ـ قضية داود (ع)كقضية آدم (ع).

ـ داود (ع) يستسلم لعواطفه في قضائه.

ـ داود (ع) يعتمد على ما لا يصح الإعتماد عليه في القضاء.

ـ داود (ع) يخطىء في إجراء الحكم.

ـ الله هو الذي أراد لداود (ع) أن يقع في الخطأ.

ـ خطأ داود (ع) كانت له نتائج سلبية.

ـ الخطأ لا يتنافى مع مقام النبوّة.

يقول السيد محمد حسين فضل الله عن قصة حكم داود (ع) بين الخصمين:

"وهكذا أطلق داود الحكم، وتدخل في تفسير المسألة من ناحية اعتبارها مظهرا من مظاهر الإنحراف الإجتماعي في العلاقات العامّة في الحقوق المتنازع عليها بين الناس.. ولم يكن قد استمع إلى الطرف الآخر مما تقتضيه طبيعة إدارة الحكم في جانب الشكل والمضمون، فعليه أن يدرس الدعوى، من خلال الإستماع إلى حجة المدعي ودفاع المدّعى عليه.. لأن مسألة الغنى والفقر، والكثرة والقلة، لا يصلحان أساسا للحكم على الغني الذي يملك الكثير لحساب الفقير الذي يملك القليل أو لا يملك شيئا في دائرة الحق المختلف فيه..

ولكن المشاعر العاطفية قد تجذب الإنسان إلى الجانب الضعيف في الدعوى، لتثير فيه الإحساس بالمأساة التي يعيشها هذا الإنسان من خلال ظروفه الصعبة بينما يعيش الإنسان الآخر الراحة والسعة في أجواء اللامشكلة، مما يجعل من الحكم على الضعيف تعقيدا لمشكلته بينما لا يمثل الحكم عليه لمصلحة الضعيف مشكلة صعبة بالنسبة إليه.. هذا بالإضافة إلى أن طبيعة الواقع الذي يتحرك في حياة الناس تستبعد أن يكون هذا الفقير معتديا على الغني، لا سيما في هذا الشيء البسيط، بينما يمكن أن يكون الغني في جشعه وطمعه معتديا على الفقير من موقع قوته، كما هي حال الأقوياء بالنسبة إلى الضعفاء..

{وظن داود إنما فتنّاه} أي أوقعناه في الفتنة، أي في البلاء والإختبار الذي يفتتن به الإنسان فيكون معرضا للخطأ من خلال طبيعة الأجواء المثيرة الضاغطة المحيطة به وانتبه ـ بعد إصدار حكمه لمصلحة صاحب النعجة، إلى استسلامه للمشاعر العاطفية أمام مأساة هذا الإنسان الفقير، وخطأه في عدم الإستماع إلى وجهة النظر الأخرى {فاستغفر ربّه} على هذا الخطأ في إجراءات الحكم الشكلية {وخرّ راكعا وأناب} أي رجع إلى الله وتاب إليه ومخلصاً. {فغفرنا له ذلك} الخطأ الذي لم يؤد إلى نتيجة سلبية كبيرة في الحياة العامة ولم يصل إلى الموقف الحاسم في تغيير الواقع،{وإن له عندنا لزلفى} وهي المنزلة والحظوة {وحسن مآب} فيما يرجع إليه من رحمة الله ورضوانه.

قصة داود أمام علامات الاستفهام

 

 إلى أن قال في جملة نقاط ذكرها:

"النقطة الثانية: كيف نفهم المسألة في دائرة فكرة عصمة الأنبياء، أمام تصريح الآية بالإستغفار والرجوع إلى الله بعد الفتنة التي لم يستطع النجاح فيها، فأخطأ في إدارة مسألة الحكم في الجانب الإجرائي منه..

ربما تطرح القضية، على أساس أن الخصمين إذا كانا من الملائكة، فإنها لا تكون تكليفا حقيقيا، بل هي قضيّة تمثيلية على سبيل التدريب العملي ليتفادى التجارب المستقبلية فيما يمارسه من الحكم بين الناس،..

تماما كما هي قضية آدم التي كانت قضية امتحانية لا تكليفا شرعيا، فلم تكن هناك معصية بالمعنى المصطلح، وبذلك يكون الإستغفار مجرد تعبير عن الإنفتاح على الله والمحبة له، والخضوع له فيما يمكن أن يكون قد صدر عنه من صورة الخطيئة، لا من واقعها، وأما إذا كان الخصمان من البشر، فقد يقال بأن القضاء الصادر من داود لم يكن قضاء فعليا حاسما بل كان قضاء تقديريا، بحيث يكون قوله: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه}، بتقدير قوله: لو لم يأت خصمك بحجّة بيّنة.

ولكن ذلك كله لا يمنع صدور الخطأ منه، فإنّه لم ينتبه إلى أن الخصمين ملكان، بل كان يمارس القضاء بالطريقة الطبيعية على أساس أنهما من البشر.. وبذلك فلم تكن المشكلة هي إنفاذ الحكم ليتحدث متحدث بأن المسألة قد انكشفت قبل إنفاذه، أو أنها لم تكن واقعية بل كانت تمثيلية، بل المشكلة هي الخطأ في طريقة إجراء الحكم..

فلا بدّ من الإعتراف بأن مثل هذه الأخطاء لا تتنافى مع مقام النبوّة، لا سيّما إذا كانت الأمور جارية في بداياتها مما قد يراد به الوقوع في الخطأ من أجل أن يكـون ذلك بمثابة الصدمة القويّة التي تمنع عـن الخطأ في المستقبل.

وتابع السيد فضل الله فقال:

وقد أكّد الإمام الرضا (ع) ـ ذلك ـ فيما روي عنه في عيون أخبار الرضا، قال الراوي وهو يسأله عن خطيئة داود(ع): يا بن رسول الله ما كانت خطيئته فقال: ويحك إن داود إنما ظن أنه ما خلق الله خلقا هو أعلم منه، فبعث الله إليه الملكين فتسوّرا المحراب فقالا: {خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزّني في الخطاب} فعجّل داود على المدعى عليه فقال: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه}، ولم يسأل المدعي البيّنة على ذلك ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه.

وقد ذكرنا في هذا التفسير أن علينا أن نأخذ الفكر في طبيعة العقيدة من نصوص القرآن الظاهرة، لا من أفكار خارجة عنه، مما قد تتحرك به الفلسفات غير الدقيقة" [ من وحي القرآن ج19ص247-250ط2]

آيات حكم داود عليه السلام:

قال الله تعالى: {إصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنّه أوّاب. إنّا سخّرنا الجبال معه يسبّحن بالعشيّ والإشراق. والطير محشورة كلٌّ له أوّاب. وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب. وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوّروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط. إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزّني في الخطاب. قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإنّ كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم، وظن داود إنما فتنّاه فاستغفر ربّه وخرّ راكعا وأناب. فغفرنا له ذلك وإنّ له عندنا لزلفى وحسن مآب. يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله ان الذين يضلّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب}  سورة ص الآيات 17-26

 ونقول:

قد ذكر العلامة الطباطبائي أن أكثر المفسرين يقولون: إن الخصمين كانا من الملائكة، وأيّد رحمه الله ذلك ببعض الشواهد، فلم يكن هناك نعجة ولا متخاصمان في عالم المادة، لأن القضية إنما هي في ظرف التمثل، ولا تكليف هناك، فلا توجد خطيئة ولا حكم، ولا غير ذلك في عالم الشهود..

وأما على قول بعض المفسرين من أن المتخاصمين كانا بشرا، فينبغي أن يؤخذ قوله تعالى: {لقد ظلمك} الآية.. قضاء تقديريا، أي إنك مظلوم لو لم يأت خصمك بحجةٍ بيّنة فكأنه قال له: أرأيت لو كنا واحتكمنا اليك.. فقال له انك مظلوم لو لم يأت خصمك بحجة بينة

وإنما ذلك للحفاظ على ما قامت عليه الحجة من طريقي العقل والنقل: أن الأنبياء معصومون بعصمة من الله، لا يجوز عليهم لا كبيرة ولا صغيرة، على أن الله صّرح قبل هذا بأنّه آتاه الحكمة، وفصل الخطاب، ولا يلائم ذلك خطأه في القضاء  راجع تفسير الميزان ج17 ص193 ـ 194، و تنزيه الأنبياء ص127- 130

ولو أغمضنا النظر عمّا قاله العلاّمة الطباطبائي فإننا نقول:

1 ـ إن افتراض الخطأ في ما جرى لداود (ع) على النحو الذي يقوله السيد فضل الله ، معناه عدم مصداقيّة كونه أسوة وقدوة، ومعناه أنه يحكم بين الناس بغير الحق، وأنه يتبع الهوى في أحكامه مما ترتب عليه آثار سلبية باعترافه هو نفسه، لكنه قال إنها غير أكيدة، مع أن الله سبحانه قد قال عن داود: {.. وشددنا ملكه، وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} ثم تلتها الآيات التي تتحدث عن نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب وذلك يشير إلى أن الآيات التي تحدثت عن قضية النعاج التسعة والتسعين لم يرد الله منها تخطئة داود (ع)، فان من آتاه الله فصل الخطاب ـ الذي هو تفكيك الكلام الحاصل من مخاطبة واحد لغيره، وتمييز حقه من باطله، وينطبق على القضاء ـ لا يعقل أن يخطئ في نفس ما آتاه الله إيّاه.

أضف إلى ما تقدّم: أن دعوى: كون داود (ع) قد استعجل في الحكم انسياقا مع عاطفته، أو نحو ذلك ينافي الحكمة التي آتاه الله إياها، لأنها وضع الشيء في موضعه، كما أنه ينافي القضاء العادل بالحق الذي أعطاه الله إيّاه أيضا..

2 ـ إنّه يلاحظ: أن أحد الخصمين قد طرح سؤالا لا يتضمن ادعاء ملكية، ولا يتضمن شيئا خلاف الشرع، حيث ادعى أن أخاه صاحب التسعة والتسعين نعجة قد طلب منه أن يجعلها تحت تكفله، وألحّ عليه في ذلك، ولم يدّع أنّه اغتصبها منه، أو أنه ادّعى ملكيتها، أو أي شيء آخر، ومجرّد طلب تكفّل شيء للاستفادة من منافعه ليس حراما..

3 ـ إن قول داود عليه السلام: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه}، لا يدلّ على أنه كان في مقام إصدار حكم.إذ يمكن أن يكون ذلك مجرد إخبار له بالواقع الذي عرفه داود (ع) عن طريق الوحي أو عن أي طريق آخر..

4 ـ وأمـا قوله تعالى: {فظن داود إنما فتنّاه} فيراد به ـ والله أعلـم ـ : أنه ظن أن الله سبحانه قد أرسل إليه من يسأله هذا السؤال، وقد أراد سبحانه امتحانه بذلك، كما انه قد ظن أن مبادرته إلى إخبار السائل بما علمه لم تكن هي المطلوب، بل لعل المطلوب هو رسم الحكم بطريقة محاكمة قضائية.

وهكذا يتضح أنه لا يصح قول السيد فضل الله إن داود لم يستطع النجاح في هذه الفتنة فأخطأ.

5 ـ وربما يكون المتخاصمان قد تخيّلا أن ما قاله داود (ع) قد كان حكما قضائيا منه، من موقع كونه حاكما وقاضيا، لا إخبارا عن معرفة حصلت له من موقع كونه نبيا، لا سيّما وأنهما قد طلبا منه أن يحكم بينهما، فأخبرهما بالواقع، ولم يستجب لطلبهما بإصدار الحكم.. ولعل هذا هو السبب في عدم اعتراض صاحب النعاج التسعة والتسعين، وعدم دفاعه عن نفسه، ولم يذكّر داود (ع) بأن له الحق بذلك.

والنتيجة لما تقدّم هي:

أ ـ إن من الطبيعي أن يفكر داود (ع) بأن هذه القضية قد تكون امتحانا له، فطلب من الله سبحانه أن يستر له ما قد يراه الناس تقصيرا، وهو ليس كذلك في الواقع، وأن يعود عليه بالرحمات والألطاف، فكان له ما أراد.

ب ـ إن داود(ع) لم يبادر إلى تشكيل محكمة لفصل القضية قضائيا، بل اكتفى بإخبار الخصمين بحكم المسألة. وأخيرا فالرواية إن كانت موافقة لحكم العقل القطعي فلا مانع من الأخذ بها، وإلا فهي مطروحة أو مؤولة، ولا فرق في ذلك بين كونها صحيحة السند أو لا.

ولا ننسى الإشارة أخيرا إلى تناقض كلامه عن آدم (ع) في هذا المقام حيث نفى عنه المعصية هنا، مع كلامه المتقدم في صدر الكتاب والذي قال فيه: إن معصية آدم كمعصية إبليس.

العودة