الآية الثانية والستون قوله تعالى ‏{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنهُمْ مَن قَضَى ‏نَحْبَهُ وَمِنهُمْ مَن يَنْتَظِرُ‏ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}‏ سورة الأحزاب الآية 23‏

     

 قال المفسِّر المعاصر: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} فلم يكن عهدهم كلمةً في ‏اللسان، يمكن أن تنطلق من هنا لتتبخر في الهواء، فلا تثبت في موقع المعاناة، بل كان عهدهم ‏التزاماً في العقل والعاطفة والسلوك مما يتطابق فيه القول والفعل، فلا مجال لأية ثغرة فيما بينهما، ‏مما يمكن أن ينفذ إليه الباطل، {فَمِنهُمْ مَن قَضَى نَحْبَهُ} فمات في سبيل الله، فكانت نهايته في هذا ‏الموقع دلالة على صدقه {وَمِنهُمْ مَن يَنْتَظِرُ} الشهادة أو النصر في المعارك المقبلة التي ينتظرها ‏المجاهدون ليشاركوا فيها وليؤكدوا عهدهم لله في مواقعها(1).‏
أقول: ولكن بعد أن ورد في كتب أبناء السُّنة وفي روايتهم أنَّ الآية نزلت في أنس بن النضر(2)ـ ‏عم المنكِر لفضائل أمير المؤمنين(عليه السلام) أنس بن مالك ـ فلا أدري ما هو الوجه الذي دعا ‏هذا المعاصر إلى عدم التعرض لشأن نزول الآية في مَن يخصُّ سيدَ الخلق الرسولَ الأكرم (صلى ‏الله عليه وآله)، انتصاراً للحقِّ ولأهله.‏
فقد أخرج الحاكم الحسكاني ـ من أبناء السُّنة ـ في شواهد التنـزيل بإسناده عن أبي إسحاق عن ‏عليٍّ (عليه السلام) قال: فينا نزلت {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ...}، فأنا واللهِ المنتظرُ وما ‏بدَّلتُ تبديلاً.‏
وبإسناده عن الضحاك عن عبد الله بن عباس في قول الله تعالى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا ‏عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} يعني علياً وحمزة وجعفراً (عليهم السلام) {فَمِنهُمْ مَن قَضَى نَحْبَهُ} يعني حمزة ‏وجعفراً {وَمِنهُمْ مَن يَنْتَظِرُ} يعني علياً (عليه السلام)، كان ينتظر أجله والوفاء لله بالعهد والشهادة ‏في سبيل الله، فواللهِ لقد رُزِق الشهادة.‏
وقال القندوزي ـ من أبناء السُّنة ـ في ينابيع المودة: أخرج أبو نعيم الحافظ ـ من أبناء السُّنة ـ ‏عن ابن عباس وعن جعفر الصادق (عليه السلام) قالا: قال عليٌّ (عليه السلام): كنا عاهدنا الله ‏ورسوله (صلى الله عليه وآله)، أنا وحمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث، على أمر وَفَيْنَا به لله ‏ولرسوله (صلى الله عليه وآله)، فتقدمني أصحابي وخلفت بعدهم، فأنزل الله سبحانه فينا {رِجَالٌ ‏صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنهُمْ مَن قَضَى نَحْبَهُ} حمزة وجعفر وعبيد {وَمِنهُمْ مَن يَنْتَظِرُ وَمَا ‏بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} أنا المنتظرُ وما بدَّلتُ.‏
وقال القندوزي أيضاً: وفي الصواعق المحرقة لابن حجر ـ من أبناء السُّنة ـ أنَّ علياَ (عليه ‏السلام) سُئِل وهو على منبر الكوفة عن قوله تعالى {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنهُمْ مَن ‏قَضَى نَحْبَهُ وَمِنهُمْ مَن يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} فقال: اللهم اغفر لي، هذه الآية نزلت فيَّ، وفي ‏عمي حمزة، وفي ابن عمي عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فأما عبيدة فقضى نحبه شهيداً يوم ‏بدر، وأما حمزة قضى نحبه شهيداً يوم أُحُد، وأما أنا فأنتظرُ أشقى الأمة يخضب هذه من هذه ـ ‏وأشار بيده الى لحيته ورأسه ـ وقال (عليه السلام): عهد عهده اليَّ حبيبي أبو القاسم (صلى الله ‏عليه وآله).‏
وفي مناقب ابن شهرآشوب عن السدي ـ من أبناء السُّنة ـ قال: وقد ثبت أنَّ قوله {رِجَالٌ صَدَقُوا ‏مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ}، وقوله تعالى {وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ}(3) نزلتا في عليٍّ (عليه السلام).‏
وقال ابن جبر في نهج الإيمان: ذكر المفسِّرون العلماء أنَّ هذه الآية نزلت في حقِّ علي بن أبي ‏طالب وحمزة (عليهما السلام).‏
وأخرج الصَّدوق في الخصال، والمفيد في الاختصاص، ومحمد بن العباس في تفسيره، بإسنادهم ‏عن الحارث عن محمد بن الحنفية قال: أتى رأسُ اليهود عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) عند ‏منصرفه عن وقعة النهروان وهو جالس في مسجد الكوفة فقال: يا أمير المؤمنين إني أُريد أن ‏أسالك عن أشياء لا يعلمها إلا نبيٌّ أو وصيُّ نبي، قال (عليه السلام): سل عما بدا لك يا أخا ‏اليهود.... إلى أن قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ولقد كنتُ عاهدتُ اللهَ عزَّ وجل ورسولَه ‏‏(صلى الله عليه وآله) أنا وعمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة على أمر وَفَيْنَا به لله عزَّ ‏وجل ولرسوله (صلى الله عليه وآله)، فتقدمني أصحابي وتخلفتُ بعدهم لما أراد الله عزَّ وجل ‏فأنزل الله فينا {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنهُمْ مَن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنهُمْ مَن ‏يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}.‏
أقول: وأخرجه أيضاً الشيخ الصَّدوق في الخصال، والشيخ المفيد في الاختصاص بإسنادهما عن ‏أبي جعفر (عليه السلام)(4).‏

--------------
‏(1) من وحي القرآن ج 18 ص 286.‏
‏(2) فضائل الصحابة ص56 ؛ صحيح البخارى ج2 ص205 ؛ صحيح مسلم ج6 ص46 ؛ أسباب نزول الآيات ص 237 ـ 238 ؛ ‏تفسير القرطبي ج 14 ص 159.‏
‏(3) سورة الأعراف الآية 46 ‏
‏(4) دعائم الاسلام ج 2 ص 354 ؛ الخصال ص 376 ؛ شرح الأخبار ج 1 ص 353 ؛ الاختصاص ص 174 ؛ مناقب آل ابي طالب ‏ج 1 ص 304 وج 2 ص 288 ـ 289 و299 ؛ المزار لابن المشهدى ص 281 ؛ سعد السعود ص 122؛ المزار للشهيد الأول ص ‏‏87 ؛ الصراط المستقيم ج 1 ص 197 ـ 198 و256 و281 ؛ بحار الأنوار ج 20 ص232 وج 22ص 277 و24 ص30 و33 وج ‏‏31 ص 349 وج 33 ص 53 وج 35 ص 408 إلى410 و414 و417 - 419 وج 36 ص 103 و123 وج 38 ص 178 ‏و219 ؛ تفسير القمي ج1ص 307 وج2 ص 188ـ 189 ؛ التبيان ج 5 ص 318 وج 8 ص 329 ؛ تفسير مجمع البيان ج 5 ‏ص140 وج 8 ص 145 ؛ التفسير الصافي ج 4 ص 180 ـ 181 ؛ التفسير الأصفى ج 2 ص 988 ؛ تفسير نور الثقلين ج 4 ص ‏‏258 - 260 ؛ تفسير الميزان ج 16 ص 304 ؛ نهج الايمان ص 182 و514 ـ 515 ؛ كشف اليقين ص 371؛ تأويل الآيات ج 1 ‏ص 85 وج 2 ص 449 - 450 ؛ شواهد التنزيل ج 2 ص 5 - 6 ؛ ينابيع المودة ج 1 ص 285 وج 2 ص 421؛ المناقب ‏للخوارزمي ص 200 و279. ‏


     

فهــرس الكتــاب

     

ضلال نت