ـ حوارات لا حقيقة لها بين الله وبين ما لا يعقل ولا ينطق من مخلوقاته.

ـ نستقرب كون حوار الله مع ملائكته ليس حقيقيا.

ـ الاستشارة محاولة للوصول إلى الرأي الأصوب الذي يعني الجهل فلا يستشير الله ملائكته.

يقول السيد محمد حسين فضل الله:

ما معنى هذا الحوار الذي أجراه الله سبحانه وتعالى مع الملائكة؟

 هل هو قصة حقيقية دار الحوار فيها بين الله وبين ملائكته، أو هو أسلوب قرآني لتقريب الفكرة بطريقة الحوار لأنه أقرب إلى فهم الفكرة من الأسلوب التقريري.فإن أسلوب الحوار متحرك يوحي بالحركة في الفكرة عندما تتوزع تفاصيلها على عدة أشخاص بين السؤال والجواب، بينما نشعر ـ في الأسلوب التقريري ـ بأن الفكرة تسير بشكل رتيب هادئ لا يثير في النفس أي شعور غير عادي إلا من خلال طبيعة الفكرة..

وليس هذا الأسلوب بدعاً في الأساليب القرآنية فنحن نجد في كثير من آيات القرآن حواراً يدور بين الله وبين ما لا يعقل ولا ينطق من مخلوقاته كما فيما حكاه الله سبحانه في خلق السموات والأرض إذ قال لهما {ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} (فصلت –11). لتقريب فكرة خضوعهما التكويني لله بما أودعه فيهما من قوانين طبيعية تسير بهما وفق إرادته وحكمته ولا بد لنا في الجواب عن هذا التساؤل من الحديث عن موقفنا حيال الظواهر القرآنية، فهل لنا أن نتصرف فيها فنحملها على غير ما يفهم من مدلولها الحرفي أو لا؟.

إن الطريقة العقلانية في التفاهم تقضي بأن الظواهر الكلامية حجة ما لم يكن هناك دليل عقلي يمنعنا من الأخذ بها وقد جرى القرآن على هذه الطريقة في أسلوبه.. فلا بد لنا من السير عليها فيما نأخذ منه أو ندع، فإذا أخبرنا بوجود حوار ضمن قصة ولم يكن هناك مانع عقلي من الإقرار به واعتباره حقيقة واقعة.. أمّا إذا كان هناك مانع عقلي فلا بد من حمله على ما ينسجم معه على أساس قواعد المجاز والكناية والاستعارة.. كما في الآيات التي تحدثت عن وجه الله {كل شيء هالك إلا وجهه} [من وحي القرآن ج1ص224-225ط2]

ويقول أيضا:

".. كيف نفهم الحوار كحقيقة موضوعية.. هل كان الله سبحانه في مقام استشارة للملائكة فيما يريده من خلق الخليفة أو كان في مقام إخبارهم بذلك.. لا بد من رفض الشق الأول من السؤال لأن الاستشارة تنطلق من محاولة الوصول إلى الرأي الأصوب الذي يستتبع الجهل بالواقع مما يستحيل نسبته إليه تعالى.. فإذا كانت القضية إخبار عما يريد الله فعله، فكيف نفسر اعتراض الملائكة عليه، مع أننا نعرف من خلال القرآن الكريم، أنهم {عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} (الأنبياء 26 ـ 27). وهنا يعود السؤال من جديد كيف نفسر الحوار.. ونقول ربما تكون القضية واردة مورد التساؤل أمام الإخبار، وليس هناك ما يوجب اعتبار السؤال اعتراضا، فإن طبيعة الموضوع تدفع للتساؤل عن سر الحكمة فيه.. وتثير الدهشة والاستغراب.. فكيف يخلق الله مخلوقا ليكون خليفته في الأرض، في الوقت الذي تتمثل حياته في التمرد على الله بالفساد وسفك الدماء.. إن القضية تشبه اللغز بحسب طبيعتها.. وفي هذا الإطار يمكن أن تكون القضية جوابا عن سؤال أثاره الملائكة لكشف الموضوع، ويمكن أن تكون جوابا عن سؤال تفرضه طبيعة القضية، بعيداً عن أجواء الحوار الحقيقي.. وقد نستطيع أن نتبنى الفقرة الثانية، لأن الآيات بمجموعها توحي بأن في القضية نوعا من التحدي الذي يوجه نحو الملائكة، بإثارة محدودية علمهم من جهة، وبتوجيه السؤال إليهم لإظهار عجزهم وتكليف آدم بالإجابة عنه.. وقد يقرّب هذه الفكرة.. أننا لا نفهم الوجه في إدارة هذا الحوار مع الملائكة.. فإن حوار الله مع مخلوقاته ينطلق غالبا من القضايا التي تتعلق بمسؤولياتهم وتكاليفهم، أما أن يكون متمثلا في الأمور التكوينية التي يريد إيجادها فهذا ما لا نعرف له وجها.. ومن الطبيعي أن هذا لا يعتبر مانعا عقليا عن حمل اللفظ على ظاهره، لا سيما وأننا لا نملك الكثير من المعرفة لعالم ما وراء الطبيعة، فنحن لا نعرف كيف يقولون، وكيف هم، وما هي العلاقة بينهم، وبين الله سبحانه، وما هو الجو الذي يمكن أن يعيش فيه هذا الحوار.. كل هذا لا نملك له سبيلا للمعرفة فان هذه القضايا مما نعرف وجودها بشكل ضبابي لأننا لا نجد وسائل الإيضاح التي تجعلنا نتمثل الفكرة بوضوح..

إننا نستقرب اعتبار الموضوع أسلوبا قرآنيا لتوضيح الفكرة ولكننا لا نجزم بذلك، لان المعطيات التي قدمناها لا تدع مجالا للجزم.. بل ربما نلتقي ببعض الأحاديث المأثورة التي تدعم الفرضية الأولى.. فيما يأتينا من حديث.."  [من وحي القرآن ج1ص225-226ط2]

ونقول:

إننا نشير هنا إلى أمرين:

الأول: أن السيد محمد حسين فضل الله يستقرب أن يكون ما جرى من حوار بين الله وملائكته ليس حواراً حقيقيا، بل هو أسلوب قرآني لتوضيح الفكرة على حدّ تعبيره.

ونقول: يرد عليه:

أولا: إن الدليل الذي استدل به يوجب كون الحوار حقيقيا فهو يقول: إن في القضية نوعاً من التحدي للملائكة بتوجيه السؤال إليهم لإظهار عجزهم، وذلك يعني أن يكون ثمّة سؤال وُجّه إليهم بالفعل.

ثانياً: إن ما ذكره من عدم معرفته للوجه في إدارة الحوار، لا يبرر اعتباره الحوار خيالياً فرضياً.

ثالثاً: إنه تارة يقول: إنه لا يعرف سبب الحوار بين الله وملائكته، وتارة يقول: إن السبب هو أنه تعالى أراد تحدي الملائكة لإظهار عجزهم ‍!.

رابعاً: إن عدم معرفته بالسبب لا يبرر رفض الأحاديث المأثورة التي تدعم مقولة كون الحوار حقيقيا، فإنه إذا كان لا يعرف السبب، ولا يملك وسائل الإيضاح ليتمثل الفكرة بوضوح، كما يقول..

فإن أهل بيت العصمة عليهم السلام يعرفون، وقد أخبرونا بالحقيقة، فلماذا يتجاهل الأحاديث المأثورة عنهم (ع)التي اعترف السيد محمد حسين فضل الله بـوجـودهـا، واعترف بأنها تدعم القول بعدم كون الحوار فرضياً؟.

خامساً: إنه يقول أيضا: إن الظواهر الكلامية حجة ما لم يكن دليل عقلي يمنع من الأخذ بها. وقد جرى القرآن على هذه الطريقة في أسلوبه، ثم هو يقول: إنه لا يوجد مانع عقلي من حمل اللفظ على ظاهره.

ونقول:

أولا: فإذا كان يجب حمل اللفظ على ظاهره في مثل هذه الموارد فلماذا استقرب هنا ما يخالف هذه القاعدة يا ترى !؟ ويا ليته التزم بمثل ما التزم به هنا حين تحدث عن رؤية موسى (ع) لربه سبحانه وتعالى وغيرها من الموارد !!

ثانياً: إن السيد محمد حسين فضل الله قال:

".. نجد في كثير من آيات القرآن حوارا يدور بين الله وبين ما لا يعقل، ولا ينطق من مخلوقاته، كما فيما حكاه الله سبحانه في خلق السماوات والأرض؛ إذ قال لهما: {ائتيا طوعا أو كرها قالتا: أتينا طائعين} (فصلت 11) لتقريب فكرة خضوعهما التكويني لله.." انتهى كلامه.

ونقول:

إننا لا نوافق على أن ما يجده في كثير من حوارات جرت بين الله وبين ما لا يعقل، ولا ينطق من مخلوقاته هو من موارد الحوارات الفرضية التي لا حقيقة لها.. بل جاءت لتقريب فكرة الخضوع التكويني له تعالى كما يزعم.. إذ إن حملها على ذلك خلاف ظاهر كثير من الموارد، فقد دلت الآيات على أن السمع والبصر والجلود تشهد، وعلى أن الجلود تنطق وعلى أن الأيدي تتكلم.

قال تعالى: {اليوم نختم على أفواههم، وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} سورة يس الآية65

وقال تعالى: {يوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون. حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم، وأبصارهم، وجلودهم، بما كانوا يعملون. وقالوا لجلودهم: لم شهدتم علينا، قالوا: أنطقنا الله الذي انطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة،واليه ترجعون.وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم. ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون} سورة فصلت الآية19-22

ولا ننسى هنا حكاية النملة مع سليمان (ع)، وحكاية الهدهد معه أيضا، مع انهما مما لا يعقل ولا ينطق حسب تقدير السيد محمد حسين فضل الله.

قال تعالى: {حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده، وهم لا يشعرون. فتبسم ضاحكا من قولها وقال: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والديّ، وان أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين وتفقد الطير فقال: مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين، لأعذّبنه عذابا شديداً اولأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين، فمكث غير بعيد، فقال: أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين. إني وجدت امرأة تملكهم، وأوتيت من كل شيء، ولها عرش عظيم. وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم، فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون. ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون. الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم. قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين. اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم، ثــم تــولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون. قالت: يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كـريـم} سورة النمل الآيات18-29

هذا بالنسبة لعالم الطير، وغيره من الكائنات الحية.

أما بالنسبة لعالم الجماد فهناك آيات كثيرة، نختار منها قوله تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض، والشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والشجر، والدواب، وكثير من الناس. وكثير حق عليه العذاب} سورة الحج الآية18

وقال تعالى: {تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيءٍ إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم، إنّه كان حليما غفورا} سورة الإسراء الآية44

ومن الواضح أن سجود الموجودات المذكور في الآية الأولى ليس سجودا تكوينيا قهريا، وإنما هو اختياري كالناس الذين يختار بعضهم السجود، ويختار بعض آخرون العصيان، فيحق عليه العذاب ولو كان تكوينيا لم يكن ثمة مجال لامتناع كثير من الناس عنه.

كما أنه لو كان التسبيح الذي تحدثت عنه الآية الثانية تكوينيا فهو أمر معروف وظاهر يعرفه الناس كلهم، فلا يبقى معنى لقوله تعالى {ولكن لا تفقهون تسبيحهم}.

ومما يشير إلى ذلك أيضا قوله تعالى {إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} سورة الأحزاب الآية72

وقال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعاً من خشية الله} سورة الحشر الآية21

وقال سبحانه: {ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه، والله عليم بما يفعلون} سورة النور الآية41

والآيات التي تدخل في هذا السياق كثيرة. ولا مجال لإثبات خلاف ذلك في تلك الموارد.

العودة