو قد مكنهم من ادّعاء نيل العلوم والمعارف، التي قد لا يصل إليها ملك مقرب، ولا نبي مرسل..
1ـ قال ابن عربي: «فمنا من جهل في علمه، فقال: «والعجز عن درك الإدراك إدراك، ومنا من علم، فلم يقل مثل هذا، وهو أعلى القول، بل أعطاه العلم السكوت ما أعطاه العجز.
وهذا هو أعلى عالم بالله، وليس هذا إلا لخاتم الرسل، وخاتم الأولياء.
وما رآه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء. فإن الرسالة والنبوة، أعني نبوة التشريع ورسالته تنقطعان، والولاية لا تنقطع أبداً.
فالمرسلون كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء؟
وإن كان خاتم الأولياء تابعاً في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه، ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل، كما أنه من وجه يكون أعلى..
وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه في فضل عمر في أسارى بدر بالحكم فيهم، وفي تأبير النخل.
فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء، وفي كل مرتبة، وإنما نظر الرجال إلى التقدم في رتبة العلم بالله، هنالك مطلبهم..
وأما حوادث الأكوان، فلا تعلق لخواطرهم بها، فتحقق ما ذكرناه..
ولما مثل النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم النبوة بالحائط من اللبن، وقد كمل سوى موضع لبنة، فكان صلى الله عليه [وآله] وسلم تلك اللبنة.
وأما خاتم الأولياء، فلا بد له من هذه الرؤيا، فيرى ما مثله به رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم، ويرى في الحائط موضع لبنتين. واللبن من ذهب وفضة، فيرى اللبنتين اللتين تنقص الحائط عنهما، وتكمل بهما: لبنة ذهب، ولبنة فضة، فلا بد أن يرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين، فيكون خاتم الأولياء تينك اللبنتين فيكمل الحائط..
والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر، وهو موضع اللبنة الفضة، وهو ظاهره، وما يتبعه فيه من الأحكام.
كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه، لأنه يرى الأمر على ما هو عليه، فلا بد أن يراه هكذا، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحي به إلى الرسول..
فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع بكل شيء.
فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي، ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخر وجود طينته، فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله صلى الله عليه [وآله] وسلم: كنت نبياً وآدم بين الماء والطين. وغيره من الأنبياء ما كان نبياً إلا حين بعث..
وكذلك خاتم الأولياء كان ولياً وآدم بين الماء والطين، وغيره من الأولياء ما كان ولياً إلا بعد تحصيله شرائط الولاية الخ..»
([126]).
2ـ وبعد أن ذكر انقطاع نبوة التشريع، قال:
«إلا أن الله لطف بعباده، فأبقى لهم النبوة العامة التي لا تشريع فيها، وأبقى لهم التشريع في الاجتهاد في ثبوت الأحكام، وأبقى لهم الوراثة في التشريع، فقال: العلماء ورثة الأنبياء، وما ثم ميراث في ذلك إلا فيما اجتهدوا فيه من الأحكام فشرعوه..
فإذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج عن التشريع، فمن حيث هو ولي وعارف. ولهذا مقامه من حيث هو عالم أتم وأكمل من حيث هو رسول، أو ذو تشريع وشرع.
فإذا سمعت أحداً من أهل الله يقول، أو ينقل إليك عنه أنه قال: الولاية أعلى من النبوة، فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه.
أو يقول: إن الولي فوق النبي والرسول، فإنه يعني بذلك في شخص واحد، وهو أن الرسول
من حيث هو ولي أتم من حيث هو نبي رسول، لا أن الولي التابع له أعلى منه..»
([127]).
3ـ إلى أن يقول: «إن الشرع تكليف بأعمال مخصوصة، أو نهي عن أفعال مخصوصة، ومحلها هذه الدار، فهي منقطعة.
والولاية ليست كذلك، إذ لو انقطعت لانقطعت من حيث هي، كما انقطعت الرسالة من حيث هي، وإذا انقطعت من حيث هي لم يبق لها اسم.
والولي اسم باق لله تعالى، فهو لعبيده تخلقاً وتحققاً، وتعلقاً، فقوله للعزير: لئن لم تنته عن السؤال عن ماهية الله لأمحون اسمك من ديوان النبوة، فيأتيك الأمر على الكشف بالتجلي..».
4ـ إلى أن قال: «إذ النبوة والرسالة خصوص رتبة في الولاية، على بعض ما تحوي عليه الولاية من المراتب الخ..»
([128]).
وتصريحاته بثبوت النبوة العامة للأولياء، وأنها لم تنقطع. والذي انقطع هو نبوة التشريع، كثيرة وغزيرة(
[129]).
خلفاء الرسل:
5ـ ويقول: «ولهذا مات رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ولم ينص بخلافة عنه إلى أحد، ولا عينه، لعلمه أن في أمته من يأخذ الخلافة عن ربه، فيكون خليفة عن الله مع الموافقة في الحكم المشروع، فلما علم صلى الله عليه [وآله] وسلم ذلك لم يحجز الأمر، فلله خلفاء في خلقه يأخذون من معدن الرسول والرسل الخ..»
([130]).
عبدة العجل، عبدة لله تعالى:
6ـ وعن عبدة العجل في زمن النبي موسى ، يقول: «فكان موسى أعلم بالأمر من هارون، لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبد إلا إياه، وما حكم الله بشيء إلا وقع..».
العجل بعض المجالي الإلهية:
7ـ إلى أن قال: «أنظر إلى إلهك» فسماه إلهاً بطريق التنبيه وللتعليم، لما علم أنه بعض المجالي الإلهية
([131]).
خاتم الأولياء.. هو خاتم النبوة المطلقة:
8 ـ وقال: «وأما ختم الولاية المحمدية، فهي لرجل من العرب، من أكرمها أصلاً ويداً، وهو في زماننا اليوم موجود عرفت به سنة خمس وتسعين وثمان مئة، ورأيت العلامة التي قد أخفاها الحق فيه عن عيون عباده، وكشفها لي بمدينة فاس، حتى رأيت خاتم الولاية منه، وهو خاتم النبوة المطلقة، لا يعلمه كثير من الناس.
وقد ابتلاه الله بأهل الإنكار عليه، فيما يتحقق به من الحق في سره من العلم به.
وكما أن الله ختم بمحمد صلى الله عليه [وآله] وسلم نبوة الشرايع، كذلك ختم الله بالختم المحمدي الولاية التي تحصل من الورث المحمدي، لا التي تحصل من سائر الأنبياء، فإن من الأولياء من يرث إبراهيم وموسى وعيسى، فهؤلاء يوجدون بعد هذا الختم المحمدي..»
([132]).
خاتم الأولياء، ليس هو المهدي:
9ـ ويقول: «استحق أن يكون لولايته الخاصة ختم يواطئ اسمه اسمه صلى الله عليه [وآله] وسلم، ويجوز خلفه، وما هو بالمهدي المسمى، المعروف بالمنتظر، فإن ذلك من سلالته وعترته، والختم ليس من سلالته الحسية، ولكنه من سلالة أعراقه وأخلاقه صلى الله عليه [وآله] وسلم»..
([133]).
الكفار هم الأولياء:
10ـ وفي كلام له حول «الأولياء في صفة الأعداء» يقول:
«انظر كيف أخفى سبحانه أولياءه في صفة أعدائه؟ وذلك أنه لما أبدع الأمناء من اسمه اللطيف، وتجلى لهم في اسمه الجميل، فأحبوه تعالى..
والغيرة من صفات المحبة، في المحبوب والمحب، بوجهين مختلفين. فستروا محبته تعالى غيرة منهم عليه، كالشبلي وأمثاله، وسترهم الحق بهذه الغيرة عن أن يُعرفوا.
فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ}
([134]).. أي ستروا ما بدا لهم في مشاهدتهم من أسرار الوصلة، فقال: لا بد من أن أحجبكم عن ذاتي بصفاتي. فتاهوا كذلك فما استعدوا. فأنذرتهم على ألسنة أنبيائي الرسل، في ذلك العالم، فما عرفوا: لأنهم في عين الجمع، وخاطبهم الحق من عين التفرقة، وهم ما عرفوا عالم التفصيل، فلم يستعدوا. وكان الحب قد استولى على قلوبهم سلطانه، غيرة من الحق في ذلك الوقت.
فأخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، روحاً وقرآناً، بالسبب الذي أصمهم عن إجابة ما دعاهم إليه، فقال: {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ}
([135]).. فلم يسمعها غيره، {وَعَلَى سَمْعِهِمْ}.. فلا يسمعون سوى كلامه على ألسنة العالم، فيشهدونه في العالم متكلماً بلغاتهم: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}.. من سناه ـ إذ هو النور ـ وبهائه، إذ له الجلال والهيبة: يريد الصفة التي تجلى لهم فيها المتقدمة..
فأبقاهم الحق غرقى في بحور اللذات بمشاهدة الذات، فقال لهم: لا بد لكم من {عَذَابٌ عظِيمٌ} فما فهموا ما العذاب، لاتحاد الصفة عندهم.
فأوجد لهم الحق عالم الكون والفساد، وحينئذ علمهم «جميع الأسماء»، وأنزلهم على العرش الرحماني، وفيه عذابهم، وقد كانوا مخبوئين عنده في خزائن غيوبه، فلما أبصرتهم الملائكة خرت سجوداً لهم، فعلَّموهم الأسماء..
فأما أبو يزيد، فلم يستطع الاستواء، ولا أطاق العذاب، فصعق من حينه. فقال تعالى: «ردوا علي حبيبي، فإنه لا صبر له عني».
فحجب بالشوق والمخاطبة.
وبقي للكفار، فنزلوا من العرش إلى الكرسي. فبدت لهم القدمان، فنزلوا عليهما في «الثلث الباقي من ليلة» هذه النشأة الجسمية..».
11ـ وقال: «إن أبا يزيد نفخ في النملة التي قتلها فحييت، فكان عيسوي المشهد»
([136]).
وكتاب تذكرة الأولياء مشحون بما يدعون من كرامات ومعجزات للصوفية.. فمن أراد المزيد الذي لا يكاد يحصره عدّ، أو ينتهي إلى حد، فعليه بمراجعة ذلك الكتاب وغيره..
([126]) فصوص الحكم ص62 و63 و64
([127]) فصوص الحكم ص135
([128]) فصوص الحكم ص136.
([129]) الفتوحات المكية: ج12 ص147 و148 و149 و185 و186 و317 و318 و336 و337 و338 و339 و340 و341 و342 و344 و345 و424 و425. وج11 ص251 حتى ص255 و358 و391 و398 وج10 ص119 تحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.
([130]) فصوص الحكم ص163.
([131]) راجع فصوص الحكم ص192.
([132]) راجع: الفتوحات المكية ج12 ص121 تحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.
([133]) راجع: الفتوحات المكية ج12 ص128 تحقيق إبراهيم مدكور وعثمان يحيى.
([134]) الآية 6 من سورة البقرة.
([135]) الآية 7 من سورة البقرة.
([136]) فصوص الحكم ص142.
يتبع>>>
نسألكم الدعاء