ـ القرآن يوحي بما لا يتفق مع كون النبي أعلم الناس وأشجعهم وأكملهم في المطلق.

ـ الرسالة تتصل بحركة الكلام في لسانه، وطريقة التعبير في كلامه.

ـ ضعف موسى في طبيعة الكلمة، والمنهج، والأسلوب، وقوة هارون في ذلك.

ـ لكنة في لسان موسى تؤدي إلى ضعف موقفه.

ـ نقاط ضعف بشري تتحرك بشكل طبيعي في شخصية النبي، حتى في مقام حمل الرسالة.

ـ لكنة موسى تمنعه عن إفهام ما يريد للناس.

ـ الجانب الغيبي لا يتدخل في تضخيم شخصية النبي على حساب بشريته العادية.

ـ اللكنة في لسان موسى تثير السخرية ونحوها.

وبعد ما تقدم نقول:

يتحدث السيد فضل الله عن طلب موسى من الله أن يشد عضده بأخيه هارون، فكان مما لاحظه في هذه القصة ما أجمله بقوله:

".. {واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي} فقد كان يعيش حبسا في لسانه بحيث يمنعه من الطلاقة التي تفصح الكلمة بحيث يفهم الناس ما يريد أن يقوله.. لأن الرسالة تتصل بحركة الكلام في لسانه، وطريقة التعبير في كلامه.

     وتلك هي مشكلته الخاصة التي أراد الله أن يساعده في حلها وترويضها وتيسيرها وتسهيل صعوباتها.. فيما يريد أن يمارسه بجهده الذاتي {واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري} لأن المهمة تحتاج إلى جهد آخر يشترك مع جهده في الدعوة والحركة والانطلاق.. ليعاون أحدهما الآخر فيما يمكن أن يواجههما من مشاكل وقضايا وصعوبات، خصوصا في جانب الدعوة في طبيعة الكلمة والمنهج والأسلوب، الذي يتمتع هارون بمميزات جيدة لأن لسانه أفصح من لسان موسى، كما جاء في سورة أخرى.. وتلك هي الروح المتواضعة الجادة التي تدرس حجم المسؤولية، وحجم إمكاناتها فإذا رأت بعضا من الخلل الذي قد يصيب المسؤولية أمام ضعف الإمكانات، فإنها لا تتعقد ولا تهرب من الواقع لتلجأ إلى الذات في عملية استغراق في الإيحاء بالقدرة الشاملة غير الموجودة لينعكس ذلك سلبا على حركة الموقف العملي، بل تعمل على أن تستكمل القوة من جانب آخر لمصلحة العمل المسؤول.. وهذا هو ما فعله النبي موسى (ع) عندما أراد من الله أن يضيف إليه شريكا في أمره، لأنه يعيش بعض نقاط الضعف التي يملك فيها هارون نقاط قوة..

وهذا هو الذي يوجب على العاملين في سبيل الله، أن يواجهوه فيما يتحملونه من مسؤوليات ليعملوا على الإخلاص للدور العملي في استكمال كل الإمكانات التي يحتاجها، ولو كانت لدى الآخرين.. لأن ما نعانيه في ساحة العمل، هو أن بعض العاملين قد يدفعهم الشعور الأناني بالعظمة الفارغة، فيسيئون إلى مسؤولياتهم للحفاظ على ذواتهم لأنهم لا يريدون الاعتراف بالحجم المحدود لقدراتهم، وبالإمكانات المتوفرة لدى الآخرين" [ من وحي القرآن ج15ص106-107ط2]

ويقول السيد محمد حسين فضل الله أيضاً:

"وقد نلاحظ في هذه القصة، أن النبوة لا تتنافى مع الضعف البشري الذي يعيشه النبي ويعترف به، فيطلب إلى الله أن يقويه بإنسان آخر في أداء مهمته لا بواسطة تنمية قدراته الذاتية.. مما يوحي بأن الجانب الغيـبـي لا يتدخل في تضخيم شخصية النبي على حساب بشريته العادية، بل يترك المسألة للطبيعة البشرية لتتكامل بطريقة عادية.. وهذا ما قد يحتاج إلى مزيد من الدراسة فيما يطلقه علماء الكلام فيما يتصل بصفات النبي، بأن يكون أعلم الناس وأشجعهم وأكملهم في المطلق.. فإن تأكيد القرآن على نقاط الـضـعـف الـبـشري فـي شخصية الأنبياء، لا سيما في شخصية موسى (ع) قد توحي بما لا يتفق مـع ذلك" [ من وحي القرآن ج15ص108ط2]

ويقول أيضا:

".. وهناك نقطة أخرى، وهي أن الرسالة تفرض الدخول في جدل مرير مع هؤلاء القوم يمكن أن يثيروه من شبهات، أو يطالبوه بالحجة، فيحتاج إلى التحدث بطريقة مقنعة حاسمة، بلسان فصيح.. وهذا ما لا يملكه موسى لِلَكْنة كانت في لسانه، مما يؤدي إلى ضعف موقفه الذي ينعكس سلباً، على موقف الرسالة فيما قد يثيره ذلك من سخريةٍ ونحوها.. لذلك كان بحاجة إلى شخص آخر يشاركه المسؤولية، ليواجه مثل هذا الموقف الطارئ معه، أو ليكون بديلا عنه في مقارعة الحجة بالحجة.. ولهذا فقد أراد أن يكون أخوه هارون معه {وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءاً} أي ناصراً ينصرني ويشد ظهري "يصدقني" ويشرح بفصاحته مواقع الـصـدق فـي رسالتي، ومواطن القوة في مـوقـفـي، {إني أخاف أن يكذبون} فيفرض ذلك عليّ الدفاع والجدال حول مفاهيم الرسالة ومواقعها" [ من وحي القرآن ج17ص293ط2]

ونجد السيد فضل الله يقول أيضا في موضع آخر في تفسير قوله تعالى {إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى}  سورة طه الآية 45

"ونلاحظ في هذه الآية الإشارة إلى ما يعيشه النبي من نقاط الضعف البشري التي تتحرك في شخصيته بشكل طبيعي، حتى في مقام حمل الرسالة.. فيتدخل اللطف الإلهي مـن أجل أن يمنحه القوة الـروحية التي تفتح قلبه، بعمق على التأييد الإلهي في أوقات الشدة الأمر الذي يعطي الفكرة بأن النبي يتكامل في وعيه وقوته وحركته في الرسالة." [ من وحي القرآن ج15ص116ج2]

 

ونقول:

إننا رغم أننا لم نذكر في العناوين المستخرجة من كلام هذا البعض ما ذكره عن الضعف البشري في شخصية الأنبياء، فإننا نذكّر القارئ الكريم بما يلي:

1ً ـ إن السيد فضل الله قد فسّر الآيات بطريقة أوصلته إلى أن ينسب إلى الأنبياء ما ألمحنا إليه في العناوين التي صدّرنا بها كلامه هذا الأخير..

ونحن نذكر هنا ما يشير إلى المراد مـن أفصحية هارون (ع)، ليظهر للقارئ أن الآية ليست ناظرة إلى موضوع طلاقة اللسان من الأساس..

ولو سلمنا أنها ناظرة إلى طلاقة اللسان من حيث البلاغة والفصاحة الكلامية، فذلك لا يستلزم ما ذكره ذلك البعض.

ونحن نشرح ذلك ضمن النقاط التالية، فنقول:

أ ـ لقد طلب موسى (عليه السلام) من الله أن يشد عضده بأخيه هارون (عليه السلام). وهو طلب طبيعي، ليس فيه أية مشكلة، وهو لا يعني وجود نقص في شخصية النبي موسى (ع) يحتاج إلى رفعها بواسطة الاستعانة بهارون (ع)، ويدل على ذلك ما روي من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد طلب أيضا مثل ذلك من الله تعالى فقال (ص): واجعل لي وزيرا من أهلي، عليا أخي، أشدد به أزري..

وقد صحت الرواية بذلك من طريق الفريقين على حد تعبير صاحب الميزان  تفسير الميزان ج14ص147

".. وعن أسماء بنت عميس قالت: رأيت رسول الله (ص) بازاء ثبير وهو يقول " أشرق ثبير، أشرق ثبير، اللهم إني أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري، وأن تيسر لي أمري، وأن تحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي، وأن تجعل لي وزيرا من أهلي علياً أخي. أشدد به أزري، وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيراً إنك كنت بنا بصيرا"  تفسير البرهان ج13ص31 وتفسير الثقلين ج3ص376

فالمراد من الأمر في قول موسى(ع) {وأشركه في أمري} غير النبوة، بدليل أن رسول الله (ص) دعا الله بأن يشرك علياً(ع) أمره مع أن عليا ليس نبيا قطعا، بل المراد هو آثار النبوة، كافتراض الطاعة وغير ذلك والله العالم.

ب ـ كما أن رسول الله (ص) قد طلب من الله سبحانه حل العقدة من لسانه حيث قال {واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي} مع أن ذلك لم يكن لقلة فصاحة فيه، ولا لعقدة أو لكنة في لسانه، ولا لكون علي عليه السلام أفضل منه، وهو القائل (ص): (أنا أفصح من نطق بالضاد).

وهذا يشهد بأن المراد من الفصاحة في دعاء موسى (ع) ليس هو المعنى الذي يذكرونه في علم المعاني والبيان، وإلا لما صح أن يدعو به أفصح من نطق بالضاد، فالمراد إذن شيء آخر وهو أنه أكثر انطلاقا في الحديث معهم حيث لم يقتل منهم رجلا من عدوه كما فعله أخوه موسى(ع)، بالإضافة إلى جدالهم في أمر إحسانهم لموسى وتربيتهم له (ع) وليداً كما ذكر الله تعالى حكاية ذلك في قوله {..ألم نُرَبّك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين}.

وهكذا يتضح أن ذلك لا ينافي كون موسى (ع) أعلم الناس وأكملهم وأشجعهم كما يقول السيد فضل الله.

2 ـ وحتى لو سلمنا ـ جدلا ـ بأفصحية هارون من الناحية الكلامية، ولم نحمل كلامه على ما ذكرناه آنفاً، أو على أن ذلك كان منه تواضعاً وهضماً للنفس، فلا مشكلة في ذلك، لأن هذه الآية نفسها تثبت صفة الفصاحة لموسى (عليه السلام) أيضا غير أنه يمهد للحصول على مطلوبه و هو أن يكون أخوه هارون وزيرا له. وأين هذا مما ذكره هذا البعض من كون لكنة موسى تمنعه من إفهام ما يريده للناس، الأمر الموجب للنقص في الصفات التبليغية المتوجب توفرها في المبلغ لدين الله.

فافصحية هارون (ع) كمال له، وفصاحة موسى (ع) لا تعتبر نقصا ولا تضر في أفضلية موسى (ع)، حيث إن ملاك الأفضلية هو التقوى الناشئة عن العلم و التي تقترن بالعمل.

وأما بالنسبة للصفات الجسدية ونحوها فقد ذكر العلماء أن المطلوب هو الكمال وعدم النقص، وهذا متحقق في موسى عليه السلام.

ثم إن هذه الافصحية قد حازها نبي بالقياس إلى نبي آخر لا أنها ثابتة لشخص عاديّ بالقياس إلى النبي، ليقال: لا بد أن يكون النبي أكمل من سائر الناس. فموسى وهارون (ع) أكمل أهل زمانهما لكن موسى أفضل عند الله وأكمل من أخيه في كثير من الصفات. فكما أن أكملية موسى (ع) لا تضر في نبوة هارون. كذلك أفصحية هارون ـ مع كون الفصاحة الكاملة موجودة عند موسى ـ لا تضر في نبوة موسى، ولا في أفضليته عند الله بمعرفته بالله سبحانه حتى على هارون نفسه. وإلا لكان الدعاء من الرسول (ص) بدعاء موسى (ع) بلا معنى.

هذا كله، لو سلمنا ـ جدلاً ـ بأفصحية هارون (ع). فيتضح مما تقدم أن ما ذكره ذلك البعض من ضعف بشري لدى الأنبياء، وأن موسى (ع) كان يعانى من حبس في لسانه يمنعه من الطلاقة المفهمة لمراده غير صحيح.

ملاحظة:

واللافت للنظر هنا: أن الله سبحانه قد اتخذ موسى كليما، وأعطاه الكرامة عن سائر الأنبياء، فهل اختاره كليما لأجل لكنته هذه تعويضا له عما فيه من نقص؟ إن هذا الأمر عجيب حقاً، وأي عجيب!! وإذا كان هناك من احتمال آخر فليطلعنا عليه.

2ً ـ انه إذا كانت مشكلة موسى (ع) هي في احتباس لسانه المانع له من الطلاقة المفهمة لمراده كما يقول البعض، فما هو ربط ذلك بالمنهج واللباقة في الأسلوب؟‍ومن أين عرف أن منهج هارون (ع) وأسلوبه، كان أحسن من منهج وأسلوب موسى (ع)؟‍!!ومن أين علم أن موسى استعان بهارون كي لا يهزأ ولا يسخر منه قومه لعدم قدرته على إفهامهم!؟.

مع أن القرآن سجل لنا في تساؤل بني إسرائيل عند أمره لهم بذبح البقرة موقفا معاكساً حيث اتهموه بأنه يهزأ بهم {قالوا أتتخذنا هزواً، قال أعوذ بالله ان أكون من الجاهلين}.

3ً ـ إن قول موسى وهارون عن فرعون: {إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} لا يستلزم وجود نقاط ضعف بشري تتحرك في شخصية النبي بشكل طبيعي، حتى في مقام حمل الرسالة، كما يقوله ذلك البعض.

فإن معرفتهما بشخصية فرعون، ثم ذكرهما لما يحتمل أن يواجهاه معه، ليس معناه أنهما يعانيان من وجود ضعف في شخصيتهما. بل ذلك يعني أنهما وهما يتحسبان لما سيواجههما به فرعون إنما يريدان إعداد العدّة لمواجهة أي احتمال.. وهذا هو غاية القوة في مقام حمل الرسالة..

فما هو نقاط قوة في الحقيقة أصبح ـ بنظر هذا البعض ـ نقاط الضعف في شخصية النبي التي تتحرك بشكل طبيعي حتى في مقام حمل الرسالة!!.

العودة