وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ

الحمد لله الذي أكمل نوره ، وأتم سروره ، وقال في كتابه العزيز : ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ ) فيا معشر السادة ويا فرقة الشيعة القادة ; أبشروا في هذا اليوم الشريف بالمواهب الإلهية ، والرغائب الرحمانية لولادة أم الأئمة النجباء ، وسيدة النساء ، والبتول العذراء ، والإنسية الحوراء ، وشرف الأرض والسماء ، وذبالة مشكاة الضياء ، فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها ، وبارك الله لكم من هذه الطلعة الرشيدة ، والغرة الحميدة ، في هذا العيد السعيد ، مع العيش الرعيد ، كما بورك للنبي والأئمة الأطياب الذين هم ورثة النبوة والحكمة وفصل الخطاب ، وقد جعل الله شرق الأرض وغربها بغرة ناصيتها مستنيرة ، وسكانها بأشعة جبهتها مستضيئة ، فانظروا ( إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها ) ، وكأنها من وجدها وسرورها بنيت قواعدها على الابود ، وألقت الشمس عليها ردائها ، وأرخت النجوم أضوائها سلام الله عليها ما طلعت الشمس وظلعت الأقمار ما دارت الأفلاك وسارت الليل والنهار ، وفوق ما قيل : إن أباها وأبا أباها * قد بلغا في المجد غايتاها واها لهذا العيش ونعم ما قيل :

جاء السرور مع الفرح * ومضى النحوس مع الترح

أولا : أتقدم في مقدمة هذه الخصيصة - وأنا أضعف العباد وأقلهم قابلية - لسادتي من ذرية النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكافة محبيهم بالتهاني والتبريك بمناسبة ولادة أمهم الزهراء ( عليها السلام ) .

وثانيا : أقول لكم أيها السادة الأجلاء من بني فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) وسائر الشيعة الإمامية : أشكروا الله تبارك وتعالى مخلصين - قلبا ولسانا - على هذه الموهبة الكبرى والنعمة العظمى التي من عليكم العلي الأعلى في هذا الشهر وفي هذا اليوم السعيد ، واعرفوا لهذا اليوم قدره ، وانظروا كيف ملأ الله قلب نبي الرحمة وخلاصة الموجودات محمد المصطفى بالنور ، وجعله مفعما بالبهجة والسرور في هذا اليوم ؟ ! وفتح فيه أبواب رأفته ورحمته وامتن على أنبياءه وملائكته العظام منة لا غاية لها ، فأخرج لهم بنتا خيرا من مريم ، وأخرج منها أولادا جعلهم أركان الوجود وأعيان الجود .

أم الأئمة أم جمة الولد * بمثلها لم يكن تحبل ولم تلد سماء الصدق والصفاء ، ولمع در ثمين من صدف العفة والحياء ، وتنور عالم الإمكان بنورها الموفور السرور .

فيا أيها الإخوان ; لا يفوتنكم شرف هذا اليوم ولا تغفلوا عنه لئلا تصنفوا في الغرباء والأجانب ، بل كونوا من الأولياء والمعارف ; فغدا - في يوم الجزاء - ستشد فاطمة الزهراء عصابة الشفاعة على جبينها النوراني الأغر ، فتدفع أعداءها بالقهر إلى جهنم ، وتدخل أحباءها بالرحمة إلى الجنة ، فلا تكن يومها حيران تدير طرفك تتوسل إلى هذا وذاك ، تبحث عن من يؤويك لتلجأ إليه ، فلا تجد إلا فاطمة العالمة العارفة بأعدائها ومحبيها ، فتطردك فلا يكون لك ملجأ ولا منجى .

وللحب علامات : منها معرفة الحبيب ومعرفة أحواله ومعرفة حزنه وفرحه .

إلا أن تعرض عن محبة فاطمة ولا ترى حاجة إلى شفاعتها ، وهذا بنفسه ذنب كبير لا يغتفر . فمن ذا الذي يستغني عن الساحة الفاطمية المقدسة سواء كان مذنبا أو غير مذنب ؟ ومن ذا الذي يرى نفسه مستغنيا عن شفاعتها ؟ أرجو أن تتحقق أمنيتي ويسمع الناس إشارتي فتعمهم البشرى والمسرات ، فنصير بفرحنا في هذا اليوم في عداد أحباء أبناء أهل البيت ( عليهم السلام ) وأوليائهم .

وأمر من هنا على عجل طالبا الرحمة للمسترحمين وأقول : ولدت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) يوم الجمعة - على الرواية الصحيحة - لخمس وأربعين سنة بعد عام الفيل ، وبعد ولادة أبيها ( صلى الله عليه وآله ) في عهد يزدجرد بن شهريار ملك العجم ، في مكة المعظمة - زادها الله شرفا وتكريما - في الموضع المبارك الذي صار في هذه الأعوام مزارا للسنة والشيعة جميعا .

ولدت من سيدة النسوان خديجة الطاهرة ( عليها السلام ) بنت خويلد ، فأشرقت بنورها البهيج على مكة والمدينة وتهامة والحجاز ، بل على سائر من في الأرض والأفلاك ، فأراحت النبي المختار بقدومها من عناء الانتظار .

وكان عمر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يومها خمسة عشر عاما ، لأنه ولد ( عليه السلام ) - على الرواية المشهورة - بعد مضي ثلاثين سنة من مولد النبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله ) .

فكانت ولادتها ( عليها السلام ) بعد مضي ستة آلاف ومائتين عاما من هبوط آدم أبي البشر ( عليه السلام ) ، وأربعمائة وخمسين عاما أو ما يقرب من ذلك من عهد الإسكندر ، وبعد خمسة وعشرين عاما من عام الفجار .

وروى بعضهم : كان بين ولادة فاطمة ( عليها السلام ) وعهد الإسكندر ذي القرنين تسعمائة وخمسة وعشرين عاما .

ولعل الإختلاف ناشئ من اختلاف عهدي الإسكندرين ، أحدهما ذو القرنين الذي ملك الأرض والآخر غيره .

عقم النساء فما يلدن بمثلها * إن النساء بمثلها عقم

والخلاصة : كانت فاطمة الطاهرة ( عليها السلام ) ترى قرنها وعالمها من مقام الأشرف فالأشرف ، وتسير في الحجب ، حتى حبست في هذه المرتبة الأدنى فصارت روح العالمين - فدى العالمين قدومها السعيد - .

والآن فليتأمل الأولياء والمحبون ويسروا ويسعدوا بالنظر في الحديث المروي في أول المجلد العاشر من بحار الأنوار في ولادة أم الأئمة الأطهار ، وهو مجموعة من أسرارها ومناقبها ، وقد ذكر في كثير من كتب الشيعة دون اختلاف ، كما روي في أمالي الصدوق ( قدس سره ) دون زيادة أو نقصان ، وكذا في مصباح الأنوار عن أبي المفضل الشيباني عن الصادق ( عليه السلام ) ، واللفظ من بحار الأنوار : عن المفضل بن عمر قال : قلت لأبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) : كيف كان ولادة فاطمة ( عليها السلام ) ؟ فقال : نعم ; إن خديجة ( عليها السلام ) لما تزوج بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هجرتها نسوة مكة ، فكن لا يدخلن عليها ولا يسلمن عليها ولا يتركن امرأة تدخل عليها ، فاستوحشت خديجة لذلك ، وكان جزعها وغمها حذرا عليه ( صلى الله عليه وآله ) .

فلما حملت بفاطمة كانت فاطمة ( عليها السلام ) تحدثها من بطنها وتصبرها ، وكانت تكتم ذلك من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فدخل رسول الله يوما فسمع خديجة تحدث فاطمة ( عليها السلام ) ، فقال لها : يا خديجة من تحدثين ؟ قالت : الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني ، قال : يا خديجة هذا جبرئيل يبشرني يخبرني أنها أنثى ، وأنها النسلة الطاهرة الميمونة ، وأن الله تبارك وتعالى ، سيجعل نسلي منها وسيجعل من نسلها أئمة ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه .

فلم تزل خديجة ( عليها السلام ) على ذلك إلى أن حضرت ولادتها ، فوجهت إلى نساء قريش وبني هاشم أن تعالين لتلين مني ما تلي النساء من النساء ، فأرسلن إليها : أنت عصيتنا ولم تقبلي قولنا وتزوجت محمدا ( صلى الله عليه وآله ) يتيم أبي طالب فقيرا لا مال له ، فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئا ، فاغتمت خديجة ( عليها السلام ) لذلك ، فبينا هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال كأنهن من نساء بني هاشم ، ففزعت منهن لما رأتهن ، فقالت إحداهن : لا تحزني يا خديجة فإنا رسل ربك إليك ونحن أخواتك : أنا سارة ، وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنة ، وهذه مريم بنت عمران وهذه كلثم أخت موسى بن عمران ، بعثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء ، فجلست واحدة عن يمينها ، وأخرى عن يسارها ، والثالثة بين يديها ، والرابعة من خلفها ، فوضعت فاطمة ( عليها السلام ) طاهرة مطهرة .

فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها النور حتى دخل بيوتات مكة ، ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور ، ودخل عشر من الحور العين كل واحدة منهن معها طست من الجنة وإبريق من الجنة ، وفي الإبريق ماء من الكوثر ، فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها فغسلتها بماء الكوثر ، وأخرجت خرقتين بيضاوين أشد بياضا من اللبن وأطيب ريحا من المسك والعنبر ، فلفتها بواحدة وقنعتها بالثانية ، ثم استنطقتها فنطقت فاطمة ( عليها السلام ) بالشهادتين وقالت : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن أبي رسول الله سيد الأنبياء ، وأن بعلي سيد الأوصياء وولدي سادة الأسباط ، ثم سلمت عليهن وسمت كل واحدة منهن باسمها ، وأقبلن يضحكن إليها ، وتباشرت الحور العين ، وبشر أهل السماء بعضهم بعضا بولادة فاطمة ( عليها السلام ) ، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك ، وقالت النسوة : خذيها يا خديجة طاهرة مطهرة ميمونة ، بورك فيها وفي نسلها ، فتناولتها فرحة مستبشرة وألقمتها ثديها فدر عليها . فكانت فاطمة ( عليها السلام ) تنمى في اليوم كما ينمى الصبي في الشهر ، وتنمى في الشهر كما ينمى الصبي في السنة .

وفي الحديث عشر بشائر كبرى :

الأولى : تكلم الزهراء ( عليها السلام ) في رحم أمها في أيام الحمل عدة مرات .

الثانية : حضور جبرئيل وتبشير النبي بأنها أنثى ، وأن نسل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سيكون منها .

الثالثة : مجيء النساء الأربعة المحترمات وتبشير خديجة بأنهن رسل الله .

الرابعة : إشراق الأنوار الفاطمية في بيوت مكة وشرق العالم وغربه .

الخامسة : مجيء الحوريات العشرة مع الطست والإبريق وماء الكوثر والخرقتين البيضاوين بالصفة المذكورة .

السادسة : نطق المخدرة الكبرى بالشهادتين وذكر أسماء الأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) ، واستبشارها بذكر كل واحد منهم .

السابعة : ظهور ذلك النور البديع في السماوات .

الثامنة : تبشير الملائكة بعضهم بعضا بولادتها ( عليها السلام ) . التاسعة : الإخبار عن طهارة الذات ويمن القدوم .

العاشرة : نمو فاطمة ( عليها السلام ) بالصفة المذكورة ، لا كبقية الصبيان .

والآن فلينصف المحب ولينظر أن أكثر ما روي في كتب المناقب والكافي والفقيه والعيون من خصوصيات في ولادة الأئمة جميعا ، قد ذكر في هذه الرواية في حق فاطمة ( عليها السلام ) ، بل أكثر .

وقد ورد في هذا الحديث ما يقبله أهل السنة والجماعة ويروونه أيضا ،  كتكلمها وهي في رحم خديجة .

وما ذكر في حق فاطمة ( عليها السلام ) من أوصاف وعلائم خاص بالمعصوم والمعصومة فقط .

والحديث دليل على أفضلية فاطمة ( عليها السلام ) على النساء الأربعة سيدات نساء العالمين ، لأنهن أمرن بخدمتها ، والمخدوم أفضل من الخادم ، وسيأتي حديث آخر في خدمة مريم لفاطمة وتمريضها أيام علتها ، والحديث صحيح .

وكذا سعدت الحور العين بخدمتها في مواقع أخرى .

وكل ذلك يدل على كمال إنسانيتها - وهي منبع العفاف ومعدن العصمة والشرف - وأفضليتها على سائر نساء الأولين والآخرين ، وإحاطة علمها بكل شئ كان أو هو كائن ، وكمال توحيدها ويقينها وعرفانها وإيمانها .

ويدل الخبر أيضا على ولادتها بعد البعثة ونزول الوحي - خلافا للمخالف - لأنه نص على حضور جبرئيل وتبليغه البشارة . وانقدح في ذهني نكتة - وأنا أقرأ الحديث - وكأنها من إيحاءات الحديث ، وهو أن فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) هي المولود الأول لخديجة ، بل هي المولود الوحيد لها ، أن بناتها الأخريات من الأزواج الآخرين .

والعجيب أن التاريخ لا يروي لنا استعانة خديجة بنساء بني هاشم في ولادة بناتها الاخريات ، مع أنهن سبقن فاطمة ( عليها السلام ) بالولادة ، وكانت خديجة في الولادة الأولى وما بعدها أحوج إلى من يعينها من الولادة الأخيرة ، فإن كانت قد استدعتهن من قبل ولم يجبنها ، فكيف تستعين بهن مرة أخرى ؟ إلا أن يقال أنها لما ولدت فاطمة ( عليها السلام ) لم يكن عندها جارية ولا خادمة ! ! بينما كانت في السابق مستغنية عن النساء بجواريها وخدمها .

وإذا كان عمر خديجة يوم دخولها بيت الرسول ( صلى الله عليه وآله ) خمسة وأربعين سنة - على الرواية المشهورة - وكان عمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) يومها خمسا وعشرين سنة ، يعني أنها لازمت خدمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثلاثين عاما ، وكان هجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في عام الحزن ; العام الذي رحلت فيه خديجة وأبو طالب ، وقد ذكرت التواريخ والسير أبناء ذكورا لخديجة ( عليها السلام ) توفوا جميعا في حياة النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، منهم القاسم والطاهر والمطهر ، ولم نجد في ولادة أي واحد من ذكورها إناثها أثرا لما ذكر لولادة فاطمة من أحداث اكتنفت الولادة  .

فإذا كانت خديجة بالعمر المذكور ، وكانت فاطمة أصغر بناتها - ونحن لا نعرف بالضبط متى رزقت بناتها وأبناءها ، وفي أي سنة من عمرها الشريف - .

فإن كان كذلك أي كان عمر خديجة يوم دخولها بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) خمسة وأربعين سنة ، وكانت زينب كبرى بناتها أكبر من فاطمة بخمسة عشر عاما ، يلزم أن يكون عمرها عند ولادة فاطمة ( عليها السلام ) ستين سنة ، وهو بعيد إلا أن يقال أن خديجة دخلت بيت النبي ( صلى الله عليه وآله ) قبل الخمس والأربعين .

على أي حال لا بد من النظر في الأخبار وجمعها عن طريق أهل البيت ( عليهم السلام ) ولي - أنا الحقير - مشرب مأخوذ من الأقوال الصحيحة والعقائد المعتبرة للعلامة المجلسي ( عليه الرحمة ) وأمثاله من علماء السلف المتوغلين في هذه الطريقة ، والمأنوسين بأقوال الأئمة الطاهرين ، وسيأتي في خصيصة آتية بعون الله تعالى ما نحل به المشكلة ونسأل الله التوفيق .

تعليق فيه تحقيق : في سؤال خديجة ما سألته أم مريم ( عليها السلام ) نذكر في هذا المورد بعض الأخبار المعتبرة ، وستخلص منها النتائج المفيدة إن شاء الله ، منها ثلاثة أخبار لا محيص من ذكرها ، وكل واحد منها يدل دلالة صريحة واضحة على جلالة شأن خديجة الطاهرة وفاطمة المطهرة ( عليهما السلام ) .

الأول : روى عن طريق الشيعة في تفسير أهل البيت وتفسير منهج الصادقين : لما حملت خديجة ( عليها السلام ) بفاطمة دعت الله كما دعته امرأة عمران بن ماثان أم مريم ، فقالت : يا رب إنك سميع عليم تعلم أني أفضل من امرأة عمران ، وبعلي أفضل من عمران ، وقد نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني ، فهبط الأمين جبرئيل وقال : قل يا رسول الله لخديجة أن الله يقول « لا إعتاق قبل الملك ، خلي بيني وبين صفوتي فإني أملكها هي أم الأئمة وعتيقتي من النار » فقالت خديجة : فرحت بهذه البشارة .

وفي الحديث نكات ينبغي توضيحها : أولا : إن هذا النذر كان مشروعا في سالف الأزمان حيث كان الأب ينذر ابنه ليكون خالصا للعبادة والخدمة في بيت المقدس ، وكان متعلق النذر هم الأولاد الذكور ، لما للإناث من موانع تمنعهن من المكث دائما في المسجد كالحيض وغيره ، وكان يومها أولاد وغلمان كثيرون محررون لبيت المقدس ، حتى قيل أنهم بلغوا أربعة آلاف ، وأم مريم نذرت ما في بطنها على وجه العموم ، ولم تحدد ما إذا كان ذكرا أو أنثى ، كما أخبر عنها القرآن الكريم ( إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ) .

ثانيا : أرادت خديجة أن تعمل بالنذر المشروع سابقا ، بنية أن يكون مشروعا في الشريعة الجديدة ، فنذرت ما في بطنها على وجه العموم ليكون محررا لخدمة المسجد الحرام خالصا لوجه الله ، فلا يشتغل بخدمة من الخدمات الدنيوية .

ثالثا : هبط جبرئيل ليقول « لا إعتاق قبل الملك » ، والعتق تحرير العبد وتخليصه من الرقية ، ولذا سميت الكعبة « البيت العتيق » لأنها لا تملك ، فالعبارة تعني أن فاطمة مملوكتي ، فأنى لك عتقها ؟ !

رابعا : قال « هي أم الأئمة » ، وهذه البشارة أفرحت خديجة ، فأي علاقة بين هذه البشارة وبين مقصودها ؟ !

خامسا : قال « وعتيقتي من النار » ، فأي جواب هذا لخديجة الطاهرة ؟ !

والجواب الصواب لهذه المقالات الخمسة تجده في الحديث الشريف المروي في أصول الكافي ، وأحاديث أهل البيت يبين بعضها بعضا .

الثاني : روى في الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) قال : إن الله تعالى أوحى إلى عمران « إني واهب لك ذكرا سويا مباركا يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل » فحدث عمران امرأته حنة بذلك ، وهي أم مريم ، فلما حملت كان حملها بها عند نفسها غلام ( فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى ) أي لا يكون البنت رسولا . . .

الثالث : في معاني الأخبار وتفسير علي بن إبراهيم القمي : دخل ابن أبي أسعد على الرضا - صلوات الله عليه - فقال له : أبلغ الله من قدرك أن تدعي ما ادعى أبوك ؟ فقال له : مالك أطفأ الله نورك وأدخل الفقر بيتك ، أما علمت أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى عمران : إني واهب لك ذكرا فوهب له مريم ، ووهب لمريم عيسى ، فعيسى من مريم ، ومريم من عيسى ، ومريم وعيسى شئ واحد ، وأنا من أبي وأبي مني ، وأنا وأبي شئ واحد .

والمراد أن الله أوحى إلى عمران « بشارة الولد » وهو دليل على نبوته ، وذكر المجلسي قولا في نبوته ، وذكر في موضع آخر أنه كان إمام بني إسرائيل وصاحب قربانهم - وكانت حنة جدة عيسى اعتقدت بالوحي الإلهي والبشارة السماوية التي بشرها بها زوجها ، وكانت تنتظر الولد الوعود ، فلما حملت نذرت ما في بطنها محررا لما اعتقدتها من كونه ذكرا ، فلما وضعتها أنثى ( قالت إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى ) أي إنك وعدتني بذكر يكون رسولا وهذه أنثى . قال المفسرون : كان حق العبارة أن تقول « ليس الأنثى كالذكر » فعكست .

قال البيضاوي : جعلت الأصل فرعا والفرع أصلا لإثبات المراد كما يقال : القمر كوجه زيد مع أن القمر هو الأصل وزيد هو الفرع ، وهو استعمال جار في الأعم الأغلب في المبالغات في نفي التشبيه والجنسية .

قال علي بن الحسين المسعودي : « مراد حنة أن الولد الموعود في الفضل والعمل والإخلاص ليس كمثل هذه البنت ، والرسالة خاصة بالذكور وليس للإناث نصيب فيها » وهو الحق لأن الله أعطى مريم ( عليها السلام ) عيسى فعرفت حنة أنه الولد الموعود ، وابن البنت ابن .

أما خديجة فإنها كانت تعلم بأن وليدها أنثى ، للبشرى التي سمعتها من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أيام حملها ، فكان دعاؤها أن يرزق الله بنتها ما رزقه مريم ، فأجابها الله الرؤوف المنان أن فاطمة الزهراء « مملوكتي » مكان قوله ( فتقبلها ربها بقبول حسن ) ، وبشرها بالتحرير وعاقبة التحرير والفائدة المتوخاة منه إنما هي العتق من النار ، فبشرها الله بذلك وحقق مرادها ومطلوبها .

وقال : إذا كنت أعطيت مريم ولدا واحدا ، فإني معط فاطمة ( عليها السلام ) أولادا عديدين .

وإذا كان عيسى مباركا ، فأولاد فاطمة ( عليها السلام ) مباركون وهم أئمة العباد في الأرض إلى يوم القيامة ، وكل منهم حجة لله على الخلق أيام حياته .

ويستفاد من حديث الإمام الرضا ( عليه السلام ) أن الأئمة المعصومين كلهم نور وحد وسبيلهم واحد لا تغاير بينهم .

ثم قال الله في حديث خديجة إن فاطمة « صفوتي » بإزاء اصطفاء مريم ، حيث قال : ( إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) فمريم اصطفيت من نساء عالمها وفاطمة « صفوة » الله من نساء العالمين .

ولربما تكلمت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) عند الولادة لتنبأ أمها خديجة بإنجاز الوعد الموعود ، فذكرت أسماء الأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) لتعلم خديجة وتتيقن أن المولود هي أم الأئمة الذين سينورون فيما بعد عرصات الوجود والشهود .

وعليه فإن حنة حررت ما في بطنها وكانت النتيجة الخالصة لهذا التحرير عيسى ( عليه السلام ) ، وخديجة الطاهرة حررت ما في بطنها أيضا فكانت النتيجة أحد عشر إماما معصوما ( عليهم السلام ) يقتدى عيسى النبي العظيم بآخرهم .

فخديجة أفضل من حنة ، والنبي ( صلى الله عليه وآله ) أفضل من عمران ، وأبناء فاطمة ( عليها السلام ) أفضل من عيسى ( عليه السلام ) ، وهو ما قاله حسان بن ثابت في شعره :

وإن أحصنت مريم فرجها * فجاءت بعيسى كبدر الدجى

فقد أحصنت فاطم بعدها * فجاءت بسبطي نبي الهدى

ولا يخفى أن عتق فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) من النار المذكور في الحديث يعني التحرير واقعا ، ويعني الحرية ، وكونها « الحرة » كما مر في الحديث عن معنى « الحرة » ، وهو معنى اسم « فاطمة » ، أي إن الله فطمها وأعتقها وذريتها وشيعتها من النار ، كذا في كتب العامة فضلا عن الخاصة .

تشريف شريف إعلم ; إن فاطمة ( عليها السلام ) ولدت في مكة المكرمة في بيت خديجة الطاهرة ، وكان ملكا خاصا لها ، وهو معروف بدار خزيمة ، وعرف في هذا الزمان بمولد فاطمة ( عليها السلام ) ، يزوره أهل مكة وغيرهم ، والمطوفون والخدام يعلمون مدى محبة الحجاج العجم لفاطمة ، لذا يبادرون إلى إرشاد الخاص والعام منهم ممن لا يعرف المكان ، ليزوروا ويتبركوا فينالون منهم شيئا من العطاء .

وقد زرت ذلك المحل المبارك ووجدت فيه صفاءا وروحانية ونورانية خاصة ، ومهما طال المقام بمحب آل العصمة في تلك الحجرة الشريفة ، فإنه لا يتعب ولا يتضايق ، بل يود لو يبقى الدهر كله هناك .

وشهد الله وعلم أنك ترى نزول البركات وإفاضة الرحمات محسوسة مشهودة هناك في كل آن ; كيف لا وهو موضع إجابة الدعوات وقضاء الحاجات ، وقد سعد به أهل مكة .

وفي كتاب الدر الثمين في فضائل البلد الأمين للشيخ أحمد الحضراوي : إن العرصات المنيفة والأماكن الشريفة في مكة التي لا يرد فيها الدعاء هي : عند الحجر الأسود ، والحطيم ، والمستجار ، وزمزم ، والملتزم ، وتحت الميزاب ، وداخل الكعبة ، وخلف المقام ، وبيت خديجة ، ولكنه قيد الحضور فيه بليلة الجمعة ، وقيد الحضور في مولد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بيوم الاثنين .

وقال أهل السنة : إن مولد فاطمة أشرف البقاع المباركة في مكة المكرمة ، لأنها موضع ولادة بنات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الطاهرات .

وقال الدياربكري : دار خديجة امتلكها عقيل بن أبي طالب وباعها لمعاوية بن أبي سفيان فجعلها في المسجد مع أنه مولد فاطمة ( عليها السلام ) ، وهو معارض لما قيل . ومن مفاخر الإنسان أن يكون محل ولادته معلوما محددا .

نعم إن ولادة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) كانت في أفضل الأمكنة وأشرف البقاع وأقدس المواضع على وجه الأرض ، كانت في الموضع الشريف المبارك الذي كان مختلفا لجبرئيل الأمين والملائكة الكروبين ومهبط الوحي والتنزيل .

ويكفي في جلالة فاطمة وعلو قدرها أنك لا تسمع ذكرا لبنات خديجة الطاهرات في هذا البيت منذ أول البعثة وإلى يومنا هذا ، وإنما يزوره المجاور والزائر لأنه مولد فاطمة فقط ، فيضع وجهه متذللا متضرعا على تلك الأعتاب ، ويرفع يديه مبتهلا في غاية الرقة ، ويتحسس لهيب الأشواق ، وفي مكة بيوت أخرى ولدت فيها بعض أمهات المؤمنين وغيرهن من مشاهير النساء ، غير أنك لا تجد من يعبأ بها أو يقبل عليها مخالفا كان أو مؤالفا .

أراد الله لهذا الاسم المبارك أن يشيع ويذيع بين أهل مكة ، وجعل محل ولادتها - وهي المستورة الكبرى - موضعا لإجابة الدعاء وموطنا لنزول البركات ، وكيف لا يكون كذلك ؟ وهي شجرة طاب أصلها ، وبسق فرعها ، وعذب ثمرها ، وبورك في الذر قدرها ، وقدست في الزبر وضعها .

ومن الشعائر التي يقيمها الزوار الشيعة والسنة بالإتفاق زيارة مولد فاطمة في بيت خديجة الطاهرة في مكة المكرمة ، فإقامة هذه الشعائر وبقاء هذه الآثار لها وقع خاص في القلوب والأنظار ، وهي برهان واضح لنا - معاشر الشيعة - على صدق تلك التشريفات المباركة التي قام بها النبي ( صلى الله عليه وآله ) وجبرئيل وخيار النسوان وحوريات الجنان في هذا المكان ، وتشريف هذا البنيان الذي شيد لفاطمة الزهراء سلام الله عليها .

والحمد لله الذي جعل أعداءنا يذعنون ويقرون بما نعتقد ونعمل ، وما دام الأمر كذلك فلا يغفل الحجاج عن الحضور في ذلك المولد المكرم والمكان المعظم ، فلا يحسبونه أقل شأنا من « بيت لحم » الذي ولد فيه عيسى ابن مريم ( عليهما السلام ) الذي صار مزارا للنصارى ، فليزوروا مولد فاطمة ( عليها السلام ) كل يوم مدة إقامتهم هناك لينالوا السعادة ، ولا يفوتهم الفوز بالزيارة .

في بيان المواليد في مكة المكرمة ومحال استجابة الدعاء واعلم أن من مواليد المعصومين ( عليهم السلام ) المشهورة في مكة ثلاث موالد :

أحدها : مولد النبي ( صلى الله عليه وآله )

وثانيها : مولد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الكعبة في الركن اليماني على الرخامة الحمراء على رأي الشيعة وجماعة من أهل السنة .

وثالثها : مولد فاطمة الزهراء صلوات الله عليها .

ومولد النبي ( صلى الله عليه وآله ) في زقاق مكة المعروف ب‍ « زقاق المولد » في الشعب المعروف بشعب بني هاشم في الطرف الشرقي من مكة ، وهو مزار معروف يزدحم فيه أهل مكة في الثاني عشر من ربيع الأول يوم ولادة الرسول عند السنة ، ويحتفلون ويظهرون السرور والفرح والابتهاج ويلبسون أفخر ثيابهم ويتطيبون وينشدون الشعر ، ثم يتوجهون منه إلى مولد فاطمة ( عليها السلام ) .

أما مولد عيسى ( عليه السلام ) المعروف في « بيت اللحم » بالقرب من بيت المقدس فهو مزار معروف في هذه الأيام ، وقد تشرفت بعد زيارة مدينة الخليل بزيارة قدس الخليل ، ورأيت النصارى يقدسون ذاك المكان ويعظمونه أشد تعظيم ، والظاهر من حديث المعراج أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) صلى في ذلك الموضع ، ولكن كثيرا من الأخبار تدل على أن مولد عيسى ( عليه السلام ) كان في أطراف الفرات والكوفة وكربلاء ، بل على رواية الشيخ الطوسي عن السيد السجاد ( عليه السلام ) أنها كانت في كربلاء ، وهي المراد من قوله ( فانتبذت به مكانا قصيا ) أي كربلاء .

نعم قد يكون لحم هو المكان الذي أجلست فيه عيسى عند رجوعها من كربلاء . وأنكر العلامة المجلسي على من استبعد ولادة السيد المسيح في كربلاء ، وقال : « لعلها محمولة على التقية لاشتهارها بين المخالفين » أو أنها اشتهرت على ألسنة أهل الكتاب لتكون حجة عليهم .

الخلاصة : كما أن الساعة واليوم والشهر والسنة التي ولدت فيها فاطمة الطاهرة صارت شريفة مباركة وصار الزمن سعيدا بها ، فكذلك مكان ولادتها ، إضافة إلى أن منزل خديجة كان مختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل مدة من الزمان ، ثم جاءت ولادة السيدة المخدرة ( عليها السلام ) هناك تزيد المكان مزية على مزية ، وخصوصية فوق خصوصية .

والآن نحن بعيدون عن ذاك المكان ، فحق علينا أن نؤدي حق زمان ولادتها في العام مرة ، وكما أن مكان ولادتها من محال إجابة الدعاء فكذلك يوم ولادتها .

والأفضل أن ننشر فضائلها ونروي مناقبها ونذكر كراماتها وآياتها الباهرة من المبدأ إلى المعاد ، ولا يكون ذلك إلا في المحافل والجوامع والمساجد والمجامع العامة والبيوت الرفيعة للأعاظم من بني فاطمة وأكابر السادات ، سيما العلماء منهم .

وينبغي أن يشجع شعراء العرب والعجم ، ويرغبون في إنشاد الشعر ونظم القصائد ، والإكثار من المديح وإكرام المادحين والذاكرين وإتحافهم بالهدايا ، وشد قلوب المحبين وشحذ هممهم وإجراء الدموع من أعينهم ، وتهييج العوام فهذه الأعمال ممدوحة أيما مديح ومستحسنة أيما استحسان .

اللهم إنا نتقرب إليك بحبها وحب من يحبها وأبرء من كل وليجة دونها وأتقرب إليك باللعنة على أعاديها والبراءة من ظالميها في الدنيا والآخرة .

العودة إلى الصفحة الرئيسية