الآية الخامسة قوله تعالى { إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } سورة الحِجر الآية 75

     

 قال السيد محمد حسين فضل الله في تفسيره: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} الذين ينظرون إلى الوقائع والأحداث والأشخاص نظرةَ تأملٍ وفراسةٍ وتدقيقٍ، بحثاً عن المعرفة حتى تتضح لهم السمات البارزة للأشياء في العمق، وهكذا يريد الله لهؤلاء أن ينطلقوا في استيحاء الدرس الذي تضمنه هذا العذاب الذي نزل بهؤلاء المتمردين المنحرفين، ليعتبروا به في حياتهم الخاصة، وفي حياة الآخرين الذين يمارسون ما مارسه هؤلاء من انحراف(1) .

أقول: قد ثبت من طريق الفريقين، أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: اتقوا فراسةَ المؤمن فإنه ينظر بنور الله.

وإنَّ من البداهة بمكان، أنَّ مَن ينظر بنور الله تعالى فلا محالة لن يضِلَّ به السبيلُ، ولن تشتبه عليه الأمورُ، ولا يكاد يخفى عليه ما يخفى على كثير من الناس.

وهذا المعنى، يختلف فيه الشأنُ بين شخص وآخر، بل بين حالات نفس الشخص الواحد، تبعاً لتفاوت حالة الصفاء بين أصحاب القلوب، وقضاءً لما يفرِضُه واقعُ الأمور الخارجية التي قد تطرأُ على الشخص نفسِه، مما تُؤثِّر عادةً على حالة الصفاء عنده.

وفي كثير من الأحاديث والآثار الواردة عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وآله الأبرار (عليهم السلام)، إشاراتٌ جليلةٌ جليَّةٌ، ولعلَّ الغرضَ منها أو من الأغراض هو الحثُّ على لزوم الجادَّة، وليتأتَّى للمطيع درْكُ سعادةِ الدارين.

وفي المقابل، ورد أنَّ المؤمنَ إذا صدرت منه معصيةٌ كان من آثارها حدوثُ نَكتةٍ سوداء في قلبه، وهي إما أن تتَّسِع حتى تستوعِب القلبَ كلَّه، فيُحجَب بنحو مطلق ويُمنع عن دخول الحضرة الإلهيَّة المقدسة، وإما أن يتبَعَها توبةٌ صالحة بنيَّةٍ صادقة، فيزولَ ذاك السوادُ، وإن كان يبقى بعضُ الغشاوة، فإنَّ المرآةَ الصافية ليست كتلك التي عرضها بعضُ الصدأ وإن أُزيل.

وقد تحقَّق في محله أنَّ النفسَ الإنسانية المجرَّدة، بوسعها الترقي في أعلى مراتب الكمال، ليحصلَ لها الشهودُ الحق، وتنكشِف من أمامها الحُحُب، فلا يوجد عندئذ مانعٌ عن الرؤية والإدراك، قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (2) ، فتدرك بعين قلبها ما لا تدرِكُه العينُ المحسوسة، لأنَّ موانِعَ الرؤية لدي العين المحسوسة كثيرة، وشرائطُ الرؤية بالعين العاديَّة ما لم تحصل فلن تحصل الرؤيةُ بالبداهة.

والنفسُ الناطقة والقلبُ المطمئن لا يُحجبان البتة، ما لم يصدر من الشخصِ ما يُوجِب الحرمان، وقد علمنا أنَّ الذي يُوجب الحرمان هو الذنب، قال تعالى: {كَلاَ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (3).

والعينُ وإن لم تتأثَّر، ولكنَّ القلبَ هو الذي يتأثَّرُ، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (4) .

وهذا يعني أنَّ من آثار الطاعة بلوغَ الإنسان للكمال، فلا جهلَ يعتريه، وكيف يعتريه جهلٌ والعلم من الله تعالى، ولا يصيبه خوفٌ، فإنَّ الأمن من الله سبحانه، ولا يصيبه... ولا...

وبما أنَّ الحقَّ بجميع تفاصليه وتمام جوانبه وحيثياته عند المولى سبحانه، وبما أنَّ خزائنَ العلم وبأيِّ شيء تعلَّق العلم عنده تعالى، فهذا يعني أنَّ كلَّ قريب منه سبحانه، يحوي ويعلم ما لا يمكنُ الحصولُ عليه لمَن كان بعيداً.

وكلما كان العبدُ أقربَ، كلما قوِيَتْ بصيرتُه، واشتدَّتْ عزيمتُه، وزكتْ نفسُه، وصفتْ حواسُه، وتجلَّت له من المعارف والأسرار ما يُبهِر العقول.

أَوَ ليس المولى سبحانه هو الكريمُ الجواد.

أَوَ ليس هو الغنيُّ المطلق، فكيف يبخل عمَن هو قريبٌ منه، طالبٌ إياه، راغبٌ فيما عنده؟!

وهو تعالى شأنه القائل: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (5)، والقائل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (6).

نعم، هو أبداً سبحانه لا يبخل، ولكنَّ المخلوق مَن يحجب نفسَه، ويمنع نزولَ الخير عليه واستقرارَه لديه، وقد قال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} (7).

ولا أظنُّ أنَّ ما ألمحنا إليه مما يحتاج إلى برهان عليه، على أنَّ ما ذكرناه من الآيات فيه الكفاية، والمقدار الذي ذكرناه ليس إلا محضَ إشارة بسيطة.

فتلخَّص، أنَّ تفرُّسَ المؤمن وتوسُّمَه وسعةَ دائرة إدراكاته وخلوها عن الشوائب، كل ذلك يتبعُ الأرضَ التي هيأها لنزول الرحمة.

فكلما كان القلبُ صافياً، كلما تجلَّت له الأنوارُ، وانقشعت من معارفه الأوهام، وكلما ازداد صفاءً ازدادتْ وقَوِيتْ واشتدتْ ملكتُه، إلى أن يغدو ولياً من أولياء الله تعالى، فلا يحتاج إلى معلِّمٍ إلا الله سبحانه.

وقد نعرف من الناس مَن شذَّ ما يُخطِأ حدسُه، وقلَّما يخِيبُ ظنُّه، فكيف بالأولياء الكمَّل، بل كيف بسادة الأولياء سيدنا محمد وآله البررة صلوات الله ربي وسلامه عليهم أجمعين.

وأما ما ادعاه السيد محمد حسين فضل الله «من أنَّ المتوسمين ينظرون..ألخ فإنه كلامٌ يفقد الدليلَ عليه شرعاً وعقلاً، بل قام الدليلُ على بطلان ما ذكره، ومَن الذي قال له: بأنَّ المتوسمين ينظرون بحثاً عن المعرفة؟!

هذا وقد أخرج الثوري والطبري في تفسيريهما بإسنادهما عن مجاهد في قوله إن في ذلك لآيات للمتوسمين قال للمتفرِّسين.

وعن ابن الجوزي في زاد المسير: وبه قال ابن قتيبة.

وعن السيوطي في الدر المنثور: وأخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن محمد ـ الإمام الصادق (عليه السلام) ـ في قوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قال: هم المتفرِّسون.

وعنه أيضاً: وأخرج البخاري في تاريخه، والترمذي في سننه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن السني وأبو نعيم معاً في الطب، وابن مردويه، والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اتقوا فراسة المؤمن، فانه ينظر بنور الله، ثم قرأ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قال: المتفرسين.

وأخرج الصفار في البصائر بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اتقوا من فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، ثم تلا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}.

وأخرج الصدوق في الخصال بإسناده عن سليمان بن مهران عن أبي عبد الله جعفر بن محمد ’ قال: عشر خصال من صفات الإمام:... والتفرُّسُ في الأشياء، قال الله عزَّ وجل {إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}.

وأخرج الشيخ الطوسي في الأمالي بالإسناد عن الباقر (عليه السلام): اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، ثم تلا هذه الاية {إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} (8).

وورد من هذا القبيل الشيء الكثير، وعليه فصار معنى التوسُّم وأنه التفرُّسُ مروياً من طرق الفريقين ـ السُّنة والشيعةـ، ويكفي أنه ثابت عن سادتنا (عليهم السلام).

هذا وقد أخرج الحاكم الحسكاني ـ وهو من أهل السُّنة ـ بإسناده عن عبد الله بن بنان قال: سألت جعفر بن محمد ’ عن قوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قال: رسول الله أولهم، ثم أمير المؤمنين ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي ثم الله أعلم، قلت: يا ابن رسول الله فما بالك أنت؟ قال: إنَّ الرجلَ ربما كنَّى عن نفسه.

وبإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}قال: هم الأئمة.

ورواه محمد بن سليمان الكوفي في مناقب أمير المؤمنين بإسناده عن موسى بن عبد ربه عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) (في حديث) أنَّ عمرو بن حريث قال لأمير المؤمنين (عليه السلام) ما نعرفك بالكهانة! قال له: يا عمرو ويلك، إنها ليست بالكهانة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو المتوسِّم، ثم أنا من بعده، والأئمة من ذريتي من بعدي هم المتوسِّمون.

أقول: وأخرج هذا الخبر الصفار في البصائر، والعياشي وفرات في تفسيريهما، والشيخ المفيد في الاختصاص، ورواه الكليني في الكافي مختصراً، ورواه الصفار أيضاً بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام)، وبإسناده عن الأصبغ بن نباتة، وبإسناده عن الحارث الأعور، وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي في مناقب أمير المؤمنين بإسناده عن موسى بن عبد ربه.

وأخرج محمد بن سليمان الكوفي في المناقب، والحاكم الحسكاني في الشواهد، بإسنادهما عن أبي مريم قال: سألت الحكم بن عتيبة عن قول الله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قال: قلت ما المتوسمون؟ قال: كان محمد بن علي ـ الباقر(عليه السلام) ـ منهم.

وأخرج ابن عساكر ـ وهو من أبناء السُّنة ـ في تاريخ دمشق بإسناده عن سفيان عن سلمة بن كهيل في قوله تعالى{إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قال: كان أبو جعفر ـ الإمام الباقر (عليه السلام) ـ منهم.

وأخرج الصدوق في علل الشرائع بإسناده عن الربيع بن عبد الرحمان قال: كان والله موسى بن جعفر ’ من المتوسمين.

وأخرج الصفار في البصائر، والكليني في الكافي، بإسنادهما عن أسباط بن سالم قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام)، فدخل عليه رجلٌ من أهل بيته، فقال: أصلحك الله، قول الله في كتابه{إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قال: نحن المتوسمون والسبيل فينا مقيم.

وأخرج الصفار والكليني بإسنادهما عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزَّ وجل {إِنَّ فِي ذَلكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} فقال: هم الأئمة (عليهم السلام)، وإنها لبسبيل مقيم قال: لا يخرج منا أبداً.

أقول: وورد بالإسناد عن سلمان الفارسي، وعن الأصبغ بن نباتة، وعن عبد الرحمن بن كثير، وعن بكار كردم، وعن عيسى بن سليمان، وعن معاوية الدهني، وعن سليمان، وعن محمد بن حرب الهلالي، وعن أبي بكر الحضرمي، وعن معروف بن خربوذ، وعن علي بن أسباط، وعن الحسن بن الجهم، وعن عبد الله بن عجلان، وعن عبد الرحمن بن سالم الأشل، وعن أبي بصير (9).

أقول: وهكذا يثبت ومن خلال عشرات الروايات والأخبار، أنَّ المتوسِّمين هم خصوص الأئمة (عليهم السلام)، وعليه فهل يصحُّ أن نقول: «الذين ينظرون إلى الوقائع والأحداث والأشخاص نظرةَ تأملٍ وفراسةٍ وتدقيقٍ، بحثاً عن المعرفة حتى تتضح لهم السمات البارزة للأشياء في العمق»؟! كما ذكر ذلك السيد محمد حسين في تفسيره، وقد نقلناه فيما سبق.

فهل أنَّ الأئمة (عليهم السلام) ممَن ينظرون نظرةَ تأمُّلٍ بحثاً عن المعرفة؟!



--------------------------------------------------------------------------------

(1) من وحي القرآن ج13 ص 171.

(2) سورة ق الآية 22

(3) سورة المطففين الآية 14

(4) سورة الحج الآية 46

(5) سورة الليل الآية 5 ـ 7

(6) سورة العنكبوت الأية 69.

(7) سورة الصف الآية 5.

(8) بصائر الدرجات ص 377، الخصال ص 428، أمالي الطوسي ص 294.

من مصادر السُّنة: تفسير مجاهد ج1ص 342، تفسير الثورى ص 160، المعجم الأوسط ج 8 ص 23، جامع البيان ج 14ص 60، زاد المسير ج 4 ص 299، الدر المنثور ج 4 ص 103، تاريخ بغداد ج 3 ص 409، تاريخ مدينة دمشق ج 14 ص 67، فيض القدير شرح الجامع الصغير ج 1 ص 187.

(9) بصائر الدرجات ص374 إلى 377 و407، الكافي ج 1 ص 217 إلى 219، من لايحضره الفقيه ج 2 ص 589، الخصال ص 428، علل الشرائع ج 1ص173و235، عيون أخبار الرضا ج1 ص 215 وج 2ص 103، كمال الدين وتمام النعمة ص671، معاني الأخبار ص350، الارشاد ج 2ص 386، الاختصاص ص301 إلى 306، أمالي الطوسي ص 294، روضة الواعظين ص266، مناقب آل ابي طالب ج 3 ص 343 و344 و404 و437، مائة منقبة ص 24، الخرائج والجرائح ج 2ص 747، تفسير العياشي ج 2ص 247 إلى 249، تفسير القمي ج 1ص 377، تفسير فرات الكوفي ص 193و228 إلى 230، تفسير مجمع البيان ج 6 ص 126، تأويل الآيات ج1ص 250 إلى 251، التفسير الصافي ج 3 ص 118، تفسير نور الثقلين ج3 ص 22 – 24، مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي الزيدى المذهب ج 2 ص101 ـ 102 و538 و561

ومن مصادر أبناء السُّنة: شواهد التنزيل ج 1ص 418 إلى 423، تاريخ مدينة دمشق ج 45 ص 279

     

فهــرس الكتــاب

     

ضلال نت