ـ وسائل النبي عادية إلا في مواقع التحدي.

ـ إهانة وتحقير الأنبياء بحجّة نفي الولاية التكوينية.

ـ النبي لا يستعمل الوسائل غير العادية للتخلص من المشاكل.

ـ التشريف لا يتمثّل في إعطاء القدرة من دون قضية.

ـ الله لا يشرّف أنبياءه في الدنيا..

ـ الولاية التكوينية إنما تكون في أصعب أوقات التحدي فقط.

ـ في التحدي، يحتمل كونها تدخلاً إلهياً مباشراً، لا من فعل النبي.

ـ لا معنى لولاية، لا أثر لها في حياة الانبياء.

ـ لا معنى لولاية، لا أثر لها في حماية رسالاتهم.

ـ قراءة تاريخ الأنبياء الصحيح أظهرت أنهم لم يحركوا الولاية لحماية أنفسهم..

ـ دور عيسى في إحياء الموتى كان دور الآلة..

ـ حصر مهمة النبي في الإبلاغ والتبشير والإنذار، والهداية فقط.

ـ الآيات قد تدل على عدم الولاية التكوينية.

ـ موسى كان خاضعاً للخوف من تجربة السحرة.

ـ موسى كان خاضعاً للحيرة فيما يمكن أن يردّوا به التحدي.

ـ موسى كان ينتظر التدخل الإلهي المباشر.

ـ لا معجزة للنبي (ص) سوى القرآن.

ـ انشقاق القمر أصعب من اقتراحات المشركين عليه..

ـ مظاهر الضعف البشري للأنبياء.

ـ خوف موسى من قتل فرعون له مظهر ضعف.

ـ خوف موسى من موقف التحدّي مع السحرة مظهر ضعف.

ـ خوف إبراهيم حين دخول الملائكة مظهر ضعف.

ـ الله يمنح الرسول بقدر حاجة الرسالة.

ـ لا توجد لدى النبي بالفعل طاقة دفع الشر وجلب الخير.

ـ دفع الشر وجلب الخير يحصل تدريجاً بإفاضـة مباشرة، لا من خلال قدرة موجودة.

ـ لا يحتاج النبي إلى الغيب إلا في تاريخ رسالات السابقين فقط.

ـ علم الغيب إنما يكون بطريق الوحي التدريجي عند الحاجة.

ـ قد يكون المراد بالغيب الذي يطلع عليه رسله الجو الملائكي الذي يحميه من الشياطين.

ـ علم الغيب الماضي وحي، وفيما يواجهه من حاجات إلهام.

ـ الاستثناء في آية {إلا من ارتضى من رسول} منقطع.

ـ حصر علم الغيب في مفردات قليلة.

ـ لا يملك النبي فعلية علم الواقع.

ـ الله لم يعط النبي قدرة على الغيب، لا أصالة ولا تبعاً.

ـ لا ضـرورة أو حاجة تفرض الولاية التكوينية المطلقة.

ـ الرسالة لا تفرض الولاية التكوينية.

ـ الانبياء لم يمارسوا الولاية التكوينية في حياتهم.

ـ لا نجد تفسيراً معقولاً للاحاديث: (إن الله خلق الكون لأجلهم).

ـ هل خلق الكون لأجلهم لأجل التشريف أو في نطاق الدور الرسالي.

ـ الكلام هو في المبررات الواقعية للمضـمون في العلاقة بين النبوة والأمامة وبين الولاية التكوينية

ـ حديث خلق الكون لأجلهم لا بد من إهماله.

ـ حديث: (خلق الله الكون لأجلهم) لابد من إخراجه عن العقيدة.

يقول السيد محمد حسين فضل الله:

"ولكن التأمل يفرض علينا ـ بالإضافة إلى ذلك ـ أن نجد تفسيرا للمضمون الفكري من حيث انسجامه مع طبيعة الأشياء المتصلة بالمضمون، وذلك كما هو الحديث عن مسألة الولاية التكوينية التي يذهب إليها الكثيرون من علماء الأمامية انطلاقا من الأحاديث الدالة على ذلك، ومن عدم وجود أية ممانعة عقلية في تجويزها، فقد يبرز سؤال في ذلك، عن ضرورتها، ما دامت الرسالة التي أمروا بالحفاظ عليها، كما أمر النبي (ص) بتبليغها لا تفرض ذلك، وما داموا لا يمارسونها في حياتهم بشكل وبآخر، لاسيما أن النبي (ص) ينفي عن نفسه هذه القدرة فيما حدثنا القرآن عنه في جوابه للمشركين الذين اقترحوا عليه القيام ببعض الأفعال الخارقة للعادة، وذلك بقوله {سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا} (الإسراء: 93) مما يوحي بأن الرسولية لا تفرض وجود مثل هذه القدرة في دوره ومهمته.

وهكذا نجد السؤال يفرض نفسه في الأحاديث التي تدل على أن الله خلق الكون لأجلهم، فإننا لا نستطيع أن نجد له تفسيرا معقولاً حتى على مستوى وعي المضمون في التصور الفكري، فهل القضية واردة في نطاق التشريف، أو في نطاق الدور الرسالي، أو نطاق الهداية أو ما إلى ذلك؟

إن القضية ليست في الحديث عما هو الممكن والمستحيل في الجانب التجريدي من حيث الحكم العقلي، بل هي في إيجاد المبررات الواقعية للمضمون على أساس العلاقة بين النبوة أو الإمامة وبين هذه الأمور وإذا كان البعض يتحدث بأن ما لا نفهمه من هذه الأمور لا بد أن يردّ علمه إلى أهله، فإن ذلك يفرض علينا إهمالها وعدم اعتبارها من أصول العقائد باعتبار أن العقيدة لا بد أن تمثل وعياً في الفكر وقناعة في الوجدان"  المعارج ص327-328

وفي مورد آخـر:

بعد أن اعترف السيد فضل الله صراحة بأن:

"الله القادر يملك أن يمكّن بعض خلقه من بعض مواقع القدرة ووسائلها، ويمكن أن يوسّع هذه الأمكانات لأكثر من مهمة جديدة في الكون.. كما أنه يمكن أن يبقيها في دائرة خاصة، وليس في ذلك أي انحراف عن العقيدة التوحيدية لأن القضية قضية عطاء إلهي يتحرك في الدائرة الخاصة التي يحدّدها الله لعباده من خلال إرادته المطلقة التي لا يعجزها شيء.."

بعد أن قرّر ذلك.. اتجه نحو الحديث عن وقوع ذلك بالفعل أو عدم وقوعه، فقال:

"جانب الحاجة أو الضرورة لذلك، والسؤال: لماذا يجعل الله لهم الولاية التكوينية؟ هل هناك مهمة تتوقف على ذلك، بحيث تكون المسألة هي أن يملكوا القدرة الفعلية الشخصية بحيث يصدر الفعل منهم فلا يتحقق الهدف إلا من خلال ذلك، أم هي قضية تشريف إلهي لهم حيث يمنحهم هذا الموقع الكبير الذي لا يملكه أحد في الوجود غيرهم؟

هذه علامات استفهام تطوف في الذهن، فلا نجد لها جواباً إيجابياً يؤكد النظرية، فنحن نعلم أن دور الأنبياء هو دور تبشير وإنذار وتبليغ، وإذا كان لهم دور تنفيذي فإنهم يتحركون فيه من خلال الوسائل العادية المطروحة بين أيديهم في الحالات العادية، فإذا جاء التحدي الكبير الذي يحول الموقف إلى خطر كبير على الرسالة والرسول، بحيث كانت الوسائل العادية ذات مردود سلبي على الموقف والموقع، لأنها تجعل القضية في حالة الضعف الشديد، فإن المعجزة عندئذ تتحرك لتحفظ توازن الرسالة في موقع الرسول، وتصدم واقع الكافرين بالصدمة القوية القاهرة التي ترد كيدهم وتهدم كيانهم وتؤدي بهم إلى الضعف والهزيمة. كما في طوفان نوح (عليه السلام) ونار إبراهيم (عليه السلام)، وعصا موسى (عليه السلام)، أو يده البيضاء، وفلق البحر له، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص لدى عيسى (عليه السلام)، وقرآن محمد (ص)، وتنتهي المسألة عند هذا الحد فتكون بمثابة قضية في واقعة، وتعود الرسالة إلى مجراها الطبيعي، ويعود الرسول إلى الوسائل العادية، ويتحرك الصراع من جديد ليعيش النبي هنا، وهناك أكثر من مشكلة، وهمّ وبلاء، فيتحمل الألم القاسي، ويواجه التحديات الصعبة، كأي إنسان آخر من دون أن يبادر إلى أية وسيلة غير عادية للتخلص من ذلك كله.

أما التشريف، فإنه لا يتمثل في إعطاء القدرة من دون قضية، أو توسيع السلطة من دون مسؤولية، والله يشرف أنبياءه من خلال رفع درجتهم عنده من خلال تقريبهم إليه، ومحبته لهم، وعلو مقامهم في الآخرة، أما الدنيا فلا قيمة لها عنده، ولذلك لم يجعلها أجراً لأوليائه بل أتاح الفرصة الكبرى فيها لأعدائه.

إننا لا نجد أية ضرورة أو حاجة تفرض إعطاء الولاية التكوينية المطلقة لهم إلا بالمقدار الذي تحتاجه الرسالة في أصعب أوقات التحدّي مع احتمال أنها ليست من قدرتهم، ولكنها قدرة الله بصورة مباشرة، ثم ما معنى هذه الولاية التي لا أثر لها في حياتهم من قريب أو من بعيد، ولا دخل لها في حماية رسالتهم، فلم يستعملوها في إذهاب الخطر عنهم، ولم يتحركوا بها في الانتصار لرسالاتهم، وذلك من خلال قراءة تاريخهم الصحيح كله؟

أدلة الولاية التكوينية:

الناحية الثانية: ناحية الدليل على ثبوتها من خلال النص القرآني في نطاق المعاجز الخارقة في حياة الأنبياء، فنلتقي في البداية بالنبي نوح في قوله تعالى: {كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر، فدعا ربه أني مغلوب فانتصر، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمرٍ قد قدر} (القمر: 9ـ12) وهي واضحة الدلالة على أن المسألة كانت دعاء نوح واستجابة ربه له بإغراق الكافرين بالطوفان، من دون أن يكون لنوح أي دور عملي فيه.

فإذا انتقلنا إلى إبراهيم (ع) فنجد قوله تعالى: {قالوا حرقوه وانصروا ءالهتكم إن كنتم فاعلين، قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم، وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين} (الأنبياء:68 ـ 70)

إنه اللطف الإلهي بنبيه إذ أردوا إحراقه، فأنجاه الله من النار، فحوّلها إلى عنصر بارد، فإذا انتقلنا إلى الطلب الذي قدمه النبي إبراهيم (عليه السلام) إلى ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، وذلك قوله تعالى {وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئـن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهنّ إليك ثم اجعل على كل جبلٍ منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم } (البقرة: 260) فإننا نرى أن دور إبراهيم في المسألة هو أن يأتي بالطيور ويذبحـها، ويقسمها إلى أجزاء ثم يدعوهن لتأتينه سعياً، لنشاهد الصورة الواضحة في كيفية إحياء الله الموتى، فإن الله هو الذي أحياها بطريقة مباشرة، ولم يكن لإبراهيم دور في ذلك.

ونصل إلى موسى (ع) الذي تمثّلت المعجزة لديه أولاً في مجلس فرعون الذي قال كما جاء في قوله تعالى: {قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين} (الأعراف: 106ـ108) ثم في ذروة التحدي الذي واجهه في صراعه مع السحرة، وذلك في قوله تعالى: {وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون} (الأعراف: 117)، ونحن لا نرى أي جهد لموسى في الموضوع، فإنه كان يعيش دور المنفعل الذي يحول الله يده السمراء إلى بيضاء، ويحول العصا التي يمسكها إلى ثعبان، وكان خاضعاً للخوف من تجربة السحرة، وللحيرة في ما يمكن أن يقوموا به رداً للتحدي، لأنه كان ينتظر تدخل الله غير العادي في المسألة، وذلك هو قوله تعالى {فأوجس في نفسه خيفة موسى، قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى، وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى} (طه: 67ـ69).

ثم نلتقي بالنبي سليمان (عليه السلام) الذي قال: {رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب} (ص: 35) واستجاب الله دعاءه: {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بنّاء وغواص، وآخرين مقرنين في الأصفاد، هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} (ص: 36ـ39)، فليس في القصة إلا دعاء واستجابة ربانية أعطته ما يريد من دون أن يكون له أي دور عملي أو قدرة واقعية في تحقيق ذلك.

ونصل ـ بعد هذه الجولة الطويلة ـ إلى عيسى (ع) الذي يُدّعى ظهور الآية في صدور المعجزة عنه من خلال جهده الذاتي الذي اكتسبه بإذن الله، وهذا هو ما جاء في الآية الكريمة: {أني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم} فنلاحظ أنه ينسب الخلق إلى نفسه، كما يتحدث عن عملية إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، والإخبار بالغيب في أوضاع الناس الخاصة إلى جهده وفعله الشخصي، ولكن بإذن الله.

وربما يجد القائلون بالولاية التكوينية الحجة الدامغة في هذه الآية الكريمة، ولكننا نستوحي من كلمة: {بإذن الله} في هذه الآية، أو كلمة: {بإذني} (المائده: 110) أن دور عيسى كان دور الآلة التي تتحرك لتصنع شيئا كهيئة الطير وتنفخ فيه، فيبعث الله فيه الحياة، وهكذا يضع يده على الأكمه والأبرص، وعلى الميت، فتحدث العافية في الأولين، وتنطلق الحياة في الثالث من خلال إرادة الله.

من هنا فإن كلمة {بإذن الله} لا تعني معناها الحرفي اللغوي، بل تعني معنى القوة التي تنطلق لتحقق النتائج الحاسمة التي لا يملك عيسى (ع) آية طاقة خاصة به فيها.

وهكذا نرى أنه لا دليل في كل هذه المواقع على الولاية التكوينية في النص القرآني، بل ربما نجد الدليل على خلافها من خلال الآيات التي تدل على أن النبي لا يملك شيئا في ذلك كله وأن مهمته الأولى والأخيرة هي الرسالة في حركتها في الإبلاغ والتبشير والإنذار، وهداية الناس إلى سبل السلام في الطريق إلى الله، بل إن القرآن يؤكد وجود عناصر الضعف البشري في ذات الرسول، ولكن في المستوى الذي لا ينافي العصمة، فنقرأ في سورة الإسراء قوله تعالى {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً} (الإسراء:90ـ93) فنحن نلاحظ أن النبي (ص) لم يتحدث عن رفضه للمعجزات الإقتراحية التي يوجهها الناس الكافرون للأنبياء كوسيلة للتحدي والتعجيز مما يرفضه الأنبياء، لأن مهمة النبي ليست هي إشغال نفسـه بتنفيذ هذه الطلبات التي لا معنى لها بعد إقامة الحجة عليهم من قبله، بل تحدث عن أن ذلك لا يدخل في مهمته الرسالية، كما أنه لا يملك هذه القدرة باعتبار بشريته التي تختزن في داخلها الضعف البشري.

وإذا كان بعض الناس يتحدثون عن أن القائلين بالولاية التكوينية يؤكدون أن النبي لا يختزن في مضمون بشريته أية قدرة ذاتية، بل إن الله هو الذي يمنحه ذلك، فإننا نجيب أن النبي (ص) إنما كان يتحدث عن الواقع الفعلي الذي تمثله طاقته في دوره، فإن الله أعطاه الطاقة المرتبطة بحركية الرسالة في الناس، ولم يعطه الطاقة ـ حتى بإذنه ـ لمثل هذه الطلبات الصعبة.

وقد نستوحي من هذه الآيات ومن غيرها أن المعجزة الوحيدة للنبي هي القرآن الكريم، فلم يقم النبي بمعجزة أخرى كانشقاق القمر، بحيث لو كانت منه لكانت أكثر استجابة للتحدي الذي واجهه النبي (ص) من قبل المشركين، كما أنها أكثر صعوبة من هذه الإقتراحات، وقد تحدث المشركون عن هذه المسألة ـ وهي عدم قيام النبي محمد (صلى الله عليه وآله) بالمعجزة المماثلة لما قام به الأنبياء السابقون ـ وذلك في قوله تعالى: {وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه، قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون} (الأنعام: 37) وقوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه، إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} (الرعد: 7) فقد يظهر من هذه الآية، أن إنزال الآيات ليس أمراً ضرورياً للنبوة إلا في حالات التحدي الكبير الذي يهدد حركتها في ساحة الصراع والمواجهة، ولذلك لم ينزل الله على النبي آية لأن التحدي لم يصل إلى هذه المرتبة الحاسمة، وقوله تعالى {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً} (الإسراء: 59) وظاهرها نفي الإرسال بالآيات بالرغم من أنها كانت مطلبا ملحا للمشركين، كما جاء في آية أخرى في قوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} (الأنعام: 109) فإن المسألة لم تكن في مستوى الضرورة، ولم تكن في واقع الحاجة للمهمة الرسالية.

ونلتقي في آيات أخرى ببعض مظاهر الضعف البشري الفعلي للأنبياء، وذلك كما في قصة موسى الذي خرج من المدينة خائفاً يترقّب وكان يعيش الخوف من قتل فرعون وقومه له: {ولهم عليَّ ذنب فأخاف أن يقتلون} (الشعراء: 14) والخوف في ساحة التحدي مع السحرة: {فأوجس في نفسه خيفةً موسى، قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى} (طه: 68)، ونجد في قصة إبراهيم عندما دخل عليه الملائكة: {فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف} (الذاريات: 28).

ونلاحظ ذلك في خطاب الله للنبي محمد (ص) كيف يقدم نفسه للناس: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتّبع إلا ما يوحي إلي} (الأنعام: 50)، وقد ورد هذا المضمون في سورة هود في آية: {ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً} (هود: 31)، فإن هذه الآية ظاهرة في تأكيد بشرية الرسول (ص)، وبأن كل ما لديه إنما هو من الله سبحانه وتعالى، يمنحه إيّاه بقدر حاجة الرسالة إليه في حركتها في الحياة، وثمة إشارة في الآية إلى أن الغيب الذي قد يعلمه الله للنبي إنما ينزل عليه بطريق الوحي، كما جاء التصريح به في آية أخرى: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك} (آل عمران: 34)، وقد جاء به في قوله تعالى: {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون } (الأعراف: 188)، وهذه الآية تدل على نفي الفعلية في وجود الطاقة التي تدفع عن الإنسان الشر، وتجلب له الخير، بحيث إنها تأتي تدريجاً بمشيئة الله، لا بنحو خلق الطاقة في الكيان النبوي ليتحرك من خلالها إراديا، ويؤكد ذلك أنه يتحدث عن الواقع الذي كان يصيبه بسوء بمختلف ألوانه، أو يمنع منه الكثير من الخير، فكأنه يريد الإيحاء بأن ذلك لا يتصل بدوره لأن دوره البشارة والإنذار لقوم يؤمنون مما لا يحتاج فيه إلى علم الغيب إلا بما يرتبط بحركة الرسالة في تاريخ الرسالات في الأمم السابقة، وهذا مما يوحيه الله إليه في القرآن الكريم من أنباء الغيب، في التاريخ الذي لا يعلمه هو ولا قومه.

وقد ورد في بعض الآيات الحديث عن أن الله يظهر رسله على الغيب، وذلك هو قـوله تعالى:

{عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً، إلاّ من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً} (الجن: 26 ـ 28)، فقد استند إليها القائلون بأن الله قد أعطى رسوله وأولياءه العلم بالغيب إما بطريق الفعلية الإستحضارية، وإما بطريق القوة، بمعنى أنه لو شاء أن يعلم لعلم.

وذكروا أن ظاهر الإستثناء في قوله تعالى: {إلا من ارتضى من رسول} هو الإطلاق الذي لم يتقيد بشيء مما يوحي بأن المسألة تشمل كل شيء يريد الرسول أن يعلمه من الغيب ويفسرون ما حكي من كلامه تعالى من أن إنكارهم العلم بالغيب أريد به نفي الأصالة، الاستقلال دون ما كان يوحي، ولكننا نحتمل أن يكون قوله تعالى: {فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً} إشارة إلى الغيب الذي يظهر عليه من ارتضى من رسله، وهو الجو الملائكي الذي يحميه من الشياطين، فيطردهم عنه ويعصمه من وساوسهم وتخاليطهم، حتى يبلغ ما أوحي به إليه، فليست الآية في مقام الحديث عن علم الرسول للغيب بل عن حمايته بطريق الغيب، فكأنه بداية كلام جديد في الحديث عن مهمة الرسل في إبلاغهم رسالات ربهم وإطلاعه عليهم وحمايته لهم، وذلك على أسلوب الاستثناء المنقطع، لأن مثل هذا الاستثناء ـ على حسب ما يرى هؤلاء ـ يتنافى مع الأسلوب القرآني الذي يؤكد نفي علم الأنبياء بالغيب، الذي لم يكن واردا على سبيل نفي الاستقلال ـ كما ذكر ـ بل على نفي الفعلية بحسب الواقع الفعلي الذي يعيشه في حياته، وفي مهمته الرسالية.

وخلاصة الفكرة أن هناك فرقاً بين علم الغيب كملكة تدخل في نطاق التكوين الذاتي للنبي ـ في خصوصية نبوته ـ وهذا ما ينفيه الظاهر القرآني، سواء ذاك المتصل بأخبار الماضين، والذي يمكن إدراجه تحت عنوان علم الغيب، حيث ثمة إشارة واضحة في القرآن الكريم أن أنباءه هي من وحي الله تعالى، أو ذاك المتصل ببعض موارد الحاجة إليه في موارد معينة، فيلهمه الله تعالى إياه إلهاماً، فهذا ما لا ينفيه النص القرآني، بل قد تؤكده بعض الآيات، وقد وردت أحاديث متنوعة في علم الانبياء والأئمة بالغيب، وهي موضع جدل علمي، وربما نتعرض لها في ما يأتي في حديث الغيب في آيات القرآن.

ومن خلال هذا الحديث الطويل نستطيع أن نخرج بالفكرة التي تنفي الولاية التكوينية بمعناها التكويني الذي منحه الله للأنبياء وللأئمة، لأن الدليل لم يدل عليه ـ حسب فهمنا القاصر ـ ولكن يبقى ـ في المسألة أن الله يمنح الأنبياء الفرصة التي يواجهون فيها تحديات الكفر بالمعجزات عند الحاجة إليها، والله العالم" [ من وحي القرآن ج6ص26-34ط2]

ويقول البعض أيضاً في موضع آخر عن علم الانبياء ونفي ولايتهم التكوينية ما يلي:

"وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {قل: ما كنت بدعاً من الرسل، ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم إن اتبع إلا ما يوحى إلي، إن أنا إلا نذير مبين} (الاحقاف: 9) فإنها تدل على نفي فعلية علم الغيب في واقع الذات، وحصر المسألة فيما يأتيه من الوحي. فهو خارج هذا النطاق لا يملك علم الواقع من ناحية فعلية.. وبهذا يردّ على ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن علم الغيب المنفي عن غير الله وارد على نحو الأصالة، فلا ينافي علم غيره بالتبعية مما يصدر منه، فإن الظاهر من كل الآيات نفي العلم الذاتي حتى على نحو التبعية بمعنى جعل النبي عالماً بالغيب بحيث يملك علم الغيب في ذاته بقدرة الله في عطائه له كما أعطاه ملكاته الأخرى بل المسألة هي مسألة مفردات الغيب في حاجاته له من خلال الوحي بطريقة أخرى.

وفي ضوء ذلك نستطيع في النص القرآني الرد على الفكرة التي تجعل للنبي الولاية على الكون بأن يغيره ويبدّله ويتصرّف فيه من خلال القدرة العظيمة التي أودعها الله في شخصه مما يطلق عليه اسم (الولاية التكوينية) وإن هذه الفكرة لا تلتقي بالنصوص القرآنية السابقة فإذا كان النبي لا يملك ـ في فعلية قدرته الوجودية ـ لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يعلم الغيب الذي يهيئ له فرصة استكثار الخير في حياته وإبعاد السوء عن نفسه، فيما يستقبله من أمره، وتزداد المسألة وضوحاً في الآية الكريمة في مواجهة النبي للمشركين في اقتراحاتهم التعجيزية كشرط للإيمان …الخ  المعارج العدد28-31 ص567-568

ثم يتابع كلامه شارحاً مقولته هذه وفقاً لما نقلناه عنه في النص السابق، فلا حاجة إلى إعادته بتمامه ما دام أن ذلك لن يفيد شيئاً وسيكون من التكرار الممل، والإطناب المخل.

 

ونقول:

1 ـ إن السيد فضل الله قد قرر:

"أن الولاية التكوينية ليست من الضرورات التي تفرضها الرسولية..".

ونقول:

إن الرسولية تعني قيادة الأمة من موقع الهيمنة، كما دلّت عليه طبيعة التشريع الإسلامي، وتعاليمه الغراّء والمشتمله على جهاد الظالمين، وعلى إقامة الحدود، والقصاص، والقضاء بين الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما إلى ذلك..

ودلّت عليه أيضاً الآيات الكثيرة مثل قوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط. وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس. وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، إن الله قوي عزيز} سورة الحديد، الآية: 25

بل إن كون النبي شاهداً على الناس في شرق الأرض وغربها، إنما يعني: أنه لابد أن يكون مطلعاً على أعمالهم الجوارحية والجوانحية حتى خلجات هذا الإنسان النفسية، وأفعاله القلبية. وحتى في عواطفه، وفي حبه، وفي بغضه، وفي حالاته النفسية، كاليأس والرجـاء.. وما إلى ذلك.. ثم تربيته تربيه صالحة، والهيمنة عليه من موقع المعرفة والوعي وما إلى ذلك..

وبعد ذلك كله نقول:

من الذي قال: إن ذلك كله وسواه مما مرّ ويأتي لا يقتضي ولاية تكوينية سواء في حدها الأدنى، أو في حدها الأعلى، فإن هذا البعض ينفيها بجميع مراتبها..

2 ـ إن هذا البعض لا بد أن يعترف بأن الله قد سخر لسليمان الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب وسخّر له غير الريح أيضاً..

كما أنه لا يستطيع أن يناقش في أن آصف بن برخيا ـ وهو ليس بنبي ـ قد جاء بعرش بلقيس ـ من اليمن قبل ارتداد الطرف.. وقد نسب الإتيان به إلى نفسه واعتبره فعلاً له..

3 ـ قوله:

"إن الأنبياء، لم يمارسوا الولاية التكوينية في حياتهم".

قد عرفت آنفا أنه لا يصح.. وثمة أمثلة كثيرة أخرى ستأتي.

4 ـ أما بالنسبة لما اقترحه المشركون على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأجابهم بقوله: {قل: سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً} فقد أشرنا أكثر من مرة إلى أنهم إنما طلبوا منه أن يفعل ذلك لأجل أن يثبتوا أنه (صلى الله عليه وآله) ليس بشراً.. فإجابة طلبهم سوف توجب تضليل الناس، لأنهم سيعتبرونه ـ والحالة هذه ـ من غير البشر، ولأجل ذلك حكى الله عنهم تعجبهم من بشريته، فقال تعليقاً على مطالبهم تلك: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى، إلا أن قالوا: أبعث الله بشراً رسولاً..} فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى: {قل: لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً..} سورة الإسراء: الآية 94 ـ 95

أضف إلى ما تقدم: أنه لا يجب على الله إجابة مقترحي الآيات والمعجزات في ما يقترحونه.

5 ـ إن عدم وجدان السيد فضل الله التفسير المعقول ـ عنده ـ للأحاديث التي تدل على أن الله سبحانه خلق الكون لأجل النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت الطاهرين (عليهم السلام)، لا يعني عدم صحة هذه الأحاديث، وعدم وجود التفسير المعقول لها.

ولا يستطيع السيد فضل الله ولا غيره أن يدعي: أنه قد فهم كل شيء ورد في كتاب الله، وعن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).

وهذا هو القرآن يكتشف العلماء في كـل جيل الكثير من حقائقه، ويقفون على الكثير من دقائقه، وكذلك الحال بالنسبة لكلام المعصومين (ع).

فهل ذلك يعني أن ما لم يفهمه السيد فضل الله من القرآن، ومن غيره يجب إسقاطه وحذفه وعدم الإهتمام له، والإعتداد به؟ !

6 ـ إنه يمكن فهم هذه الأحاديث على أساس التشريف، والتكريم لهم فإنهم هم الحقيقة التامة في ظهورها، والكمال في تجلياته الجمالية في مواقع القرب إلى الله، فإن هذا التجلي، وذلك الظهور هو الغرض من خلق الخلق الذي لا يستحق شيئاً من ذلك في ذاته، وهو مظهر النقص والإنحدار والسقوط فلولا أنه تعالى أراد أن يتجلى ذلك الكمال، وأن تتجسد تلك الحقيقة التامة، فإن هذا الكون الناقص، الذي هو عالم الفساد والإفساد لا يستحق العناية والإهتمام بأي حال..

7 ـ وأما بالنسبة لقول السيد فضل الله: "إن رد علم بعض الأمور إلى أهله يقتضي إهماله.."

فغير سديد أيضاً، لأن هناك أموراً يطلب العلم والإعتقاد بها على سبيل الإجمال، حيث قد يمتنع التفصيل فيها لأكثر من سبب.. وقد رأينا: أن هذا البعض يعترف في مواضع كثيرة جداً قد تعدّ بالعشرات بوجود أمور أجملها القرآن، فراجع كلماته.

وخذ على سبيل المثال قوله عن دابّة الأرض التي يخرجها الله في آخر الزمان بأنها مما أجمله القرآن، فلنجمل ما أجمله القرآن، وكذا الحال بالنسبة لما ذكره حول الرجعة ، وعن الملائكة ، ومفارقة روح الميت جسده ، وغير ذلك..

فهل يجيز السيد فضل الله أن لا نعتقد بكل تلك الأمور التي اعترف بإجمالها، وأن نخرجها عن دائرة الاعتقاد لمجرّد أنه لا يوجد تفصيلات كافية لها؟! لكي تمثل وعياً في الفكر، وقناعة في الوجدان على حد تعبيره، ولماذا لا يكون المطلوب هو الوعي والقناعة الإجمالية على ما هو عليه الواقع؟!

وهل يستطيع السيد فضل الله أن يتحفنا بتفاصيل دقيقة عن الروح والجن والملائكة وعن حقيقة الذات الإلهية وعن تفاصيل ما يجري في البرزخ وكيفياته …وغير ذلك؟ !!

مع أن ذلك كله وسواه كثير جداً.. مما يلزم الإعتقاد به على ما هو عليه، وعلى سبيل الإجمال !!.

وهل يصح إخراج ذلك كله عن دائرة العقيدة لمجرد عدم قدرتنا على الإحاطة بتفاصيله؟!

هذا.. وقد روي عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن جميل بن صالح عن أبي عبيدة الحذاء، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (والله إن أحب أصحابي إلي، أورعهم، وأفقههم، وأكتمهم لحديثنا، وإن أسوأهم عندي حالاً، وأمقتهم للّذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنا فلم يقبله اشمأزّ منه، وجحده، وكفّر من دان به. وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج، وإلينا أسند، فيكون بذلك خارجاً عن ولايتنا) الكافي ج 2 ص 223، والبحار ج 72 ص 76، وراجع: ج 25 ص 365/366، عنه وعن مختصر بصائر الدرجات ص 98

8 ـ إن ما ذكره من أن المعجزة إنما تكون في مقام التحدّي، وبعدها تعود الرسالة إلى مجراها الطبيعي، ويعود الرسول إلى الوسائل العادية، كأي إنسان آخر من دون أن يبادر إلى أي وسيلة عادية غير دقيق..

فإن ما تقدم يظهر لنا: أن الرسول الشاهد يحتاج إلى الإطلاع المباشر على ما يشهد به، فيرى من خلفه، وتنام عيناه، ولا ينام قلبه، ويرى أعمال الخلائق، وذلك يحتاج إلى وسائل غير عادية، والرسول المسؤول حتى عن البقاع والبهائم يحتاج إلى وسائل غير عادية ليعرف لغات البهائم ويحل مشاكلها (علّمنا منطق الطير).

{قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم، لا يحطمنكم سليمان وجنوده، وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكاً من قولها}.

ولنتذكر أيضاً حديث سليمان مع الهدهد.. وكذلك ما قدمنا في هذا المورد وموارد أخرى من هذا الكتاب حيث تكلّمنا حول هذا الموضوع أكثر من مرة.

9 ـ ونجد في سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) مبادرات كثيرة إلى الوسائل غير العادية للتخلّص من المشاكل.. وقد طلب سليمان من الذين حوله أن يأتوه بعرش بلقيس بوسائلهم غير العادية، فكان له ما أراد، كما نص عليه الكتاب العزيز.

وفي حرب الخندق أطعم النبي (ص) الجيش الجائع كله من شاة عجفاء، وحطم الصخرة التي اعترضت الجيش في حفر الخندق فعجز عنها ـ حطّمها ـ بثلاث ضربات، ولو أردنا استقصاء الموارد التي من هذا القبيل لكان علينا ملء عشرات بل مئات الصفحات من تاريخ النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، ولا يمكن لأي كان من الناس أن يعتبر ذلك كله في عداد الموضوعات والمختلقات، فكيف أجاز السيد فضل الله لنفسه: أن يدعي أن معجزة النبي (صلى الله عليه وآله) الوحيدة هي القرآن؟!.

10 ـ أما قوله: "إن التشريف لا يتمثل في إعطاء القدرة دون قضية"

فغير مقبول أيضاً.. فإن التشريف نفسه هو القضية، حيث يؤدّي إلى المزيد من الاحترام للرسول، ورفعة شأنه، وتعميق الإرتباط به من موقع التعظيم، والإجلال، والتقديس.. الأمر الذي يؤدّي إلى المزيد من الحرص على التأسي به، وإلى عمق تأثير كلامه في النفوس، وإلى مزيد من الدقّة في التعامل معه، وما إلى ذلك من قواعد وفوائد جليلة وهامة.

11 ـ وأما عن التشريف في الآخرة لا في الدنيا، فإن الله قد شرّفه في كتابه الكريم مزيد تشريف حيث أمر الناس بالصلاة عليه.. وبأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوته، وبأن لا ينادوه من وراء الحجرات، وبأن لا يقدّموا بين يدي الله ورسوله. وأن يقدّموا بين يدي نجواهم صدقة.. وبأن لا يكون دعاء الرسول بينهم كدعاء بعضهم بعضاً، وحرم الزواج بنسائه من بعده.. وغير ذلك كثير.

فهل إن ذلك كله من التشريف له (صلى الله عليه وآله)؟! أم إنه قلة مبالاة وعدم اهتمام؟!

وهل نسي هذا البعض قوله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك}، فهل رفع الذكر لا يدخل في نطاق التشريف والتكريم، كما وأنه سبحانه قد أعطاه الكوثر من خلال ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام).

بل إن الله سبحانه إذا كان قد كرم بني آدم، وكرم المؤمنين وميّزهم أيضاً على الكافرين، فهل يعقل أن يكون قد ترك أنبياءه، وأولياءه كسائر الناس، خلواً من أي تكريم..؟!

12 ـ أما قوله: "أما الدنيا فلا قيمة لها عنده، ولذلك لم يجعلها أجراً لأوليائه، بل أتاح الفرصة الكبرى فيها لأعدائه..".

فهل يعني: أن المؤمنين حتى الأنبياء يجب أن يكونوا في الدنيا أذلاء حقراء، خالين من أوسمة الشرف التي يستحقونها بظل الله وعنايته، ولا كرامة لهم، ولا قيمة؟!.

وهل إن التكريم في الدنيا، هو عمل دنيوي أم إنه عمل يقصد به شد عزيمة الناس، وتعميق ثقتهم برموزهم الكبار، وبسط الرجاء والأمل لهم فيهم، وتأكيد حالة الإكبار، والإجلال في نفوسهم.. ليتأكد إلتزامهم بهذا، وليعيشوا حالة الإعتزاز به، والإحساس بالمجد، والكرامة، والسؤدد فيه..

13 ـ وعن احتماله:

"أن يكون ما يحصل في أوقات التحدّي ليس من قدرة الأنبياء، ولكنها قدرة الله مباشرة..".

نقـول:

إن ذلك لا ينسجم مع قوله: {إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير، فأنفخ فيه، فيكون طيراً بإذن الله}.

{وأبرئ الأكمه، والأبرص، وأحيي الموتى بإذن الله..} (آل عمران: 49) وقوله تعالى ناسباً العمل إلى عيسى (ع): {وتبرئ الأكمه والأبرص} (المائده:100)، وقول آصف بن برخيا: {أنا آتيك به..} وغير ذلك مما يدل على نسبة الفعل إلى فاعله، لأن الله سبحانه قد أجراه على يد عيسى، وآصف بن برخيا، من دون أن يكون ذلك باختيارهما بحيث لا يصحّح النسبة إليهما (عليهما السلام) والحال هذه إلا على أساس نظرية الكسب، التي جاء بها الأشعري.. والتي تقول: إن الله سبحانه يخلق قدرة الإنسان حين صدور الفعل من الله سبحانه، ولكنها ليس لها أي تأثير في الفعل نفسه، بل التأثير منحصر بالله سبحانه راجع: نشأة الأشعرية وتطورها ص234 فما بعدها، واللمع ص 76 و78

وتكون هذه القدرة بمثابة الحجر في جنب الإنسان!!.

14 ـ إن الإذن الإلهي في الفعل لا ينافي الإختيار، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله}  سورة يونس، الآية: 100 فإن الإيمان ليس أمراً إجبارياً.

وقال تعالى: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} سورة البقرة، الآية: 249

والآيات في هذا المجال كثيرة.

15 ـ وعن استعمال الأنبياء الولاية التكوينية في حماية أنفسهم من الأخطار، وفي رسالتهم.. نقول: لا ريب في أنهم قد استعملوها في خدمة الرسالة.. وقد أشرنا إلى ذلك فيما ذكرناه آنفا فلا نعيد.

16 ـ وأما بالنسبة: "لحماية أنفسهم من الأخطار من خلال الولاية التكوينية، وكذلك حماية رسالتهم.."

فإن ذلك لا ينسجم مع إعطاء الخيار، والإختيار للإنسان العاصي، والمطيع على حد سواء.. حيث قد ذكرنا أكثر من مرة: أن عدل الله سبحانه يقضي بأن لا يحول بين المرء وإرادته، وأنه إن كان ثمة من حاجة إلى التدخل الإلهي، فإنما يكون في خارج دائرة اختيار الإنسان.

ولأجل ذلك، حين واجه إبراهيم تصميم قومه على قتله بإحراقه بالنار، اقتضى العدل الإلهي أن يمارس الطغاة حريتهم في جمع الحطب، وفي إضرام النار، وفي أخذ إبراهيم، ووضعه في القاذف (المنجنيق)، وإطلاقه، ووضعه وسط النار، ولم تتدخل الإرادة الإلهية للحيلولة بينهم، وبين ما أرادوه، فلم نجد أيديهم قد تعطلت عن الحركة، ولم نجد المنجنيق (القاذف) استعصى عليهم بل فعلوا كل ما أحبوه، ولكن الإرادة الإلهية تدخلت من خارج هذه الدائرة، وتوجهت إلى النار نفسها وحالت بينها، وبين إنتاج النتيجة المفترضة، وهو الإحراق.. {قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم..}.

وهكذا الحال بالنسبة إلى نبيّنا حين الهجرة، فإن المشركين قد فعلوا كل ما أرادوا، ولكن التدخل الإلهي قد كان خارج دائرة اختيارهم، حيث نسجت العنكبوت على باب الغار، ونبتت الشجرة، وباضت الحمامة الوحشية على باب الغار أيضاً، واحتضنت بيضها، فتوهم المشركون: أن لا أحد في داخل ذلك الغار، فانصرفوا عنه..

ولأجل ذلك نجد المسلمين رغم أنهم كانوا يعانون من حفر الخندق، ومن حرب الأحزاب، فإن الله لا يتدخل لينجز لهم ما هو مطلوب منهم، ولا يحول بصورة جبرية بين أولئك الأشرار، وبين ما يريدونه من شر بالمسلمين..

بل يكون التدخل في دائرة أخرى، وهي تكثير الطعام حتى ليأكل الجيش كله من شاة عجفاء، ليزداد المسلمون بصيرة في أمرهم، وثقة بربهم، ولينجزوا أمر الجهاد ومن ثم، يحققون الأهداف الإلهية باختيارهم وبملئ إرادتهم لينالوا ثواب المجاهدين الصابرين..

17 ـ ولا ندري بعد هذا.. متى؟ وكيف؟ تسنى للسيد فضل الله أن يقرأ التاريخ الصحيح كلّه للأنبياء..؟

وأين يوجد هذا التاريخ الصحيح؟..

وكيف ميّز صحيح هذا التاريخ من سقيمه؟..

ومتى قام بهذه المهمة الشاقّة والتي تحتاج إلى عشرات السنين، بل المئات؟

وإذا كان قد قرأ التاريخ الصحيح، فلماذا لم يجد بعض ما صرّح به القرآن مما تضمّن تحريك الولاية التكوينية؟

وكذلك ما ذكرناه له من مفردات في هذا المورد من هذا الكتاب؟!

وكيف لم يقرأ كيف أن سليمان كان يستخدم الجن: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل، وجفان كالجواب، وقدور راسيات، اعملوا آل داود شكرا، وقليل من عبادي الشكور} (سبأ: 13).

فهل ذلك كلّه لم يكن فيه أي شيء يعود لسليمان نفسه، حتى الجفان، والقدور، والتماثيل، وغيرها..

والذي كان شياطين الجن يبنونه له، ثم الذي كانوا يستخرجونه له بالغوص في قاع البحار {والشياطين كل بنّاءٍ وغوّاص}، وحتى داود حيث ألان الله له الحديد، حين كان يعمل الدروع السابغات، هل كان هو نفسه يستفيد من تلك الدروع في حماية نفسه.

وكيف يثبت أن ذلك كله قد كان بعيداً كل البعد عن إمكانية استفادته الشخصية منه.

18 ـ أما بالنسبة لقضية نوح، حيث دعا على قومه، فاستجاب الله سبحانه له، فكان الطوفان.. فإن هذا الأمر يتعلق بعقوبة الناس على كفرهم، وطغيانهم وظلمهم، وليس ثمة من ضرورة لأن يتولى الأنبياء ذلك بأنفسهم من خلال قدرتهم على التصرف, حيث لم يثبت أن ذلك يدخل في نطاق صلاحيتهم.. بل ربما يكون في إيكال ذلك إليهم إحساس لدى الناس بالقهر وبالجبر بمجرد بعثة الرسل إليهم، ولا تبقى لديهم فرصة للإختيار، حين يشعرون: أنهم أمام أمرين إما الإيمان، أو الموت على يد هذا الرسول نفسه.

وحتى لو قبل السيد فضل الله بما ورد عنهم (عليهم السلام) في تفسير قوله تعالى: {إن إلينا إيابهم} فإن ذلك لا يدفع هذا الإشكال، لأنه ناظر إلى عالم الآخرة لا إلى الدنيا.

19 ـ وفي قضية طلب إبراهيم عليه السلام من الله أن يريه كيف يحيي الموتى.. قال: فخذ أربعة من الطير.. إنما كان الأمر متعلقاً برؤية التصرّف الإلهي المباشر.. وتجسيد نفس هذه القدرة الإلهية.. وأما تصرّف إبراهيم عليه السلام، فربما لا يحقق النتيجة المتوخّاة.. فإن في نسبة الفعل إلى نفسه، وأن يكون له هو دور في الخلق، إيحاءاته التي لا تنسجم مع ما يسعى إبراهيم (ع) إلى تحقيقه، وهو إخراج قضية الإيمان الراسخ المستند إلى البرهان والحجة، من حالة المعادلة العقلية إلى دائرة التجسد الحي على صفحة الوجود، سعياً وراء تحقيق السكينة، ليتلاءم، وليتّحد السكون النفسي مع تلك القناعة الفكرية والعقلية الراسخة، ليكونا معا الرافد للأحاسيس والمشاعر.

20 ـ وعن موسى عليه السلام نجد الله سبحانه قد نسب الفعل إلى موسى نفسه في بادئ الأمر، {فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ونزع يده فإذا هي بيضاء..}.

وحين تحدث سبحانه بعد ذلك عن إيحائه له: {أن ألق عصاك} لم يبين: أن هذا الفعل هو لموسى (ع)، بأن يكون تعالى قد أمره باستخدام الطاقة، والقدرة التي منحه إياها.. أو أنه تعالى، قد تصرّف مباشرة من دون أن يكون لموسى (ع) أية علاقة بذلك.. لا شك أن الخيار الأول هو الأولى بالإعتبار، لأن الإيحاء إلى موسى عليه الإسلام بأن يفعل كذا.. معناه أن موسى نفسه هو الذي يملك القدرة على الفعل ـ وأن الله سبحانه هو الذي منحه هذه القدرة ـ كأي إنسان آخر يمنحه الله قدرةً واختياراً، ثم يطلب منه أن يمارس قدرته باختياره..

وحين أوحى الله سبحانه إلى أم موسى: {أن اقذفيه في اليم} فإنه أوحى إليها أن تفعل ذلك باختيارها.

إذن، فلا معنى لقول هذا البعض:

"ونحن لا نرى أي جهد لموسى في الموضوع فإنه كان يعيش دور المنفعل الذي يحوّل الله يده السمراء إلى بيضاء، ويحوّل عصاه إلى ثعبان الخ.."

إذ ليس في الآية إلا أن الله سبحانه قد أمر موسى بأن يخرج يده من جيبه لتظهر المعجزة.. وليس فيها: أن لا دور لموسى (ع) فيها.. أو أن له دوراً ـ ليقال: إنه يعيش دور المنفعل أو لا يعيش.

ولنفرض أن الأمر في خصوص هذا المورد كان كذلك أي أن موسى كان يعيش دور المنفعل فيه.. فهل ذلك يدل على نفي وجود أي دور له أو أية قدرات عنده في مختلف الموارد؟!.

21 ـ وأما عن خوف موسى (ع) من تجربة السحرة، فمن الواضح: أنه لم يكن خوف ضعف، وإنما خاف من أن يؤثر السحرة على عقول الناس، فيضلّوهم.

22 ـ وفيما يتعلق بحيرة موسى (ع) فيما يمكن أن يردّ السحرة به التحدي.. فليس لذلك أثر في الآيات القرآنية، وإنما هو رجم بالغيب، يراد به إظهار ضعف موسى (ع)، وفقدانه أية وسيلة لمواجهة كيد السحرة.

23 ـ وفيما يرتبط بأن موسى كان ينتظر تدخل الله غير العادي لحسم الموقف ورد كيد السحرة، فإنه هو الآخر تخرّص ورجم بالغيب، وليس في الآيات أية إشارة إليه، ولا يصح الإستناد إليه في أي استنتاج.

ولا ندري السبب في إقدام السيد فضل الله على تسويق مثل هذه الأمور.

24 ـ وأما عن النبي سليمان (ع) فهل يظن هذا البعض أنه قد فتح القسطنطينية حين قال:

"ليس في القصّة إلا دعاء واستجابة ربانية أعطته ما يريد من دون أي دور عملي له.."

فهل ثمة من يدّعي أن سليمان (ع) هو الذي أوجد هذا الملك لنفسه، وأعطى لنفسه القدرة على تسخير الريح، والجن؟!. أم أن الله هو الذي أعطاه ذلك. وجعل له القدرة على تحريك الريح ـ تجري بأمره رخاء حيث أصاب؟!.

فهل يريد السيد فضل الله أن لا يطلب الأنبياء من الله أن يعطيهم القدرات التي تمكنهم من القيام بمهامهم الرسالية؟!.

فها نحن نقرأ دعاء إبراهيم (ع): {رب اجعلني مقيم الصلاة، ومن ذريتي، ربنا وتقبل دعاء} سورة إبراهيم: الآية: 40

فهل يصح القول بأنه في إقامته للصلاة ومن ذريته، لم يكن إلا دعاء، واستجابة ربانية، أعطته ما يريد من دون أن يكون له أي دور عملي، أو قدرة واقعية في تحقيق ذلك على حد تعبير هذا البعض؟!

وكذا بالنسبة للشكر، والعمل الصالح الذي يرضي الله في دعاء الإنسان، وفي مثل دعاء سليمان (ع): {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي، وعلى والدي، وأن أعمل صالحا ترضاه} سورة النمل: الآية: 19، وسورة الاحقاف: الآية: 15

ولتراجع سائر الآيات التي تتضمن الأدعية فيها ما يشبه ذلك.

25 ـ وأما بالنسبة لعيسى (عليه السلام) فكيف يستطيع أن يثبت أن دوره (ع) كان دور الآلة.. ولماذا لا يكون مالكاً لقدرة أفاضها الله عليه، والله هو الذي يأذن له باستعمالها هنا تارة، وهناك تارة أخرى؟!

ولماذا خرجت كلمة {بإذن الله} عن معناها الحرفي اللغوي في خصوص هذا المحور، لتصبح دالة على القوة التي تباشر هي تحقيق النتائج من دون أي دور لعيسى (ع)، سوى كونه آلة؟!

ومن أين عرف أن عيسى (عليه السلام) لم يكن يملك أية طاقة خاصة به.. ألا يحتاج ذلك حسب ما يقوله هو نفسه إلى دليل موجب لليقين، لأن القضية لا تدخل في دائرة الأحكام ليكتفي فيها بمطلق الحجة؟! وألا يحتاج هذا النفي القاطع إلى دليل كما يحتاج الإثبات إلى دليل، على حد تعبيره؟!

هذا وقد ذُكر عند النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): أن عيسى (عليه السلام) كان يمشي على الماء. فقال (صلى الله عليه وآله): لو زاد يقينه لمشى على الهواء مصباح الشريعة ص 177 وبحار الأنوار ج 67 ص 179

مما يدل على أن وجود هذه القدرة لدى عيسى (عليه السلام) تابع لمستوى اليقين لديه، ولا شك في كونه اختيارياً.

أم أن السيد فضل الله يتصوّر أن يمشي عيسى (عليه السلام) على الماء لا باختياره تماماً كما يتمّ تحريك الآلة الجامدة من قبل فاعل مختار قادر؟!.

26 ـ إن من جملة ما اقترحه المشركون على رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو أن يرقى في السماء، ثم ينزل عليهم كتاباً يقرؤونه..

فلم يستجب لهم، وقد جعل هذا البعض ذلك دليلاً على عجزه، وأن الله سبحانه لم يعطه قدرة، فهل ذلك معناه، أن السيد فضل الله يقول بعدم صحة المعراج الذي تحدث عنه القرآن؟!

وعن عدم قدرته على تفجير الينابيع نقول:

إنه حين استسقى موسى قومه، ضرب بعصاه الحجر {فانبجست منه إثنتا عشرة عيناً}، كما أنه (صلى الله عليه وآله) وكذلك الأئمة (عليهم السلام) قد فجّروا الينابيع للناس..

وذلك يدل على أن رفضه للإستجابة لهم إنما هو لأجل أنهم يريدون اتخاذ ذلك ذريعة للتشكيك في بشريته، لا لأنه لم يكن قادراً عليه.

27 ـ إن المعراج الذي حدث لرسول الله فعلاً هو باعتراف السيد فضل الله مفردة من مفردات رقيّه إلى السماء، بل حيث بلغ العرش، ورجع في ليلة واحدة.. ومن الواضح: أن هذا الأمر ليس بأقل من حيث أهميته وخطورته، وحساسيته وصعوبته من انشقاق القمر.. فإذا كان هذا العروج قد حصل، فلماذا لا يحصل ذلك الإنشقاق؟!

28 ـ قد عرفنا حين الحديث عن الولاية التكوينية أن هذه الإقتراحات كانت تهدف إلى إثبات أن النبي الذي يرسله يجب أن لا يكون بشراً، فالإستجابة لهم تستوجب تضليل فريق من الناس فلا بد من رفض طلبهم، وإبطال كيدهم.

هذا بالإضافة إلى أن فتح باب الآيات الإقتراحية خطير للغاية، حيث يصبح الأمر ملعبة بأيدي السفهاء، والجهال، وأصحاب الأهواء..

وقد جاءت السنّة الإلهية لتواجه هذه الظاهرة، بإنزال عذاب الإستئصال..

29 ـ إنه لا ضير في أن تكون آية: {لولا نزّل عليه آية من ربه} قد نزلت قبل حادثة المعراج، وانشقاق القمر، وتكليم الشجر، والحجر، وتسبيح الحصى، وتكليم الحيوانات، وغير ذلك من آيات.. فلم يستجب الله سبحانه إلى طلبهم هذا.. ثم حصلت آيات من شأنها أن تعطي اليقين، والدلالة الظاهرة على صحة هذا الدين، دون أن يكون هناك أي اقتراح من المشركين، من شأنه أن يثير سلبيات من أي نوع.

30 ـ وحتى لو أن هذه الآية، وآية سورة الرعد قد نزلتا بعد المعراج، وانشقاق القمر، وغير ذلك من آيات كثيرة، لم يكن ذلك ضائراً، إذ المقصود هو طلب نزول الآية في تلك الفترة، سواء أكانت قد سبقتها آيات أم لم تسبقها..

31 ـ كيف يظهر من آيتي سورتي (الأنعام والرعد): أن إنزال الآيات ليس ضرورياً للنبوة إلا في حالات التحدّي الكبير؟! والحال.. أن المطلوب هو آيات اقتراحية، لا مجال للاستجابة لهم فيها، لأمور أربعة:

الأول: إن الآيات التي من شأنها إزاحة العذر، وإقامة الحجة القاطعة قد جاءتهم، فلم يؤمنوا بها، ومنها القرآن نفسه.

الثاني: إن للإستجابة للآيات الإقتراحية عواقب وخيمة ـ لو أنهم لم يؤمنوا بمقتضاها حيث قد جرت سنة الله في إهلاك الأولين بعد الإستجابة إلى مقترحاتهم.. واستمرارهم على الجحود، فراجع سورة الإسراء: الآية 59، وسورة الأنعام: الآية 8 و 58.

الثالث: إن ذلك يجعل هذا الدين ملعبة بأيدي الأشرار والسفهاء، وأصحاب الأهواء..

الرابع: إن ذلك ربما يساعد على ضلال كثير من الناس، إذا كانوا يريدون إظهار أن النبي ليس من جنس البشر.

32 ـ وعن خوف موسى عليه السلام من قتل فرعون وقومه له، نشير إلى: أن هذا الخوف يدخل في دائرة الحذر الواجب شرعاً.. كما حصل للنبي (ص) حين دخوله الغار، فإن ذلك حذر واجب على الرسول.. وليس خوف الجبن، والضعف، والإنهزام، ولا يصح احتمال ذلك في حق الأنبياء.

والعجز عن فهم الأمور التي توهم ذلك في ظاهرها الساذج لا يبرر نسبة أمور كهذه لأنبياء الله.

33 ـ وكذلك الحال تماما بالنسبة لخوف إبراهيم (ع) من ضيوفه، فإنه خوف الحذر الواجب، لا خوف الضعف، والجبن.

34 ـ وخوف موسى (ع) في موقف التحدّي مع السحرة إنما هو على الناس من أن يقعوا فريسة الوهم، ويؤثر بهم هذا الخداع، فهو خوف على الرسالة، وعلى الناس لا خوف الجبن، والإنهزام، والضعف، كما يقوله السيد فضل الله.

35 ـ وفي مقام الجواب عن استدلاله بآيتي الأنعام: {قل: لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم إني ملك، إن أتّبع إلا ما يوحى إلي} وقريب منها في سورة هود.

نقول: إنه إذا كانوا يريدون من خلال إثبات هذه الأمور للأنبياء عليهم السلام التأكيد على عدم بشريّتهم، فإنه لا مجال لقبول ذلك منهم، إذ يلزم من هذا القبول بتضليل الناس وسوقهم لاعتقاد أمور فاسدة في حق الأنبياء (صلوات الله عليهم).

فالمراد إذن نفي ما يكون من هذه الصفات ملازماً لعدم كون الرسول بشراً، أي نفي صفة علم الغيب مثلا من حالاته الذاتية التي لا صلة لها بالله، فإن بعضهم كان يعبد الملائكة، وبعضهم يعتقد أن للملائكة قدرات خارقة، وعلم غيب ذاتياً فيهم، لا صلة له بالله.

إذن، فلا يريد الله أن يقول في هذه الآية: إن نبيه لا يملك طاقة ذاتية كان الله سبحانه قد أفاضها عليه، بل يريد أن ينفي ما يلزم منه عدم بشرية الرسول، أي أنه يريد أن يقول: إنه لا يقول لهم مثلاً إنه يعلم الغيب بطريقة ذاتية لا صلة لها بالله بحيث تجعله من غير البشر، بل الغيب الذي يعلنه سواء كان قدرة أم غير قدرة هو من فيض الله عليه وإعطائه له مع كونه لا يزال بشراً.

36 ـ قوله:

"إن دفع الخير وجلب الشر كان يحصل بصورة تدريجية من دون أن يكون هناك طاقة في ذات الرسول تؤثر في ذلك.."

ما هو إلا رجم بالغيب، فلعل هذا الأثر التدريجي كان يصدر عن طاقة أودعها الله فيه، ويتحرك من خلالها إرادياً بحيث لولا أن الله أودعها فيه فهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً.

37 ـ والغريب أنه حصر علم النبي بالغيب بتاريخ الرسالات السابقة، لأن ذلك هو الذي يتصل بالتبشير والإنذار؟! بل لعله الأعظم أثراً في ذلك.

ولماذا لا يكون الإخبار عن الغيب الآتي أيضاً له دوره الأهم في التبشير والإنذار.

38 ـ إن السيد فضل الله حصر علم النبي بالغيب بطريق الوحي الإلهي التدريجي عند الحاجة.

وهذا غير مقبول منه وغير سديد، إذ قد يكون هذا العلم بواسطة إعطاء قوة يستطيع بها أن يحصل على علم الغيب كلما أراد، كالإلهام مثلا.

39 ـ وحين تحدث عن العموم، والشمول لكل علم الغيب في قوله تعالى {فلا يطلع على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول..}.

أجاب عن ذلك بأنه يحتمل!! أن يكون قوله تعالى: {فإنه يسلك من بين يديه، ومن خلفه رصداً} إشارة إلى أن هذا الغيب، هو الجو الملائكي الذي يحميه من الشياطين.. فالآية لا تتحدّث عن علم الرسول للغيب، بل عن حمايته بطريق الغيب، على طريقة الإستثناء المنقطع.

ونقول له:

ان من الواضح: أن مجرّد الإحتمال لا يكفي للحكم بالنفي بصورة قطعية، بل لا بد من الدليل القاطع لأن النفي يحتاج إلى دليل، كما الإثبات يحتاج إلى دليل حسبما قرره السيد فضل الله.

ولا بد أن يكون هذا الدليل مفيدا للعلم، واليقين، لأنه في غير الشرعيات حسبما يقول أيضاً.

40 ـ إنا نعرف أن الإستثناء المنقطع يحتاج إلى قرينة تبين أن المستثنى غير داخل في المستثنى منه.. والقرينة التي ذكرها هي نفس ما يدّعيه من أن القرآن يؤكد نفي علم الأنبياء بالغيب.

وقد عرفنا:

أولاً: إن القرآن لم يؤكّد شيئاً من ذلك، بل هو يتحدث عن نفي العلم الذاتي المنقطع، والمستقل بنفسه من الله، حيث يريد الكفار إثبات هذا الأمر ليثبتوا أن الأنبياء ليسوا من البشر، بل هم موجودات أخرى تنال الغيب بقدراتها الذاتية من دون حاجة إلى الله سبحانه.

ولا أقل من أن ذلك محتمل احتمالاً قوياً، فلا يبقى ثمة لديه ما يصلح لأن يكون قرينة على ما يقول.

ثانياً: إن ظاهر هذه الآية هو الإستثناء المتصل، وثبوت كونه منقطعاً يتوقف على ثبوت ما يدّعيه هذا البعض بصورة قاطعة، وثبوت ما يدّعيه يتوقف على كون الإستثناء منقطعاً.. إذ لو لم يكن كذلك لدلّ القرآن على أن الأنبياء يعلمون الغيب وذلك بهذه الآية بالذات.

وبعبارة أخرى: إنه إذا كان المستثنى منه صالحاً للإنطباق على المستثنى، فلا بد من الحكم باتصال الإستثناء، ولا يحكم بكونه منقطعاً إلا بقرينة، ولا يستطيع السيد فضل الله نفي علم الأنبياء بالغيب قرآنيا إلا إذا ثبت عدم دلالة هذه الآية على ذلك وأن الاستثناء منقطع، أما الآيات الأخرى فلم يثبت فيها ذلك، ومن الواضح أن كون الإستثناء منقطعاً يتوقف على إثبات أن القرآن ينفي علم الأنبياء بالغيب، ونفي علم الأنبياء بالغيب يتوقف على كون الإستثناء منقطعاً.

وقد عرفنا: أن جميع ما استدل به من آيات لا يدل على مطلوبه، وهو نفي فعلية العلم بالغيب.. بل هي ناظرة إلى نفي الإستقلال في مقابل التبعية حسبما أوضحناه.

41 ـ ثم إنه قد حسم الأمر في نهايات كلامه حين أكد نفي الولاية التكوينية:

"لأن الدليل لم يدل عليه ـ حسب فهمنا القاصر"

على حد تعبيره..

ولكن.. كيف نقبل ذلك منه، وهو نفسه يقول:

"إن النفي يحتاج إلى دليل كما الإثبات يحتاج إلى دليل.. "

مما يعني: أن مجرد عدم وجود دليل لا يكفي للحكم بعدم وجود ولاية تكوينية..

هذا بالإضافة إلى أننا قد ذكرنا: أن تشكيكاته بالآيات غير صحيحة، ولا مجال لقبول أي منها..

42 ـ أما بالنسبة لمهمة الأنبياء، وأنها مجرد التبشير والإنذار، والإبلاغ، والهداية، فقد ذكرنا فيما تقدم.

أولاً:

أنه كلام مرفوض.. من وجهة نظر القرآن، والحديث القطعي.. فلا حاجة إلى الإعادة.

ثانياً:

أن حصره ذلك في هذه الأمور الأربعة ينافي ما تقدم في فقرة سابقة من أنها: الإبلاغ، والإنذار، والهداية، والتعليم، وقيادة الناس إلى تطبيق ذلك.

43 ـ بقي أن نشير إلى ما ذكره هذا البعض حول آية {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم، إن أتبع إلاّ ما يوحى إليّ} (سورة الأحقاف، الآية9)، حيث اعتبرها دالّة على نفي فعلية علم الغيب في واقع الذات، وأنها تحصر المسألة، في ما يأتيه من الوحي.

ونقول:

أولاً:

إن هذه الآية ـ كما أشرنا إليه أكثر من مرة في مثيلاتها ـ ليست ناظرة إلى النفي المطلق، بدليل: أن النبي (ص) والأئمة عليهم السلام قد أخبروا عن غيوب كثيرة جداً، وإنما هي تنفي ما يعتقده أولئك الناس، من أن النبوة تقتضي بذاتها علماً للغيب مستقلاً عن الله سبحانه، مما يعني أنها مقام لغير البشر بزعمهم.

فجاءت هذه الآية ومثيلاتها لتؤكد على أن الأنبياء بشر، وأن علمهم بالغيب ليس ناشئاً عن ذواتهم بالاستقلال، وإنما هو عطاء من الله، واكتساب منه تعالى.

ومجرد الإصرار على أنها دالة على نفي فعلية علم الغيب في واقع الذات، أي أنها تنفي علم الغيب بالأصالة، وبالتبعية معاً، لا يكفي في مقام الإستدلال، خصوصاً وأن الله قد صرّح بأنه لا يطلع على {غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول}   سورة الجن: الآية 27

ثم أخبر عن رسوله بأنه لا يبخل على الناس بما عنده من علوم غيبيّة، فقال:

{وما هو على الغيب بضنين} سورة التكوير: الآية 24

ثم ذكر عن عيسى عليه السلام أنه قال لقومه:

{وأنبؤكم بما تأكلون، وما تدخرون في بيوتكم} سورة آل عمران: الآية 49

رغم: أنه لم يثبت أن عيسى عليه السلام حين قال لهم ذلك كان في مقام التحدّي الأقصى لهم، وليس إخباره لهم بذلك بأعظم ـ من إحيائه لموتاهم، وإبرائه الأكمه والأبرص. وهذه هي معجزته لهم، وهي تكفي في مقام التحدي.

وقال يوسف عليه السلام لصاحبي السجن:

{.. لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما} سورة يوسف: الآية 37

وما هي حاجة يوسف عليه السلام للعلم بتأويله قبل أن يأتيهما؟، فهل كان في موقع التحدي آنئذ؟! وما هو المنصب والمقام الذي اضطر يوسف لأن يحوز هذا العلم، ومنع غيره منه؟

وقال سبحانه في مواضع: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك} سورة آل عمران: الآية 44

وذلك كله يبعد جداً تفسير الآية المذكورة، ومثيلاتها بإرادة النفي المطلق للغيب، إلا ما كان يوحيه الله إليهم في حالات تفرض الحاجة ذلك.

ثانياً:

إن السيد فضل الله يصرّ على أن ما يعلمه النبي بالغيب إنما يصله ـ حصراً ـ عن طريق الوحي ـ ونحن نقبل منه ذلك. وإن كنا لا نمنع من أن يكون الله سبحانه قد منح نبيه قوة يعلم بها بعض الغيوب كما دلت عليه الروايات بالنسبة لرؤية الأمام والنبي أعمال الخلائق وشهادته عليهم، غير أننا نقول إن هذا البعض نفسه قد ذكر في النص السابق: أن هذا العلم ما كان منه متصلاً بأخبار الماضين، فالقرآن يشير بوضوح إلى أن أنباءه هي من وحي الله.

أما ما كان متصلاً ببعض موارد الحاجة إليه في موارد معينة، فيلهمه الله تعالى إياه إلهاماً [من وحي القرآن ج6 ص34 ط2] (إلا أن يفرّق بين الوحي والإلهام).

فيرد عليه سؤال: لماذا فرّق بين الموردين فكان أحدهما بواسطة الوحي، وكان ذاك بواسطة الإلهام؟! ولماذا لا يكون العكس؟!

ثالثاً: لماذا لا يكون هذا الإلهام الذي اعترف به ناشئاً عن قدرة، أو ملكة أودعها الله في نبيه، تجعله قادراً على أن يعلم ساعة يشاء، حسبما دلّت عليه الروايات الكثيرة.

رابعاً: إن قوله تعالى في نفس آية سورة الأحقاف:

{إن أتبع إلا ما يوحى إليّ} بعد قوله: {ما أدري ما يفعل بي ولا بكم} سورة الأحقاف: الآية 9 يفيد أنه قد جاء في موضع الإضراب عما قبله.. ليكون المعنى: إني ما أدري شيئاً من هذه الحوادث بالغيب من قبل نفسي. وإنما أتبع ما يوحى إلي من ذلك.

وحسبنا ما ذكرناه، فإن فيه كفاية لمن أراد الرشد والهداية.

 

العودة