{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} ‏سورة الحج الآية 19‏

قال السيد محمد حسين فضل الله في تفسيره: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} فمنهم مَن كفر ‏بالله ومنهم مَن آمن به، عاشوا الحياة صراعاً فيما بينهم، لأنَّ لكلٍّ منهم خطاً فكريَّاً وموقعاً للحكم ‏وللسياسة وللحياة مختلفاً يدور القتال حوله، كما أنَّ لكلٍّ منهم قياداتٍ وأتباعاً وأوضاعاً، وتبقى ‏الحياة ويبقى هذان الخصمان على صراعهما ليحكما الحياة منذ البداية إلى النهاية، ولكن ماذا بعد ‏الحياة عندما يقوم الناس لرب العالمين [من وحي القرآن ج16ص41-42]

أقول: إنَّ القرآن الكريم كان وما زال وسيبقى ما بقيت الدنيا حيَّاً، وأبداً لا يموت القرآنُ بموت مَن ‏تنزل الآيةُ فيه أو فيهم، أو بموت مَن تكون الآيةُ مرتبطةً به لمناسبة معيَّنة، لذا لم تكن ثمة حاجة ‏تدعو لمعرفة سبب النزول إلا فيما اشتملت الآية على وصف، أو تضمَّنت مدحاً له مساسٌ ‏بالعقيدة، فاحتاج الأمرُ إلى معرفة سبب النزول.‏

وقد يحتاج تحقيقُ الحق في ثبوت بعض الأحكام على معرفة ذلك، ولسنا بصدد تفصيل الكلام في ‏هذا.‏
ولا يُفهم من كلامنا أنه ليس لمعرفة سبب النزول دخالةٌ، بل له في كثيرٍ من الموارد دخالةٌ، ومما ‏يُساعد على فهم المعنى الذي تريد الآيةُ تركيزَه أو إثباتَه.‏

هذا من ناحية ومن ناحية ثانية، فإنه إذا ما ثبت ومن خلال ثبوت موردِ النزول، أنَّ هذه الآيةَ ‏نزلت في فلان وتلك فيه أيضاً، وثالثة حيث ناجى ربه، ورابعة حيث اختصم مع قوم كافرين، ‏وهكذا، فإنَّ هذا وحده يكشف عن مدى اهتمام المولى سبحانه بهذا الرجل، ويُنبِىء عن كونه ذا ‏محلٍ رفيعٍ، وشأنٍ عظيم عند مولاه.‏

فقد تصدَّقَ عليٌّ (عليه السلام) بأربعة دراهم فنزلت آية {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً ‏وَعَلاَنِيَةً}، وتصدَّقَ راكعاً على مسكين فنزلت {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ}، وبات ‏على فراش النبي (صلى الله عليه وآله) ليلةَ الهجرة فنزلت {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء ‏مَرْضَاةِ اللهِ} ولا مجال لإحصاء جميع ذلك في هذه العجالة.‏

والذي نرمي إلى التنبيه عليه، أنَّ ثمة أموراً تثبت من خلال ثبوت نزول آيةٍ تضمَّنت مدحاً ‏وتبجيلاً في حقِّ مَن نزلت فيه، وإذا ما كان الخصمُ أو بعضُ المعاندين منهم يحاولون التشكيكَ في ‏ذلك في هذا الموقع أو ذاك، فإنَّ الهِمَّةَ يجب أن تنصرف أولاً إلى إثبات سبب النزول، وأنَّ الآيةَ ‏نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام) مثلاً، وهكذا الحال في مثيلاتها من الآيات حيث يستطيعُ ‏الباحثُ أن يُكِّونَ الفكرةَ الجليَّةَ عن مقامِ ومحلِّ وشأنِ أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام).

وفي المقابل إذا ما أهمل فلانٌ أو فلانٌ التذكيرَ بارتباط الآية بأهل البيت (عليهم السلام)تارة، أو ‏أعرض عن بيان ذلك الأمر بما يُشعِرُ بعدم الاهتمام منه بهذه الأمور، فإنَّ من شأن هذا وحده أن ‏يُضعِّفَ عقيدةَ المؤمنين بسادتهم من جهة، ويُوجِبَ ضياعَ الحقِّ من جهة ثانية، فضلاً عن أنَّ مثلَ ‏هذا الأسلوبَ لا يتناسب مع ما هو الواجب من إحياءِ ذكر آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ونشرِ ‏مناقبهم، وتعريفِ الناس فضائلهم.‏

ولو أنه قُدِّر في كلِّ عصر أن يكون أمثال صاحب كتاب من وحي القرآن، فإنَّ غالبَ الظن أن ‏يكون مآلُ كثيرٍ من مناقب أهل البيت (عليهم السلام) ومثالب أعدائهم إلى يباب وضياع، لبداهة أنَّ ‏كلَّ أثرٍ إنما يكون حظُّه في البقاء والاستمرار مرهوناً بكمِّ وكيفِ التحديث والتذكير به.‏

ولو أنه كان لفلان من الناس تحفُّظٌ على ما ذكرناه من منهج المفسِّر المعاصر، أو على بعض ما ‏أشرنا إليه، غير أنه لا مجالَ لإنكارِ إيجابِ إهمال التعرُّض لخفاء أكثر الأثار والأخبار الواردة في ‏مناقب العترة الطاهرة (عليهم السلام).‏

وإذا لم يكن همِّي ربطَ الناس بأهل البيت (عليهم السلام) وتركيزَ عقيدتهم الصافية بهم من خلال ‏نشر فضائلهم والتدليل على مناقبهم، فأنَّى لي أن يذكرني أئمةُ الهدى بالولاء لهم؟!‏

 

وما لم أكن وفي كلِّ موقعٍ تسنح لي الفرصةُ ذاكراً ومتعرضاً لبيان مثالب أعدائهم ـ وكلُّ أعدائهم ‏مثالبٌ وليس في أعدائهم إلا المثالب ـ فأنَّى لي أن يكتبني آلُ محمد (صلى الله عليه وآله) في ‏ديوان المتبرِّئين من أعدائهم قولاً وعملاً؟! إنَّ هذا مما يُريب.‏

ولا يكاد ينقضي تعجبي من السيد محمد حسين فضل الله، فإنه ومع ثبوت نزول الآية التي نبحث ‏فيها في أمير المؤمنين (عليه السلام)وصاحبيه، ومع وجود كلام باطل لبعض أئمة أبناء السنة من ‏إنكاره لهذا المعنى، فكيف لم نرَ منه أيَّ دفاع عن الحق، ولم نظفر له بكلمة في دحضِ الباطل؟!‏

وكيف لا تراني أعجب، وأنا أرى أنَّ الناصبيَّينِ الخبيثَينِ الذهبي وابن كثير، يذكران خبرَ نزول ‏الآية في أمير المؤمنين (عليه السلام) وصاحبَيه، ولا نرى من السيد محمد حسين أية إشارة من ‏قريب ولا من بعيد؟!‏

أما الناصبي الأول، فقد أخرج الحديث في تذكرة الحفاظ بإسناده عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ‏ذر يُقسِم قسماً إنَّ هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نزلت في الذين برزوا يوم بدر.‏

وقال الناصبي الثاني في المجلد الثالث من البداية والنهاية، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي ‏مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر: أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا ‏فِي رَبِّهِمْ} نزلت في حمزة وصاحبه،‏‎ ‎وعتبة وصاحبه يوم برزوا في بدر.‏

أقول: ولعل في الطبع تصحيفاً، وأنَّ الصحيح «وصاحبيه»كما ذكره في تفسيره.‏

إلا أنه وفي المجلد السابع لم تطاوعه نفسُه على الجري على عادته من إظهار بُغضه لأمير ‏المؤمنين (عليه السلام) فقال: وأما قوله تعالى {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} فثبت في ‏الصحيح أنه نزل في عليٍّ وحمزة وعبيدة من المؤمنين،‎ ‎وفي عتبة وشيبة والوليد بن عتبة من ‏الكافرين.‏

أقول: ولعله لم يتعمَّد ذِكْرَ عليٍّ (عليه السلام) وإنما جرى قلمُ الحق، ونُرجِّحُ جداً هذا المعنى، فإنَّ ‏مثلَ ابن كثير ممنوعٌ ـ لخبث سريرته، ودنائة نفسه، وردائة معدنه ـ عن التفوُّهِ بذكر فضيلة ‏لأمير المؤمنين (عليه السلام).‏

ولكن يا تُرى ما هو السبب الذي حمل السيد محمد حسين فضل الله على عدم ذكر سبب النزول، ‏مع أنَّ في الآية إشاراتٍ لطيفةً على رفيع محل مَن نزلت الآيةُ فيهم؟!! ولولا ضيق المجال ‏لأشبعنا المقام فيما نبلغ من ذلك ونستطيع، في بيان عظمة هذه الفضيلة.‏

ومهما يكن فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وأحمد بن حنبل في فضائل الصحابة، والبخاري ‏ومسلم في صحيحيهما، وابن ماجة في سننه، والنسائي والبيهقي في السنن الكبرى، والحاكم ‏النيسابوري في المستدرك، والطبراني في المعجم الكبير، وإبن جرير الطبري في تفسيره، ‏والواحدي في أسباب النزول، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ـ وجميع هؤلاء من أبناء ‏السنة ـ بإسنادهم عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يُقسِم قسماً لقد أُنزلت هذه الآية {هَذَانِ ‏خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} في عليٍّ وحمزة وعبيدة بن الحارث....الحديث.‏

أقول: وأخرجه أيضاً الحسكاني بإسناده عن أبي سعيد الخدري.‏

وأخرج البخاري أيضاً، والنسائي، والحاكم النيسابوري، والواحدي، والحاكم الحسكاني، بإسنادهم ‏عن قيس بن عباد قال: قال عليٌّ (عليه السلام): فينا نزلت هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي ‏رَبِّهِمْ}.‏

وأخرج النحاس وابن المغازلي في المناقب، وابن مردويه، والحاكم الحسكاني، بإسنادهم عن ابن ‏عباس قال: سورة الحج نزلت بمكة سوى ثلاث آيات منها فإنهن نزلن بالمدينة في ستة نفر من ‏قريش ثلاثة منهم مؤمنون وثلاثة كافرون فأما المؤمنون فهم حمزة بن عبد المطلب،وعليٌّ (عليه ‏السلام) بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث.‏

وقال السيوطي في الدر المنثور: وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس، وابن أبي حاتم عن أبي ‏العالية، وعبد بن حميد عن لاحق بن حميد.‏

أقول: وأخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره عن هلال بن يساف، وعن عطاء، وفرات الكوفي ‏في تفسيره عن محمد بن سيرين، وعن السدي.‏

وورد الكثير والكثير وبطرق كثيرة، واكتفينا بما رواه أبناء السنة، وحسبك أنَّ أئمةَ الضلال وأهلَ ‏الباطل، أجمعوا على إخراجه وروايته وتصحيحه، فراجع:

من مصادر أبناء السُّنة: المصنف لابن أبي شيبة ج 8 ص 473 ـ 474 وص 480 ؛ فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ص 30 ؛ ‏صحيح البخارى ج 5 ص 6 ـ 7 و242 ؛ صحيح مسلم ج 8 ص 245 ـ 246 ؛ سنن ابن ماجة ج 2 ص 946 ؛ المستدرك على ‏الصحيحين ج 2 ص 385 ـ 386 السنن الكبري للبيهقي ج 3 ص 276 وج 9 ص 130 ؛ السنن الكبري للنسائي ج 5 ص 57 ـ ‏‏58 و194ـ 196 ؛ المعجم الكبير للطبراني ج 3 ص 149 ـ 150 ؛ علل الدارقطني ج 4 ص 99 ـ 101 وج 6 ص 262 ـ ‏‏263 ؛ تفسير جامع البيان ج 17 ص 172 ؛ معاني القرآن للنحاس ج 4 ص 369 إلى371 ؛ أسباب نزول الآيات ص 207 ـ 208؛ ‏تفسير الثعالبي ج 4 ص 113؛ تفسير القرطبي ج 12 ص 24 ـ 26؛ شواهد التنزيل ج 1 ص 503 إلى512 و516 ؛ تفسير ابن ‏كثير ج 3 ص 222 ؛ الدر المنثور ج 4 ص 348 ـ 349 ؛ لباب النقول ص 134 ؛ كنز العمال ج 2 ص 472 ؛ تاريخ مدينة ‏دمشق ج 38 ص 257 إلى260 ؛ تذكرة الحفاظ ج 4 ص 1454 ؛ البداية والنهاية ج 7 ص و ج 3 ص 333 ؛ ذخائر العقبىص 88 ‏ـ 89 ؛ جواهر المطالب ج 1ص 47 إلى49 و221 ‏

 

ومن كتب أبناء الفرقة الناجية: تفسير فرات ص 269 إلى272 ؛ تفسير التبيان ج 7 ص 302 ؛ تفسير مجمع البيان ج 7 ص 139 ؛ ‏تفسير الميزان ج14 ص 363 ـ 364 ؛ تأويل الآيات ج1 ص 334 ؛ العمدة ص 310 ـ 311 ؛ سعد السعود ص 102 ـ 104 ؛ ‏مناقب آل أبي طالب ج2 ص 310 ؛ بحار الأنوار ج19 ص 288 و296ـ 297 و313 ـ 314 و335 وج36 ص22 و128 و41 ‏ص 78‏

العودة