قال السيد محمد حسين فضل الله في تفسيره: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} سورة مريم الآية 96

من المودة وهي المحبة، بحيث تفيِضُ عليهم المحبةُ من بين أيديهم ومن خلفهم، وتعيش في داخلهم وتنزل عليهم من ربِّهم، وذلك هو غاية ما يتمنَّاه الإنسانُ في إيمانه وفي عمله [من وحي القرآن ج15ص80ط2]

أقول: إنَّ الآيةَ تتحدث ـ بلسان عربي مبين غير ذي عوج لا عجمة فيه ولا لحن ـ عن أنه تعالى سيجعل للذين آمنوا حبةً، ولكن لا ندري هل أنه تعالى سيجعلها لكلِّ مَن آمن؟

سيجعلها في جوف السماء أو في باطن الأرض؟

سيجعل للذين آمنوا محبة في قلوب الكافرين والمنافقين؟

سيجعلها وينقشها في أنفس الملائكة المكرمين؟

وكلُّ ناظرٍ في الآية سيقف لا محالة أمام أمرين مجهوليْن، الأول: مَن هو أو مَن هم أولئك الذين سيجعل لهُمُ الرحمنُ وداً، فهل تشمل كلَّ مؤمن أو أنها تختصُّ بالبعض؟

الثاني: أين سيجعل لهم ذلك؟

أما ما يتعلق بالأمر الأول، فقد يقول قائل: بأنه لا مانعَ من شمول الآية لجميع المؤمنين.

فنجيب، أولاً: لو قلنا بأنه لا مانع، إلا أنَّ هذا لا يكفي حتى نلتزم بأنها عامةٌ، بل لا بُدَّ من قيام الدليل، ومع عدم قيامه فتكون الدعوي تخرُّصاً بالغيب.

وثانياً: إنَّ جميع المخلوقات، إما أن نقول بأنها تُحبُّ الحقَّ والخيرَ دائماً أبداً، أو أنَّ فيها مَن يُحبُّ الحقَّ وفيها مَن لا يحبُّه.

ومن المعلوم جداً، بأنَّ الإنسَ والجنَّ فيهم مَن يُحبُّ نفسَه زيادةً على أيِّ شيء آخر، بل أكثرهم كذلك، وعليه فإذا ما تعارض الحقُّ مع مصالحهم وأهوائهم، فإنه بداهةً لن يُحبُّوه ولن يُؤيِّدوه.

والملائكة لا تحبُّ إلا الخير والحق، وباقي المخلوقات إما أن تكون كالإنس والجن، أو تكون كالملائكة.

فالخلق جميعاً ـ باستثناء المعصومين (عليهم السلام) أجمعين ـ بين مَن لا يُحبُّ إلا الحقَّ، وبين مَن يحبُّ الحقَّ وغيرَّ الحق أيضاً.

فنأتي إلى الذين آمنوا، فأن قلنا بأنَّ الآية تشمل كلَّ مَن آمن، أي أنه سبحانه قد جعل المودة لكلِّ مَن آمن، فهذا يعني أنَّ المودة قد جعلها الله تعالى لكلِّ مَن آمن في قلب كلِّ مؤمن فقط، أو في قلب كلِّ مؤمن وفي قلب كلِّ كافر ومنافق أيضاً، أو في قلوب سائر الخلق.

أما الكافر والمنافق، فإنهما ممَّن يُبغِضان المؤمن، وهذا ما نعرفه بالوجدان، وقد تحدَّث المولى سبحانه في كتابه الكريم عن عداوة اليهود والذين أشركوا للمؤمنين، فقال سبحانه
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} سورة المائدة الآية 82 وعداوة النصاري أو كثير منهم للمؤمنين يعرفها كلُّ مَن يعرف التاريخ، إذن لم يجعل سبحانه في قلوب اليهود والنصاري والذين أشركوا المودةَ للمؤمنين.

فيبقى من الإنس والجنِّ خصوصُ المؤمن ـ بغضِّ النظر عن المعنى الخاص للمؤمن، وهو لا يشمل غير الإمامي الإثني عشري ـ وهو ما لم يكن معصوماً، فلا يخلو قلبُهُ عن بغضٍ لمؤمن آخر، ولو لأجل ما يأتي به الآخر.

على أنَّ هناك الكثيرين من المؤمنين ـ وكل الناس يعرف هذا ـ مَن لا تنتهي المنازعات فيما بينهم، وقد أدَّت وما تزال ليس إلى عدم المحبة بل إلى حروب وحروب، بل حصل هذا وما زال بين مؤمنَيْن من نفس الأب والأم، وحصل وهو حاصل بين مؤمنين من نفس القبيلة ومن نفس العائلة وهكذا.

وعليه فلم يكن المولى سبحانه، قد جعل المودة لكل مؤمن في قلب كلِّ مؤمن، فإنَّ التباغضَ حاصلٌ وواقعٌ ولا يُنكره أحدٌ.

على أنه لا نحتمل أنه سبحانه سيجعل في قلوب المؤمنين المحبةَ لباقي المؤمنين مهما أتوا به، وهم معرَّضون للوقوع في المعاصي، والمؤمنُ لا محالةَ يُبغِضُ المؤمنَ الآخر حالَ تلبُّسه بالمعصية.

أما بالنسبة إلى الملائكة، فلا يمكن أن نُصدِّق بأنهم يُحبُّون جميعَ المؤمنين، فإنَّ من بين المؤمنين مَن يتلبَّس بالمعاصي الكبيرة كالقتل مثلاً والعياذ بالله تعالى، ولا نعرف أنَّ الملائكةَ تحبُّ الباطلَ، أو تُحبُّ مَن كان متجسِّداً فيه الباطلُ حال تجسُّده فيه فعلاً.

وأما بالنسبة لسائر الخلق، فقد عرفت أنهم إما حالهم كحال الملائكة، أو كحال الإنس والجان.

وعليه فننتهي إلى نتيجةٍ حاصلها، أنه سبحانه لم يجعل المحبةَ والمودةَ لكلِّ مَن آمن عند جميع المخلوقات.

ولكنَّ الآيةَ تتحدثُ عن أنه سبحانه قد فرغ عن جَعْلِ المحبة والمودة، وأنت تعرف أنَّ المولى سبحانه إذا أراد شيئاً كان ولا رادَّ له، وقد شاء وأراد أن يجعل المحبة للذين آمنوا وقد جعلها.

وأنت تعرف أيضاً، أنَّ ما يجعله اللهُ تعالى ليس يُشبِه ما يجعلُه غيرُه، فإنَّ غيرَ المولى إذا جعل شيئاً لا محالةَ سيتبدل ويتغيَّر تبعاً لتبدُّل الحالات والعوارض وما إلى ذلك، ولكنْ ما يجعله تعالى فهو راسخٌ ثابتٌ، مهما حاول الآخرون وكائناً مَن كانوا، لِهَدْم ذاك البنيان الراسخ.

وهنا لا بُدَّ وأن نرجع إلى وجداننا من جهة، وإلى قراءة التاريخ من جهة ثانية.

فهل يمكن لسلاطين وجبابرة الدنيا أو لأموال وكنوز الدنيا، أن ترفعَ حبَّ عليٍّ (عليه السلام) من قلوب محبيه، أو أن تقلِب محباً لعليٍّ إلى مُبغِض له؟

لا مجال لنا لأن نُورد ما لا يُحصى من الشواهد القطعيَّة، على أنَّ حبَّ عليٍّ وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) في قلوب شيعتهم، لا يهزُّه ولا يُزلزِلُه شيءٌ مهما بالغ المبالغون في تصويره، وهذا أمرٌ يعرِفُه كلُّ شيعيٍّ، والتاريخُ الحافلُ بعشرات الآلاف من التضحيات فداءً لعليٍّ ولأبرار عترته وفي حبهم شاهدُ صدقٍ، والشاهدُ منه وفيه.

ويكفي لنا أنَّ مولى المتقين وأمير المؤمنين علياً (عليه السلام) قد شهد لشيعته ومحبيه بحق قال: لو ضربتُ خيشومَ المؤمن بسيفي هذا على أن يُبغضني ما أبغضني، وبعد أن وصلتُ بالكتابة إلى هنا، وبينما أبحثُ عن قولِ أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنقله بلفظه من المصادر، فإذا بي يُطالعني كلامُ الشيخ الطبرسي في تفسير الآية قائلاً: ويُؤيِّد القولَ الأول، ما صحَّ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) لو ضربت خيشوم المؤمن..... ألخ
البلاغة ج 4 ص13، مجمع البيان ج6 ص 455، إعلام الوري بأعلام الهدي ج 1 ص 371

ولو لم يكن لنا في المقام إلا قولُ أمير المؤمنين (عليه السلام) لكفى، على أننا لا نعرف أحداً ولا يعرف التاريخُ أمةً، إلا وفيها مَن يبيعون مودتَهم لعظمائهم رغبةً في درهم أو دينار، أو لأيِّ شأنٍ من شؤون دنياهم، بل وفيها مَن لا يعنيهم كبيرٌ أو عظيمٌ لهم مات أو قُتل، بل وفيها مَن يُسرِعُ إلى البراءة ممَن يُحبُّونه رهبةً من شيءٍ، أو رغبة في شيءٍ آخر.

ولكنْ ليس في شيعة عليٍّ وفي محبي عليٍّ (عليه السلام)، إلا مَن يُضحي ويفدي علياً (عليه السلام) بنفسه وأهله وولده، بل ويفديه بمَن في الأرض جميعاً.

ونحن في هذه الآية لن نُورِد ولن ننقل إلا ما رواه أبناء السُّنة ومن طرقهم.

فقد أخرج الطبراني في المعجم الأوسط والكبير والحاكم الحسكاني في الشواهد ـ وهما من أبناء السُّنة ـ بإسنادهما عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال: نزلت في عليٍّ (عليه السلام){إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} قال: محبة في قلوب المؤمنين.

أقول: وأخرجه الحسكاني أيضاً، وفرات الكوفي في تفسيره بإسنادهما عن الحكم عن ابن عباس، ورواه الواحدي ـ وهو من أبناء السُّنة ـ في تفسيره عن عطاء عن ابن عباس، كما عن فرائد السمطين وكما عن نظم درر السمطين.

وأخرج الحاكم الحسكاني في الشواهد، بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعليِّ بن أبي طالب (عليه السلام): يا عليُّ، قلْ ربِّ اقذف لي المودةَ في قلوب المؤمنين، ربِّ اجعل لي عندك عهداً، ربِّ اجعل لي عندك وداً، فأنزل الله تعالى{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} فلا تلقى مؤمناً ولا مؤمنةً، إلا وفي قلبه ودٌّ لأهل البيت(عليهم السلام).

أقول: وأخرجه الحسكاني أيضاً بإسناده عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبإسناده عن أبي رافع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وأخرجه الحاكم أيضاً، والثعلبي في تفسيره، والعاصمي في زين الفتى، وابن المغازلي في مناقبه ـ وهؤلاء من أبناء السُّنة ـ، بإسنادهم عن البراء بن عازب مثله.

وأخرج الحافظ السلفي، والحاكم الحسكاني ـ من أبناء السنة ـ ومحمد بن سليمان في المناقب، وفرات الكوفي في تفسيره، بإسنادهم عن محمد بن الحنفية في قوله تعالى (عليه السلام){إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} قال: لا تلقى مؤمناً، إلا وفي قلبه مودةٌ لعليِّ بن أبي طالب (عليه السلام).

وأخرج الحاكم بإسناده عن عون بن سلام الهاشمي، وبإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس ـ ومثله الحبري في تفسيره ـ في قوله تعالى (عليه السلام){سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} قال: حبُّ عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) في قلبِ كلِّ مؤمن، وأنها نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام).

وقال السيوطي في الدر المنثور: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس، وأخرج هو والديلمي ـ وهؤلاء من أبناء السنة ـ عن البراء، أنَّ الآية نزلت في علي (عليه السلام) كما تقدم.

أقول: وأما ما ورد في كتبنا، ومن طرقنا فأخبار كثيرة، فراجع
 شرح الأخبار ج1 ص158، الأربعون حديثاً 66 ـ 67، بحار الأنوار ج39 ص 289 ـ 291 وج40 ص 61، الغدير ج2 ص55 ـ 56، البرهان في تفسير القرآن ج 5 ص 148 إلى 152، تفسير العياشي ج 2 ص 141 ـ 142، تفسير القمي ج 2 ص 56، تفسير فرات الكوفي ص 248إلى253، تفسير مجمع البيان ج 6 ص 454 ـ 455، خصائص الأئمة ص 71، مناقب آل ابي طالب ج 2 ص 289، روضة الواعظين ص 106، الفضائل ص 124ـ 125، خصائص الوحي المبين 132 ـ 133، العمدة ص 289، كشف اليقين ص 356، تأويل الآيات ج1 ص 308 ـ 309، مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي الزيدى المذهب ج 1 ص 193 ـ 195.

وأما مصادر السُّنة فنذكر منها: ذخائر العقبى ص 88 ـ 89، المعجم الكبير ج 12 ص 96، المعجم الأوسط ج 5 ص 348، المناقب للخوارزمي ص 278 ـ 279، شواهد التنزيل ج 1 ص 55 ـ 57 و463 إلى 477، نظم درر السمطين ص 85، زاد المسير ج 5 ص 186، تفسير القرطبي ج 11 ص161، الدر المنثور ج 4 ص 287، فتح القدير ج 3 ص 353، ينابيع المودة ج 2 ص 177و360 و456، تفسير جامع البيان ج 16 ص 166]


هذا، وأما ما أخرجه ابن جرير وغيره من أبناء السُّنة، بإسنادهم عن عبد الرحمن بن عوف، من أنَّ الآية نزلتْ في عبد الرحمن بن عوف بعد أن هاجر إلى المدينة ـ فمضافاً إلى أنَّ راوي الخبر وهو يعقوب بن محمد الزهري وقد ضعَّفه أئمة أبناء السُّنة كأبي زرعة، وحجاج بن الشاعر، وأحمد بن حنبل، والساجي، وابن عدي، والعقيلي، بل وعن الذهبي في ميزان الاعتدال أنَّ ابن معين قال عنه ليس بشيء ـ فإنه يكفينا ما عن ابن كثير في تفسيره حيث قال: وهو خطأٌ فإنَّ هذه السورة بكمالها مكيَّةٌ، لم ينزل منها شيءٌ بعد الهجرة، ولم يصحَّ سندُ ذلك
 تفسير ابن كثير ج 3 ص 148، الكامل في ضعفاء الرجال ج7 ص 149، ضعفاء العقيلي ج 4 ص 445، ميزان الاعتدال ج 4 ص 454

أقول: وقد نقلنا هذه الأخبار ومن كتب أبناء السنة ومن روايتهم، ولا أدري ما كان يمنع السيد محمد حسين من نقلها أو الإشارة إليها؟ مع أنَّ مَن رواها من العامة صححوها، والروايات كثيرة وطرقها متعددة جداً.

وهل ترى بأنَّهم قد وضعوا واخترعوا هذه الأخبار في حقِّ أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام)؟!!

وهل سطروها في كتبهم تقيةً من سلطان الشيعة، والسلطان معهم والقوة لهم، وسلاطينهم ومن اليوم الأول مُبغِضون لعليٍّ ولآل عليٍّ (عليهم السلام)؟!!

وما بالُ محققي الشيعة قد أوردوا هذه الأخبار في العشرات من كتبهم؟!!

العودة