الآية الحادية والأربعون قوله تعالى:‏ ‏{وَأن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ‏ لاَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً}‏ سورة الجن الآية 16‏

     

 قال المفسِّر المعاصر: {وَأن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِْ} الحقَّة في ما تُخطِّطُ له شريعةُ الله من ‏التشريعات التي تُحدِّدُ للناس حقوقَهم وواجباتهم فلا يطغى‎ ‎أحدٌ في حقوقه، ولا يضيع في واجباته، ‏وفي ما تُثيِرُه العقيدةُ في أسلوبها التربوي الإيحائي من اختلاف وروحيَّاتٍ وأفكار، تجعل من ‏الإنسانِ المسؤولَ عن الحياة، فلا يحاول أن يُسيء إليها أو يُفسِد فيها، أو يبتعِدَ عن الخطِّ الذي أراد ‏الله لها أن تسير فيه(1).‏
أقول: إنَّ مشكلة أهلِّ الحقِّ مع أصحاب البدع والأهواء، يكمُنُ في سلوك أهلِ الباطل مسلَكاً مغايراً ‏ومخالِفاً للمسلك الذي يسير عليه أهلُ الحق.‏
وهذا، إما يرجعُ إلى عدم تشخيصهم ما هو الحقُّ فيقعوا في الفساد، وإما إلى تعمُّدهم اختيار الباطل ‏لخُبْثِ سريرتهم، وسوءِ نيَّاتهم.‏
وإذا ما كان الحقُّ واضحاً بيِّناً، فإنَّ سلوكَ الآخر للمسلك الباطل يكشف عن أنه مُبدِعٌ متَّبِعٌ للهوى، ‏بخلاف ما لو كان يكتنِفُ الحالَ بعضُ الغموض الناشئِ من أسباب كثيرة والتي منها: تقصير مَن ‏يدَّعون الانتسابَ إلى الحقِّ، في توضيح المطلبِ، وإقامةِ الحُجَّة والبرهان.‏
ومن هنا، وجبَ على كلِّ مُتَّبِعٍ للحقِّ معتقِدٍ فيه، أن يُقِيم الحُجَّة على المنكِر بحسب ما يملِكُهُ من ‏علم ومعرفة، فإنَّ النزاعَ قائمٌ ومن اليوم الأول وباقٍ ما بقيت الدنيا، فلا هدنةَ ولا صلح.‏
وكان من البديهي بمكان، أنَّ إقامةَ الحُجَّة على الآخرين والتصدي لهدايتهم، لا يكفيه التكلُّمُ ‏بالمجْمَلات والمطلَقات كما هي طريقة السيد محمد حسين في ما لاحظناه وإياك أيها القارئ ‏الكريم، بل الغرضُ لا يحصل وفي أغلب المواقع، إلا بالتصدِّي إلى التشخيص في الواقع ‏الخارجي.‏
وحيث إنه تعالى إنما خلقَ الإنس والجن ليعبدوه، فكان من الضروري أن يُبيِّنَ سبحانه ما يُحبُّه ‏ويرضاه ويرغب فيه، وما يُبغِضُهُ ويُسخِطُهُ، حتى يتمكنَ المخلوقُ من تحقيق الغرض الإلهيِّ ‏الباعث على الخلق.‏
ذلك أنَّ عبادته تعالى لا تكون إلا من خلال التزامِ أوامره ونواهيه، والأوامر والنواهي ليست ‏معلومةً إلا بتوسُّط الوحيِ الإلهيِّ، وقد وجب اتباع الأنبياء والانقياد للأولياء الواقفين على حدود ‏الله تعالى فيما يُحبُّهُ ويُسخِطُهُ.‏
لهذا ولغيره، احتاج الأمرُ إلى قائدٍ للمسيرة يُبيِّنُ اللهُ تعالى للناس من خلالِه تعاليمَه، ويكونُ اتِّباعهُ ‏والرجوعُ إليه علامةَ رضاه سبحانه، وهذا ما قد أشرنا إليه عند البحث في آية الصراط المستقيم ‏ولا حاجة للإعادة.‏
ثم إنَّ المجتمع الذي يُطبِّقُ أحكامُ الله تعالى، هو المجتمع الذي خلا عن كلِّ ظلمٍ، وتحلَّى بكلِّ حقٍّ، ‏ومثلُ ذاك المجتمع لا يُتصورُ فيه إلا الخيرُ المحضُ، إن فيما يخصُّ الشخصَ نفسَه، أو فيما يعني ‏الأمةَ كأمةٍ.‏
وقد علمنا أنَّ هذا لا يتحقَّقُ إلا بوجود قَيِّمٍ مبسوطِ اليد، صادقِ مخلِصٍ مخلَص، عالِمٍ بالحقِّ في ‏جميع مواقعه، عادلٍ في حكمه ومع ربِّه ونفسه، مرتبطٍ بالحقِّ تعالى وهو يُسدِّدُهُ، بعيدٍ عن الباطل ‏في كلِّ شؤونه، آمنٍ من تسويلاته وخِدَعِهِ ومكرِهِ.‏
ومتى لم يكن الرئيسُ عادلاً، فلا نتوقَّعُ من مجتمعه عدلاً، وما لم يكن الرئيسُ حقاً، فلا يبغي الحقَّ ‏من مجتمعه إلا الأحمقُ.‏
وإذا ما كان الحقُّ تعالى ليس عنده إلا الحقُّ، وهو الخيرُ كلُّهُ، ومِن عندِه الخيرُ كلُّهُ، فلا بُدَّ وأن ‏يكون في المخلوق مانِعٌ عن دَرْكِ الخير والسعادة، وهو يتمحضُ في وجود الظلم فيه وفي مجتمعه ‏وعلى أرضه.‏
ومتى ما خلا الواقعُ عن الظلم والطغيان، فلا يكون من الجوادِ الحقِّ الكريمِ سبحانه، إلا وأن يجود ‏على أهل مملكته وهو الجواد، وأن يرحمهم وهو الرحيم، حيث لا وجودَ للمانع عن قبول الخير ‏الإلهيِّ في كلِّ أنحائه ومظاهره.‏
وعلى خلاف ذلك، فكلما كان الطغيانُ سائداً والظلمُ حاكماً، فإنَّ الناسَ سيعيشون حالةَ الاضطرابِ ‏والذُّعرِ، وسَيَشْكُون في المقابل من سوءِ المآلِ وتقلُّبِ الحال.‏
ولا تظنُّ أنك تستطيعُ أن تُبطِلَ مقولاتِنا بما يتراءى لك من وجود عيشٍ صالح من الوجهة الماديَّة ‏في بعض المجتمعات المليئة بالطغيان والفساد، إذ إننا نُنكِر أولاً وجودَ عيشٍ مستقِرٍّ لأبنائه، ولإن ‏وُجد في زاوية ضيِّقةٍ فيه، فإنك ترى في زواياه الأخرى العكسَ من ذلك.‏
وثانياً: هناك آثارٌ تكوينيَّة لما يسلِكُهُ مجتمعٌ هنا في صدقِ معاملةٍ، أو إحسانٍ لمسكينٍ، وما شاكل ‏مما ينعكسُ ذلك بآثاره على المجتمع كلِّه، فترى فيه شيئاً من العيش الهنيء من منظورهم.‏
وثالثاً: إننا نتحدث عن المجتمع الذي لا ظلمَ فيه ولا طغيانَ، ليس من الإنسان فقط، بل من جميع ‏ما يُحيطُ به، وما تلك الأعاصيرُ والبراكينُ والزلازلُ إلا بعضاً من آثار طغيان الطبيعة المسبَّب ‏عن طغيان الإنسان.‏
إننا نتحدث عن مجتمع يسوُدُه الحقُّ والخير، وأيُّ مجتمع في هذه الدنيا فيه حقٌّ مطلق وعام، أو ‏خير شامل؟
إننا نتحدث عن مجتمع آمانٍ مطمئنٍ، متحابٍّ متعاون، تقوم العلاقاتُ فيما بين أبنائه على قواعد ‏الشرع الحنيف، فإنَّ الحقَّ لا يُعلَمُ إلا من جهته.‏
ومهما يكن فلسنا في مقام إقامة الحُجَّة على غير المتديِّن بدين الإسلام والمعترِف بالقرآن الكريم، ‏على أنَّا إن شاء الله تعالى بمقدورنا ـ طبعاً ليس فعلاً فإننا نفتقر للمصادر ـ أن نُقِيم الحُجَّةَ عليهم ‏بما توصَّلوا إليه من خلال البحوث والتجارب العلميَّة.‏
وحيث إنَّ القرآن يُصرِّح بارتباط السعادة في هذه الدنيا بسلوك الطريقة الحقَّة، فإننا ومن هذه الآية ‏تتمُّ لنا الحُجَّةُ على كلِّ مخالِفينا في العقيدة.‏
فإنَّ الاستقامةَ على الطريقة لا يحصل مع عدم وجود مَن يدلُّ عليها ويهدي إليها ويذبُّ عنها وفي ‏كلِّ زمن، وما لم يكن القَيِّمُ والقائمُ هو نفسه على الطريقة الحقَّة، فلن يُفلِح في إنجاح سُؤلِه ‏ومأمولِه، بل كيف تكون غايته إقامة الحق وتشييد أركانه، وهو يجهل الحقَّ في بعض مواقعه ‏تارة، ولا يسلكه في بعضها الآخر؟!‏
وما لم يكن القائمُ والقيِّمُ معصوماً مسدَّداً مؤيَّداً من المولى سبحانه، فأيَّةُ استقامةٍ يرتجيها عاقلٌ من ‏مجتمعه، وفي قومه وأهل بلده؟!‏
فإنَّ الطريقةَ المشار إليها في الآية، ليست إلا تعبيراً آخر عن الصراط المستقيم، وقد عرفت فيما ‏مضى أنَّ الصراطَ المستقيم، ليس عبارة عن خطٍّ وهميٍّ، وإنما هو سلوكٌ ودينٌ، ومنهَجٌ وعقيدة، ‏يُمثِّلُها أصحابُ الصراط، وبهم تتِّمُ الحُجَّةُ، وتقوم البيِّنة.‏
ولا نحتمل من المولى تعالى، أن يأمر الناس بسلوك الطريق المستقيم ولمَّا يُوضِّح لهم حقيقتَه، أو ‏يُبيِّن لهم معالِمَه وحدودَه.‏
وليست معالِمُهُ أسطراً على ورق أو كلمات في كتب، وإنما هو نهج ينتهِجُهُ أهلُهُ وروَّادُهُ، فيُؤمَر ‏الناسُ باتِّباعهم والانقياد إليهم، لِيُوضِّحوا لهم ويُقِيموا حقاً هنا، ويُبطِلوا ويدحضوا باطلاً هناك.‏
ولن نظنَّ به سبحانه أن يحثَّ الناس على الاستقامة على الطريقة، ولا يكون في الناس مَن يكون ‏مستقيماً بصدقٍ، عالِماً بحقٍّ، لِيرجِعَ إليه طلابُ الحقِّ، ويسلكوا مسلَكَه.‏
وأرى أن نختصر الطريق لنعودَ إلى واقع المسلمين بعيد رحيل سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله) ‏إلى الرفيق الأعلى، فبالله عليك عن أيَّةِ طريقةٍ يتحدث القرآنُ الكريم؟
هل تراه يتحدث عن القرآن نفسه، ولا يسع الإنسانُ الأوحديُّ أن يتعرَّف على مواقع الحقِّ من ‏خلاله؟! حيث إنه سبحانه لم يشأ أن يُعرِّف الناسَ الحقَّ في جميع تفاصيله من خلال القرآن للناس ‏كلِّهم، بل جَعَلَ ذلك بتوسُّط الرجوع إلى أهلِ الذكر الراسخين في العلم.‏
أَوَ هل ترى القرآن يتحدث عن اتِّباع الصحابة وفيهم المنافق بنصِّ القرآن الكريم {وَمِن أَهْلِ ‏الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاق}(2)، وفيهم الجاهلُ بإقرارهم أنفسهم، وفيهم الوضيعُ والرفيعُ، ومتى ‏اتفقت كلمتُهم، ومتى توحَّدت مشارِبُهم؟!‏
أَوَ تراه يتحدث عن اتِّباع آحادهم، ومن دون أن يُعيِّن الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ‏أعيانَهم، فيؤول الأمرُ إلى هرجٍ ومرجٍ؟!‏
أَوَ تراه يتحدث عن الشورى الباطلة، ومتى كان أهلُ الحجى مسموعَةً كلمتُهُم، مرجوعاً إليهم؟!‏
وهب أنهم تشاوروا، فهل إنَّ الحقَّ يُعرف بالإنتخاب والتصويت من جانب الكثرة وقد قال سبحانه ‏‏{وَقَلِيلٌ مِن عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(3)، وهل تَوَحُّدُ جهودِ الجاهلين تُنتِجُ علماً، وهل اجتماع مَن يمكن أن ‏يقعوا في الباطل تُولِّدُ حقاً؟!!‏
بل المولى سبحانه أرحمُ وألطفُ، فقد دلَّهم على الطريقة، وهداهم إليها، ونَصَبَ لهم أعلاماً عليها، ‏لكنهم تبَّاً لهم ارتدُّوا القهقرى، منعوا أهلَ الحقِّ من قيادة الأمة، فعاثوا في الأرض فساداً، والعاقبة ‏للمتقين.‏
ومما تقدم تعرف، كيف أنَّ الأخبار وردت عن أئمة العترة الطاهرة (عليه السلام) مفسِّرةً للطريقة ‏في الآية التي نبحث فيها بالولاية لأمير المؤمنين والأئمة من آله (عليهم السلام)، فإنه ما لم يعتقد ‏الإنسانُ بإمامتِهم ولزومِ اتِّباعهم، لهو عن الهدى زائِغٌ، وبالباطل واقِعٌ.‏
وإنَّ جميع ما مر عند البحث في آية الصراط المستقيم بل وكثير من الآيات السابقة، يشهد لما نحن ‏فيه، ويزيد عليه هنا ما أخرجه محمد بن العباس في تفسيره، بإسناده عن سماعة قال: سمعت أبا ‏عبد الله (عليه السلام) يقول: في قول الله عزَّ وجل {وَأن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً ‏غَدَقاً} قال: يعني استقاموا على الولاية.‏
وأخرج علي بن إبراهيم القمي ومحمد بن العباس وفرات الكوفي في تفاسيرهم، عن جابر قال: ‏سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول في هذه الآية {وَأن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً ‏غَدَقاً} على الطريقة يعني على الولاية.‏
وفي مناقب ابن شهرآشوب: عبد العظيم الحسني بإسناده إلى جعفرالصادق (عليه السلام) في قوله ‏تعالى {وَأن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} والطريقة هي ولاية عليِّ بن أبي ‏طالب والأوصياء (عليهم السلام).‏
وأخرج الكليني في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى {وَأن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى ‏الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} قال: يعني لو استقاموا على ولاية عليِّ بن أبي طالب أمير المؤمنين ‏‏(عليه السلام).‏
وأخرج فرات في تفسيره عن علي بن محمد بن علي بن عمر الزهري معنعناً عن أبي عبد الله ‏‏(عليه السلام) في قوله تعالى {وَأن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} قال: لو ‏استقاموا على ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام).‏
وأخرج محمد بن العباس في تفسيره بإسناده عن بريد العجلي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام ‏عن قول الله عزَّ وجل {وَأن لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً}؟ قال: يعني على ‏الولاية(4).‏


-------------------
‏(1) من وحي القرآن ج 23 ص 159.‏
‏(2) سورة براءة الآية 101. ‏
‏(3) سورة سبأ الآية 13.‏
‏(4) مسائل علي بن جعفر الصادق × ص 330 ؛ الكافي ج 1 ص 220 و419 ؛ مختصر بصائر الدرجات ص 168 و174 ؛ مناقب ‏آل ابي طالب ج 3 ص 443؛ بحار الأنوار ج2 ص151 وج 5 ص 234 وج 24 ص 26 إلى29و101 و110 وج 25 ص 24 وج ‏‏36 ص 89 ؛ تفسير القمي ج 2 ص 389 و391 ؛ تفسير فرات الكوفي ص 509 إلى512 ؛ تفسير مجمع البيان ج 01 ص 151 ؛ ‏التفسير الصافي ج 5 ص 236؛ التفسير الأصفى ج 2 ص 1363 ؛ تفسير نور الثقلين ج 5 ص 438 ؛ تأويل الآيات ج 2 ص 727 ‏ـ 728 ؛ الصراط المستقيم ج1 ص 289. ‏

     

فهــرس الكتــاب

     

ضلال نت