ـ شهيدة بمعنى شاهدة على الناس لا مقتولة..

يقول السيد محمد حسين فضل الله:

"ورد في الحديث عن الإمام موسى الكاظم (ع): (إن فاطمة صدّيقة شهيدة)  الكافي ج1ص458رواية 2

إننا نستوحي من هذا الحديث الشريف أن سيدتنا فاطمة الزهراء (ع) وصلت إلى مقام الصديقين الذين يعيشون الصدق مع النفس ومع الله ومع الناس من حولهم، وقد عرفت أنها كانت الأصدق بعد أبيها كما روت عائشة.

ونستوحي منه أيضاً أنها وصلت إلى مقام الشهداء الذين يشهدون على الأمة يوم القيامة، كما هو شأن الأنبياء الذين اصطفاهم الله سبحانه واختارهم لمقام الشهادة.

إنّ ضم كلمة (الشهيدة) إلى كلمة (الصديقة) هو الذي يوحي لنا بهذا التفسير لكلمة الشهيدة، لأنه يلتقي مع الإشارة القرآنية لذلك في قوله تعالى {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً} (النساء 69) وقوله تعالى: {ويوم نبعث من كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم..} (النحل 89) وغيرها من الآيات القرآنية التي تتحدث عن مقام الشهادة على الأمة.

ولا ريب أن موقع الشهادة على الأمة هو أعظم من موقع الشهادة بمعنى القتل في سبيل الله، لأن الشهادة بالمعنى الأول هي صفة الله سبحانه {أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} (فصلت 53) وهو أيضاً صفة أنبياء الله {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} (النساء 41).

وعندما يختار الله أحداً للاصطفاء ولمقام الشهادة، كما اختار سيدتنا الزهراء(ع) لذلك، فإن هذا الاصطفاء لا ينطلق من فراغ، بل هو ينطلق من الخصائص التي تحبّب هؤلاء إلى الله، وتجعلهم في مستوى حمل الرسالة، وتجسيد قيمها في الحياة" [ الزهراء القدوة ص183-184]

ونقول:

إن هذا الذي ذكره السيد فضل الله ، والذي أراد من ورائه إنكار استشهاد الزهراء، يحتاج لإيضاح مغازيه ومراميه إلى مجال آخر.. ولكننا نقتصر هنا على النقاط التالية:

1 ـ قال ابن الأثير: إن كلمة (شهيد) و (شهيدة) في الأصل: (من قتل مجاهداً في سبيل الله، ويجمع على شهداء، ثم اتسع فيه فاطلق على من سّماه النبي (ص) من المبطون، والغرق، والحرق) [ تاج العروس ج2ص391، والنهاية لابن الأثير ج2ص513]

وقال الزبيدي: (الشهيد في الشرع القتيل في سبيل الله) [ تاج العروس ج2ص391]

واستعمال هذه الكلمة في غير هذا المعنى.. يقترن بالقرينة التي تعين وتبين.. فقد تكون القرينة هي اقترانها بكلمة (على كذا) كقوله: {شهداء على الناس}. أو {عليهم شهيداً} وقد تكون القرينة غير ذلك..

2 ـ ولأجل ما ذكرناه آنفاً احتاج السيد فضل الله إلى تلمس القرينة الدالة على ذلك، وهي ضم كلمة الشهيدة إلى كلمة الصديقة، استناداً إلى آية:

{ومن يطع الله والرسول، فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين}

[ النساء 69]

ولا ندري كيف أصبحت هذه الآية إشارة إلى أن المراد بكلمة (شهيدة) في الرواية هو الشهادة على الناس، كما هو شأن الأنبياء الذين اصطفاهم الله، واختارهم لمقام الشهادة؟! ولماذا لا يكون المراد هو الشهداء بمعنى الذين يقتلون في سبيل الله؟!.. فإن كلمة (الشهداء) قد اقترنت مع كلمة (النبيين، والصديقين، والصالحين)، فليس المراد بها الأنبياء الذين يشهدون، ولا الصالحون الذين يشهدون، بل هي إلى إرادة المقتولين في سبيل الله اقرب، وبهم أنسب.

3 ـ وحتى لو غضضنا النظر عن ذلك، فإن جزمه ويقينه بأن المراد بالآية هو مقام الشهادة على الناس بلا جهة، لأن إرادة هذا المعنى من آية أخرى لا يعني أنه هو المراد في هذه الآية وفي تلك الرواية أيضاً..

4 ـ على أن السيد فضل الله يشترط في مثل هذه الأمور الدليل المفيد لليقين، فأين هو هذا الدليل الذي أفاده اليقين بإرادة الشهادة على الناس يوم القيامة؟..

5 ـ أما بالنسبة للآية الثانية التي استشهد بها وهي قوله تعالى: {يوم نبعث من كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم} [ النحل 89]

فإن الاستشهاد بها اغرب وأعجب، وذلك، لأنها تحمل في داخلها قرينة صريحة على أن المراد بها الشهادة على الناس. وهي قوله: {عليهم من أنفسهم..} إذن، فما معنى جعلها شاهداً ودليلاً على إرادة الشهادة على الناس في مورد آخر، مع أن هذا المورد الآخر ليس فيه هذه القرينة الصريحة؟! ويكون تجرده عن القرينة داعياً إلى حمله على إرادة المعنى الأصلي، وهو الشهادة بمعنى القتل في سبيل الله.

6 ـ إنه إذا كان ما ذكر في القرآن من آيات تتحدث عن مقام الشهادة على الأمة قرائن على المراد من كلمة (إن فاطمة صدّيقة شهيدة) فلماذا لا يكون ما جرى على الزهراء، من ضرب وقهر، وإسقاط جنين، واعتلال، ومرض مستمر وكسر ضلع، وبقاء آثار الضرب إلى حين الوفاة، حتى إن في عضدها كمثل الدملج.. نعم.. لماذا لا يكون ذلك كله قرينة على إرادة المقتولة ظلماً من كلمة (الشهيدة)؟!.

ولماذا لا تكون كل الأحاديث التي تتحدث عن الشهادة بمعنى القتل في سبيل الله، حتى لقد أصبحت هي المقصودة في العرف الشرعي، قرينة على إرادة خصوص هذا المعنى دون غيره؟!..

7 ـ إن كون موقع الشهادة على الأمة أعظم من موقع الشهادة بمعنى القتل، لا يعني عدم حصول القتل أيضاً، ولا يعني ذلك: أن لا يتحدث النبي والأئمة عن الاستشهاد بهذا المعنى.

8 ـ إن الحديث عن مقام الاستشهاد بمعنى القتل قد ورد في ما يرتبط بالإمام الحسين (عليه السلام) أيضاً. مع أن الحسين(عليه السلام) شاهد على الأمة في يوم القيامة، كما أنه شهيد مقتول في سبيل الله.. فلماذا لا يصرف الأحاديث التي تحدثت عن قتله شهيداً عن معناها ليصبح المراد بها الشهادة على الناس ويجعل الآيات المذكورة شاهداً على ذلك؟!.

9 ـ إن الحديث عن استشهادهم عليهم السلام مقتولين. هو حاجة للأمة تماماً كما هو الحديث عن مقام شهادتهم على الناس.. بل ربما يكون هذا الحديث هو الأهم بالنسبة للناس الذين يفهمون الأمور من خلال تجسدها في وجدانهم، وتأثيرها في مشاعرهم.

ولأجل ذلك كان التأكيد على مصيبة كربلاء، وإثارتها من خلال المأساة والشهادة.. وكان لا بد من الاستمرار على ذلك مر الدهور والعصور.

10 ـ لا ندري إن كان القارئ قد أدرك أمراً لم يزل يثير لدينا أكثر من سؤال، وهو أننا نجد السيد فضل الله لا يهتم بمناقشة ما عند الآخرين من أفكار، ومن توجهات.. بل هو يتغاضى عن ذلك بصورة باتت تلفت النظر.. بل إنه ربما يقف بطريقة أو بأخرى موقف التأييد والتسديد..

أما فيما يرتبط بمذهب أهل البيت وبمفرداته، ورموزه، وشعائره، وعلمائه وأعلامه، فإننا نشعر: أنه يكاد يكون شغله الشاغل هو البحث عن نقاط يزعم هذا البعض أنها نقاط ضعف، ويجهد لتلمس المسارب والمهارب للتخلص منها، أو على الأقل زعزعة الثقة بها، ووضعها في دائرة الشبهة، وإثارة الريب فيها. ولعل هذا الكتاب بجميع فصوله يصلح لأن يكون شاهداً على ما نقول:

وقد كنا ولا زلنا نرغب بأن تسير الأمور في غير هذا الاتجاه.. ولكن ليس باليد حيلة، وليس أمر ذلك بيدنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

العودة