في معنى « المحدثة »

المحدثة - بفتح الدال - وهو من أعظم وأفضل الألقاب الطيبة لأم الأئمة النجباء فاطمة الزهراء صلوات الله عليها .

وهذه الدرجة السامية والرتبة النامية التي تلي مقام النبوة والإمامة خاصة بالزهراء ( عليها السلام ) .

وهي تعني أن صاحب هذا اللقب والمقام يكون ملهما ومؤيدا بالإفاضات الغيبية والعنايات الربانية ، حيث تحدثه الملائكة فيسمع أصواتها .

والظاهر من أخبار الكافي أن من مراتب النبوة قبل البعثة سماع صوت الملك ومعاينة الروح الأمين .

والمحدثة : اسم مفعول أي التي حدثت ، ولا بد للمحدثة من محدث ، وكان جبرئيل وغيره من الملائكة يحدثون النبي والوصي وفاطمة الزكية ، وكانت لفاطمة الزهراء ( عليها السلام ) لقاءات لا تحصى مع الملائكة .

وفي حديث مصحف جبرئيل ، كانت فاطمة تلتقي جبرئيل خمسة وسبعين يوما أوقات الصلاة المفروضة ، وتشاهده عيانا بالحاسة الباصرة الظاهرية والرؤية البشرية ، وتسمع منه الأحاديث والأخبار في ما كان وما هو كائن ، وكانت تلتقيه من قبل في زمان أبيها كما جاء في مرثيتها :

وكان جبرئيل بالآيات يؤنسنا * فقد فقدت فكل الخير محتجب

وقد ورد في أوصافها « المحدثة العليمة » .

ولما كان الحديث عن هذا المطلب الأسنى والمقصد الأعلى بنحو الإطناب مهما في هذا الكتاب ، لذا سننقل أقوال العلماء أولا ، ثم نذكر علائم وصفات المحدثة من الأخبار المعتبرة ثانيا ليثمر البحث نتيجة مفيدة إن شاء الله .

قال المحدث المرحوم الفيض في الوافي : المحدث - بفتح الدال وتشديده - هو الذي يحدثه الملك في باطن قلبه ، ويلهمه معرفة الأشياء ، ويفهم وربما يسمع صوت الملك وإن لم ير شخصه .

وقال في مجمع البحرين في معنى « المحدثين » : أي يحدثهم الملائكة وفيهم جبرئيل من غير معاينة .

وقال شارح أصول الكافي الفاضل المحدث المازندراني : هو الذي يلقى في قلبه شئ من الملأ الأعلى .

وقال بعض الأفاضل : هو الذي يحدث ما في ضميره بأمور صحيحة ، وهو نوع من الغيب ، فتظهر على نحو ما وقع له ، وهي كرامة من الله يكرم بها من شاء من صالح عباده وهو من صفاء القلب فيتجلى فيه من اللوح المحفوظ عند المقابلة بينه وبين القلب .

ومن كلماتهم أيضا : هو الذي يخلق الله في قلبه الصافي الأمور الكائنة بواسطة الملك الموكل به وقد ينتهي به الاستعداد إلى أن يسمع الصوت ويرى الملك .

وهذه العبارات الشيقة والمقالات المنيفة مأخوذة من العبارات الباهرة الآيات للأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) المذكورة في الكافي والبصائر ، منها : ما روي عن الصادق ( عليه السلام ) في وصف المحدث قال : إنه يسمع الصوت ولا يرى الشخص .

فقلت له : جعلت فداك كيف يعلم أنه كلام الملك ؟ قال : إنه يعطى السكينة والوقار حتى يعلم أنه كلام ملك .

ومنها : ما عن سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : إني وأوصيائي من ولدي كلنا محدثون .

قال سليم : قلت لمحمد بن أبي بكر : وهل تحدث الملائكة إلا الأنبياء ؟ قال : أما تقرأ القرآن : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) ولا محدث ؟ قال : قلت له : أمير المؤمنين ( عليه السلام ) محدث هو ؟ قال : نعم وكانت فاطمة محدثة ولم تكن نبية .

وفي حديث أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) : « فقال نعم وجدنا علم علي ( عليه السلام ) في آية من كتاب الله ( وما أرسلنا من قبلك من رسول . . . ) .

قلت : وأي شئ المحدث ؟ فقال : ينكت في أذنه فيسمع طنينا كطنين الطست أو يقرع على قلبه فيسمع وقعا كوقع السلسلة على الطست .

وروى هذا المعني في الكافي ، ومنتخب البصائر عن الأئمة المعصومين ، إلا أننا أعرضنا عن ذكرها طلبا للاختصار ، ويعلم مضانها أهل الإستبصار .

وفي كتاب تأويل الآيات عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال للحكم بن عيينة : هل تدري الآية التي كان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يعرف قاتله بها ويعرف بها الأمور العظام التي كان يحدث بها الناس ؟ . . . قال : فقلت : لا والله لا أعلم . . قال : هو والله قول الله عز ذكره : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) ولا محدث . ثم قال : وكل إمام منا محدث .

ونظيره الحديث المشهور « في كل أمة محدثون ومفهمون وإن أوصياء محمد ( صلى الله عليه وآله ) محدثون في هذه الأمة » .

وعقد في الكافي بابا خاصا لذلك .

والتأمل في هذه الأخبار يوضح لنا الفرق بين الرسول والنبي والمحدث ، فالمحدث لا رسول ولا نبي ، والنبي والرسول محدثان ، أي أن مرتبة المحدث تلي المرتبتين ، أو أنها رتبة من رتب النبوة والرسالة .

روى ثقة المحدثين وناشر آثار الأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) الحاجي دام ظله في كتاب نفس الرحمن جملة من الأخبار في حق سلمان الفارسي ، منها ما عن علل الشرائع للصدوق ( رحمه الله ) : إن فاطمة كانت محدثة ، وروي أن سلمان كان محدثا ، فسئل الصادق ( عليه السلام ) عن ذلك وقيل له : من كان يحدثه ؟ فقال : رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأمير المؤمنين ، وإنما صار محدثا دون غيره ممن كان يحدثانه ، لأنهما كانا يحدثانه بما لا يحتمله غيره من مخزون علم الله ومكنونه  .

ويلاحظ في ذيل الحديث الفرق الفاصل بين سلمان وغيره ، حيث كان سلمان يحدث عن إمامه ، والإمام يحدث عن الله سبحانه لأنه حجة الله « ولا يحدث عن الله إلا الحجة » .

وقد يستبعد هذا البيان مع ما مر سابقا ، ولكن يمكن الجمع بينهما بأن يقال أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان يؤكد ما يحدث به جبرئيل أو الملك .

وروى شيخ الطائفة في الأمالي عن الصادق ( عليه السلام ) قال : كان علي ( عليه السلام ) محدثا ، وكان سلمان محدثا .

قال : قلت : فما آية المحدث ؟ قال : يأتيه ملك فينكت في قلبه كيت وكيت .

والواضح من هذه الأخبار أن تحديث الملك فيض خاص وعلم مخصوص للمحدث دون سواه ، وهذه الإفاضة - أي النكت بالسمع والقذف في القلب - تكون للاستعداد والقابلية الكاملة الموجودة في المحدث خاصة ، وهذا الاستعداد والقابلية موهبة رحمانية ومكرمة ربانية ، ولذا قيل في سلمان : « سلمان منا أهل البيت » ، فإذا كان سلمان كذلك فلماذا لا تكون فاطمة الزهراء من أهل البيت ( عليهم السلام ) ؟ ! والحال أنهم قالوا إن آية التطهير تشمل زوجات النبي عامة ، وأصروا على هذه العقيدة السخيفة في مؤلفاتهم مع أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال مرارا « فاطمة مني وأنا من فاطمة » .

وعلى أية حال فإن هذا القلب النبيل والوصف الجميل من شرائف أوصاف السيدة الكريمة وأفضل ألقابها ، وكثيرا ما كان يجري على لسان النبي ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة الطاهرين ( عليهم السلام ) وهو يحكي كمال المخدرة الكبرى في العلم .

وروي في بصائر الدرجات في الجزء السابع أن الأئمة يخاطبهم الملائكة المقربون ويسمعون الصوت ويعاينون خلقا أعظم من جبرئيل وميكائيل .

وعن علي بن حمزة عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : إن منا لمن ينكت في قلبه ، وإن منا لمن يؤت في منامه ، وإن منا لمن يسمع الصوت مثل صوت السلسلة في الطست ، وإن منا لمن تأتيه صورة أعظم من جبرئيل وميكائيل .

بل إن علوم الأئمة ( عليهم السلام ) تزداد ليل نهار من خلال الإفاضات والنكتات والتقريعات والتوقيرات والقذفات والإلهامات المستمرة بلا نفاد ولا انقطاع ، كذرات الشمس وأشعتها ، تمدهم بالمدد الغيبي ، وهم يخبرون الناس ويبلغونهم ما يتعلمون .

وسنذكر في خصيصة مستقلة حضور الملائكة بطبقاتهم من جبرئيل وغيره ، ليعلم القراء كيف أن فاطمة كانت تتجلى فيها آثار الولاية والمعرفة الكاملة والعلوم الحقة ، وتأنس بالكرام من الملائكة المقربين ، وتتلقى العلوم الغيبية وتستفيض وتفيض من خطاباتهم ، مع أنها ليست في رتبة الإمامة ولم تكلف بهذا التكليف .

ويكفينا في هذا الباب الاستشهاد بحديث مصحف فاطمة ، ولا حاجة إلى شاهد آخر .

ففي الكافي في باب المصحف عن حماد بن عثمان عن الصادق ( عليه السلام ) في حديث : . .

فأرسل إليها ملكا يسلي غمها ويحدثها ، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال لها : إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي ، فأعلمته بذلك ، فجعل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يكتب كلما سمع ، حتى أثبت من ذلك مصحفا .

قال : ثم قال : أما إنه ليس فيه شئ من الحلال والحرام ، ولكن فيه علم ما يكون .

وفي الحديث أسرار يأتي شرحها إن شاء الله تعالى .

أما حديث بصائر الدرجات ، ففيه بعد ذكر الجامعة والجفر معنى المصحف ، وفيه تصريح باسم جبرئيل ، قال : وكان جبرئيل يأتيها فيحسن عزائها على أبيها ، ويطيب نفسها ويخبرها عن أبيها ومكانه ، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها ، وكان علي ( عليه السلام ) يكتب ذلك ، فهذا مصحف فاطمة ( عليها السلام ) .

وروى الصدوق عليه الرحمة في علل الشرائع في ذيل الآية المذكورة قال : مريم لم تكن نبية وكانت محدثة ، وأم موسى بن عمران كانت محدثة ولم تكن نبية ، وسارة امرأة إبراهيم قد عاينت الملائكة فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ولم تكن نبية ، وفاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كانت محدثة ولم تكن نبية .

ثم قال الصدوق ( رحمه الله ) : قد أخبر الله عز وجل في كتابه : بأنه ما أرسل من النساء أحدا إلى الناس في قوله تبارك وتعالى ( وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ) ولم يقل نساء ، المحدثون ليسوا برسل ولا أنبياء .

وفي علل الشرائع أيضا عن الصادق ( عليه السلام ) : إنما سميت فاطمة ( عليها السلام ) محدثة ، لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران ، فتقول : يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ، يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ، فتحدثهم ويحدثونها .

فقالت لهم ذات ليلة : أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران ؟ فقالوا : إن مريم كانت سيدة نساء عالمها ، وإن الله - عز وجل - جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها وسيدة نساء الأولين والآخرين .

وروى مثله في دلائل الإمامة عن محمد بن هارون بن موسى التلعكبري وقد روي هذا التعليل في كتب الإمامية كثيرا .

والعجب من ابن كثير العامي ، وهو مؤرخ منصف ، حيث قال في النهاية : قد كان في الأمم محدثون ، فإن يكن في أمتي أحد فعمر بن الخطاب » ! ! إن مقصود ابن كثير - كما اعتقد - « المحدث » بالكسر لا بالفتح ، أي إن عمر كان محدثا وراوية ، ولكن هذا أيضا يحتاج إلى دليل من الخارج حتى يخصص عمر دون غيره بالرواية والتحديث ، ولو ثبت لأزعج أبا بكر ، فكيف يكون ذلك لعمر مع كل ما كان لأبي بكر من سابقة في الإسلام ؟ ! ! إضافة إلى ما في ذلك من تناقض وتهافت لا يخفى على المنصفين من أهل النظر والبصيرة .

ثم إن الإمامية ذهبوا إلى استحالة وجود المحدث بالفتح في غير أهل البيت ( عليهم السلام ) وخواصهم الذين ورد النص فيهم .

أما فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) فكانت محدثة - بالفتح - ومحدثة - بالكسر - كاملة في غاية الكمال .

حيث كانت المستورة الكبرى تحدث أمها وهي في بطنها ، وسنذكر أخبار الشيعة الإمامية في ذلك مفصلا في باب ولادتها ، ونقتصر هنا على ذكر ما قاله الشيخ عز الدين عبد السلام الشافعي في كتاب « مدائح الخلفاء » بعد أن ذهب إلى تفضيل فاطمة على مريم لأنها تكلمت في بطن أمها ; قال - وعبارته قريبة من روايات الإمامية - : فلما حملت خديجة بفاطمة كانت تحدثها من بطنها وتحدثها وتؤنسها في وحدتها ، وكانت تكتم ذلك عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فدخل النبي يوما فسمع خديجة تحدث ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : يا خديجة ! لمن تحدثين ؟ قالت : احدث الجنين الذي في بطني فإنه يحدثني ويؤنسني .

قال ( صلى الله عليه وآله ) : يا خديجة ! أبشري فإنها أنثى ، وإنها النسلة الطاهرة الميمونة ، فإن الله جعلها من نسلي ، وسيجعل من نسلها خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه ، فما برح ذلك النور يعلو وأشعته في الآفاق ينمو حتى جاء الملك فقال : يا محمد ( صلى الله عليه وآله  ) ! أنا محمود إن الله بعثني أن أزوج النور من النور. . . إلى آخر الخبر .

ولا يخفى أن المحدثة - بالفتح - لا بد أن تكون ذات قدر ومقام ومنزلة بحيث تحدث أمها وهي في بطنها ، وسمو المقام هذا ناتج عن ذاك الاستعداد الفطري الأولي المودع فيها والمعطى لها منذ اليوم الأول الذي اصطفيت فيه على نساء العالمين ، تعالى جلالها وتلألأ جمالها وعم نوالها من كثرة ذرياتها ، وعز مآلها ، فضلا عما خصها الله تعالى بأفضال السجايا ، وأفردها بكرائم المزايا ، بحيث لا يحصيها أحد ويعجز عن أدائها كل مستسعد مع طول الزمان وبذل الجهد ، وإني كنت والله مقصرا في جنب ما أولاني ربي من نشر معالي فضائلها ونثر لآلي فواضلها ; لأنها مستخرجة من علوم لا تدرك وبحار لا تنزف .

بيان الحديث والخبر والنبأ مترادفات كما فصلنا في مكاتيبنا وأوضحنا الفرق بين الحديث وأخويه ، ولكن ليعلم هنا أن الحديث : هو الكلمات والعبارات والحروف المتتالية تفيد كلاما جديدا ، والحادث خلاف القديم . قال في الصراح : الحديث يقال بالفارسية للجديد وجمعه أحاديث وأحدوثة .

وقيل في ذيل الآية الشريفة ( فليأتوا بحديث مثله ) : إنما قيل للحديث حديث لأنه يحدث في القلوب العلوم والمعاني والمعارف الجديدة ، فتكشف الحقائق والدقائق الجديدة في العلوم والحكم ، وهي من الحظ ، قال تعالى : ( وقل رب زدني علما ) فكانت إفاضات الآيات المباركة بمفاد قوله ( نزل به الروح الأمين على قلبك ) تنزل منجمة ومندرجة على القلب المبارك للحضرة النبوية المقدسة .

هذا ; ولا ينقضي العجب مما رواه ابن الأثير نقلا عن يوسف سبط ابن الجوزي في « تذكرة الخواص » عمن يرويه عن جماعتهم ، قال : قالوا : وقد روت عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثمانية عشر حديثا ، وقيل : ثمانين حديثا . . » .

ولا أدري لماذا يقال في فاطمة ( عليها السلام ) أنها تروي هذا العدد الضئيل من الأحاديث عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، بينما يقال في عائشة - ويا له من عجب لا ينقضي - أنها حفظت عدة آلاف حديث - على اختلاف الأقوال في العدد - ؟ ! قال الأزري :

حفظت أربعين ألف حديثا * ومن الذكر آية تنساها

والعجيب أنهم يرون أن أحاديث عائشة - جميعا - في غاية الصحة والاعتبار ، فكيف روت عائشة أكثر من فاطمة الطاهرة ( عليها السلام ) ، والحال أنها عاشت مع النبي ثماني وعشرين سنة بناء على ما ذهبوا في سنها ( عليها السلام ) ؟ ! وكما قال سبط ابن الجوزي « وإنها يسيرة بالنسبة إليها » ؟ ! فإن كان المناط قوة الحفظ والذكاء والفطنة والشوق المفرط ، فليس لتلك العالمة الربانية ند ولا عديل ولا نظير ، وإن كان السبب في أنها كانت في وثاق سلطان الولاية عشر سنين بعيدا عن حجر النبي ( صلى الله عليه وآله ) - كما يزعم أهل السنة - فإنها لم تنقطع عن أبيها معنويا ، بل كانت مرتبطة به قريبة منه متصلة به اتصالا حقيقيا ، وكانت ملازمة له حاضرة في خدمته ، إضافة إلى أنها كانت تسمع كل خبر وجديد عن طريق زوجها وأبنائها .

والظاهر أن هذا العدد الهائل من الأحاديث الذي روتها عائشة كانت عبارة عن تسجيل ليومياتها ، ثم نسبت إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وصارت مصدرا للأحكام الشرعية ، فهي كانت تروي أفعالها وأقوالها وتصرفاتها الشخصية وما تقوم به آناء الليل وأطراف النهار فأخذوه منها ونسبوه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وافترضوه حديثا ، ثم صار فيما بعد خبرا صحيحا .

كيف امتازت عائشة على باقي أزواجه ( صلى الله عليه وآله ) اللواتي عشن معه وحظين بشرف صحبته ومضاجعته ولم يروين عنه إلا أحاديث قليلة ؟ ! لا أدري ; لعل طول عمرها وضغائنها الدفينة - التي اتفق عليها الفريقان وذكر جملة منها ابن أبي الحديد - وأعلام خلفاء الجور هو السبب في ذلك .

ولكن أهل البصيرة والإنصاف يعلمون جيدا أنه لا يمكن الإعتماد على أقوال المغرضة التي تروي ولا تتحرج ، ولا الاستناد إلى روايات أصحاب الجمل والخوارج أرباب الحيل والنواصب ، فكلها مجعولات موضوعات صدرت من منشأ الفساد ومنبع العناد بدافع الهوى والأغراض الدنيوية ، إلا ما كان من رواياتهم في فضل أهل بيت العصمة ، ومناقبهم التي اضطروا إلى إظهارها ولم يجدوا محيصا عن روايتها والتحديث بها ( إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ) ، وقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « ستكثر بعدي القالة : علي ; وقال الصادق ( عليه السلام ) : إن لكل رجل منا رجلا يكذب عليه » .

فحمدا له ثم حمدا له أن وفقني أن أكتب شيئا موجزا بمقدار القدرة عن عدة ألقاب ممدوحة شريفة من الميامن القدسية للحضرة المقدسة الفاطمية ، واستقصيت ما استطعت الأخبار والآثار ، وذكرتها ضمن الخصيصة المناسبة ، بحيث كان لكل خصيصة ولقب حديثا وخبرا .

لكني أقول : أين فاطمة وهذه الألقاب ، وأين التراب ورب الأرباب ; وكل من يعتقد وجوب القيام بحقها كيف يرقى في معراج فضائلها ، وكيف يستضيء بنور أفقها ؟ وكيف يصعد من هذه الأسباب إلى ذروة جلالها وطرقها ؟ إلا من استبان فضلها ، وعرف قدرها ونلها ، وعلم فرعها وأصلها ، ومن أحاط بها أحق من عرفانها ، وهو أهلها ; وصفاتها أشتات لا يجمعها إلا من تنسك بشعارها وتمسك بعطف دثارها ، فويل ثم ويل لأئمة الجور وطغاة هذه الأمة الذين لعناهم كلعن أصحاب السبت ، فكيف يرقعون ما خرقوا ؟ وكيف يطلبون سبيل الرشاد فيما طرقوا ؟ وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ؟ ولعمري إنهم من ذرية النفاق وحشو النار وحصب جهنم ، فأقول ما قيل متمثلا في أوصافها :

هذي المكارم لا قعبان من لبن * شيبا فعادا بعد أبوالا

العودة إلى الصفحة الرئيسية